على أبواب عيدها الخامس والسبعين أطلقت فينا فيروز طيفها الجديد ''إيه في أمل''.. ذلك الطيف المليء بالحياة وحب الاستمرار، لكن هذه المرة تحت شمس مختلفة، شمس الريبة والشك، التي كلما نفذت إلى دواخلنا وأضاءت أطيافها زوايانا المظلمة أرعبتنا بسؤال الزمن.. لكن حتى وإن شعرنا بالغصة القوية في ألبوها الجديد، إلا أن الأسطورة تبقى هي هي، بصمتها المختلفة، تلك البهجة التي تنبعث من طفولتنا الدائمة في حضرتها، تلك البصمة التي تحرّك كل ساكن في الوجود وتمنحه أجنحة يطير عبرها ويختبئ بين شراشف أَسرتنا وفي كتبنا العتيقة، وعلى كراريس مراهقتنا ومرارة نضجنا.. بعد هذه المسيرة الحافلة ما زالت، نهاد حداد، وذلك الراوي الرهيب، المختبئ بين أنغامها يصنعان لونهما الفني الخاص، عبر مسرحيات غنائية مكتملة عمرها لا يزيد عن العشر دقائق، لكنها مثقلة بالحوارات القوية والصور المكثفة التي تبني ملاحم وعوالم سحرية من يومياتنا الروتينية وأدواتنا البسيطة، وهذا ربما ما يجعل بصمة فيروز هي البصمة الوحيدة في العالم التي تنبعث من بين متاهاتها المميزة رائحة نشتمها كلما سمعنا صوتها منبعثا عبر المذياع، رائحة شبيهة برائحة التراب عندما تلامسه حبات مطر الخريف الأولى بعد عطش الصيف المضني. في أغنية ''إيه في أمل'' تؤكد تلميذة الرحابنة التي تحوّلت إلى ملكة حقيقية في عالمها، تؤكد تلك العلاقة الوثيقة التي لطالما ربطت أغانيها بالطبيعة في مدرسة خاصة، جعلتنا نرى عبرها أشياء كثيرة وبسيطة بعين الروعة والانبهار، وإعادة تشكيلها وبعث جمالياتها التي حوّلها الروتين إلى عدم، ''عندي سنونو وفي عندي قرميد، بعرف شو يعني إذا أنت بعيد، بس حبيبي إحساسي ما عاد يرجعلي من جديد.. في أمل إيه في أمل''، ''رغم الزهر اللي متلي الحقول حبيبي تنرجع لا مش معقول.. في قدامي مكاتيب من سنين، فهقة ورد ومنتور وياسمين.. حبيبي ما عاد يلمسني الحنين''، وحدها فيروز قادرة على استعمال كل أدواتنا اليومية التي لا نعيرها كثير الاهتمام ''زهر، قرميد، قمح، ماء، فضاء، ريح..'' لتبوح لحبيب كان يوما عن مكنوناتها التي حوّلها الزمن إلى رماد ''في ماضي منيح بس مضى صفى بالريح بالفضاء وبيظل تذكر ع المشهد سار في خبز في ملح في رضى.. يومي ليل وبعدو نهار عمري قدامي انقضى، شوف القمح اللي بيطلع بالسهول.. شوف الميي الي بتنزل ع طول حبيبي إحساسي هالقد بيزول.'' مهما كان جديد فيروز، سيضيف إلى مسيرتها الفنية الحافلة الكثير من الأشياء، لكنه في الحقيقة لن يكون إلا امتدادا لتلك القوة التي صنعتها منذ أغانيها الأولى، التي رافقها فيها الرحابنة، زكي نصيف، جوزيف حرب، سعيد عقل... وغيرها من الأسماء التي صنعت حداثة نهاد حداد المبكرة، وحوّلتها إلى أسطورة حقيقية وهي تعيد البريق إلى كل شيء بسيط لا نستغني عنه أبدا لكننا لا نعيره أدنى اهتمام، بداية من ''المنديل''، انتهاء بالقمر الذي كان يضيء الكثير من أغانيها، وربما هذا ما جعل أغانيها تبقى ثابتة في الذاكرة ولا يمكن أن ننساها لأنها صور أو بالأحرى مسرحيات من يومياتنا، مثل أغنيتها الرائعة التي يحتفظ بها الجميع في ذاكرتهم منذ نشأتهم الأولى ''تك تك تك يا أم سليمان..'' التي غنتها في فيلم ''بنت الحارس'' وظلت واحدة من أشهر الصور الفنية المميزة في الذاكرة العربية التي تصف رحلة المزارع اليومية التي تنتهي بجني الخوخ والرمان''، وهي ليس الأغنية الوحيدة لفيروز التي تفرض على المخيال ''فيديو كليب'' وحتى رائحة خاصة كلما سمعناها، بل معظم أغاني فيروز هكذا، ''رجعت الشتوية''، ''يادار دوري فينا''، ''غالي الدهب'' و''كيفك''... وغيرها، وها هو ألبومها ''إيه في أمل'' جاء حاملا عطرا جديدا، مسرحيات قصيرة عنا ولنا، خصوصا أغنية ''الله كبير''، التي تعيد تشكيل لحظة بوح وصدق لابد أن يكون أي انسان قد مر بها ليسمعها اليوم وهي تتحول إلى عالم سحري ومبهر.