على فراشي الإرهاق ينهكني والكآبة تجتاحني واليأس يطوقني.. على فراشي أهتز وأنا أتفكك، الزمن ساح وغاب عني الأفق... ضاع ولم يعد أفقا.. على فراشي أعيد سماع الجنية في آخر ما غنت عقب وفاة حبيبها.. تهزني وأردد معها ''كي ندير للبي أنا ما قديتشي''، ''كي ندير يا حبابي أنا يا ربي صابني''، ''على سبابك راني نبات معذبة''، ''ما راه صاري فيا على خاطرك''، ''اللي بكيته دمعة ما نسمحش فيه''. هنا عند الهاوية وأمام أمواج ذاكرة تزيدني عذابا ويأسا، تتواصل آهات الجنية ''كي ندير'' إنه الضياع ''والله ما ننساك حتى نلحك''، ''ما نساتنيش القرعة يا الحباب في العزيز'' إنها سلطة الذاكرة وحضور الغائب، ''هاحي''، ''ها دبايلي''، ''كيتي وتبرادي''، ''آه ما راه صاري فيا، راني معذبة'' آهات، ''اع جبدو مني وماقديتشي''، ''اع جبدو مني وفيا يطعوا'' إحساس بالإقصاء. هي الجنية صوت الجرح الذي نبع من الأرض وانبعث من المراعي مشحونا بتغريبات الرحيل، صوت الفقدان يأتيني فقيرا لأنه قاسيا وفي فقره استغناء العبارة عن الاستعارات والتشبيهات، وفي قسوته حرمانه من الحميمي وتوقان ضمآن إلى الماء، الماء لإخضرار الأرض وخصوبة المرعى، هي الجنية باسم التخفي، الاسم الزئبقي واسم الرهبة من كائنات خفية مبهمة التفاصيل، والاسم من مسمى حياة اكتنفتها الطلاسم.. هي الجنية صرخة الجرح ومواجهة الذي لم يعد له ما يخسره، صرخة الذي علمته المحنة فجاءت ''لو كان عندي كاميرا نجيب خباركم''، ''لاعينها يصلوا وفي الليل يباتوا خباطين''. أسمع الجنية وأنا محاصر، مطوق ومغلول، أسمع إبراهيم الفقي في التلفزيون وما يدور في جلسات الصديق محمود بوزيد، ولكن كل الكلام الجميل لم يعد لي التوازن، منذ البدء وافقني الاختلال وارتبط بي.. محاصر معزول في فراش الهم... تمتد إشراقات فتجزرها إغراقات. محاصر أنا، النهار مخيف لأنني أفتقد الظل... محاصر أنا، الليل مرعب، ضجيج النهار يزيدني إرهاقا وصمت الليل يضاعف الكآبة. محاصر كسجين معزول محكوم عليه بالمؤبد، حكما يجعل الزمن يفتقد معناه، الوقت قوته الحب والبهاء والألفة، وأنا محروم من الري، أنا محاصر، أنا معزول... أقرأ الترابي وأرحل في سفره، في ما يقود لقراءة المحنة، محنة انفصال الرشاد عن السلطان، أقرأ سير المنفى لشرابي وإدوارد سعيد والقيسي والبرغوثي... وأتمزق، أتأمل مشهد نانسي عجرم وأستعيد الجنية، لكل لغته ولكل لغة شحنتها من الألغام. الليل يضاعف السقوط وتزداد الكآبة والصوت المجروح يمزقني، صوت الجنية، الجنية دال الخفاء والخوف والشغب والتمرد... الجنية صرخت ''كل شيء فايت يا الشمايت'' وجددت الصرخة ''لو كان عندي كاميرا نجيب خباركم''، الجنية صوت الخلخلة والصوت يهزني، والجسد المرهق يرتعش. الجنية تبكي حبيبها الذي رحل، وأنا دوما أبكي المنفصل عني، الغائب عني... من الصغر كنت أبكي الفراق وكانت تهزني أغنية غيوانية ''أنا راني مشيت، والديا وحبابي ما سخاو بيا''، وفي تلك السن تلبست بالرعب وتملكني الخوف فأصبحت أبكي دوما الدم النازف، دم الحياة، الدم الحاءات، حاء تروح وحاء تحل جيما والجنية ترافق ليل الهول. حاء الحب، الحنان، الحميمي، الحلم... تروح، حاء الحنين تحتد وحاء الحمم البركانية تستيقظ.. والجنية ترافقني ليلا والجنية جيم والجيم جحيم وجنون... والليل مرعب ورهيب واليأس يكبر والمدى ينسد والأحجار تحاصرني... والجسد يئن والروح تهتز والقلب مذبوح.. اليأس يكبر والمعنى يضيع وأنا في القاع.. اليأس يكبر وغياب الوصل يصلني بالفصل عن الحلول بحلة البواء... مفصول أنا. موصول بالفصل، مفصول عن الوصل، أجلس على خازوق، يلفني العراء ويملأني الفراغ... كل ما كان لم يتعد الوهم... فها هو يتبدد كالجليد عندما شعت الشمس التي عرتني وألبستني العراء... والصرخة تتوالى، تدخل أحشائي وتتملكها، صرخة الجنية ''كي ندير'' بعد ومع افتقاد الحبيب المواسي والطبيب المداوي، ''كي ندير'' والحالة مبهمة واللسان عاجز والقلب مصدوم والعقل حائر والذاكرة فجيعة والمخيلة رعب وهول، ''كي ندير'' وقد تبددت المعالم وضاعت الإشارات، ''كي ندير'' وأنا لم أعد إلا معتوها فقد الضبط وأنا حائر، حائر وصوت عبد الوهاب يأتيني: ''جايين الدنيا منعرفش ليه... ولا رايحيين فين ولا عايزين إيه... مشاوير مرسومة لخطاوينا.. نمشيها في غربة ليا لينا، مشاوير يوم تفرحنا ويوم تجرحنا وأحنا لا عارفين ليه.. زي ماجينا جينا ومش بأيدينا جينا''.. ضياع والصرخة ''كي ندير'' واللسان ''من غير ليه'' والصرخة ''اع جبدو مني وما قديتشي'' فقدت الطاقة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم: ''اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس'' لا حول ولا قوة إلا بالله... جسدي ينتحب، روحي تنتحب والمرثية هي حالتي والحالة تحلل... الجسد لا يطاوعني، يضعف وتخونني الخطى... الروح تائهة والقلب ينزف والجسد ينزف والجسد كأرض أنهكها الجفاف، الجسد يتشقق كتشقق الأرض البور... وأحن إلى سيدي الهواري، أحن إلى كل بقعة من شارع الحدائق إلى مونتا ومن رأس العين إلى قمة المرجاجو... أحن إلى ليالي ساحة الجوهرة وشارع الجزائر ونهج ستالينغراد، ليالي أمواج وأتمزق بتبدد الصور وانمحائها من ''بور ماند دي تون'' إلى ''مارشي نوار'' ومن جوار سيدي الغريب إلى ''لاربيبليك'' ومن ''السكاليرا'' إلى الدرب، صور تتموج، وجوه وأقنعة، سفافيد وسكاكين والليالي ليلة السكين الطويلة... الدم ينزف والإيقاع التيه والسقوط، ليالي مرت وتركت توقيعها. حلقات الجوهرة ومشاغبات كالملح للجماعة، لقاءات شارع الجزائر وستاليتغراد وليالي التموج ألما وأنا أبكي على وقع أغنية نصرو ''ملي محبوبة لبي راحت كرهت الدنيا واللي فيها''. الأغنية منبعثة من عرس بالحومة، وأنا متمزق بفجيعة الفصل ورضا يواسي ونحن نسير على طول النهج والألم فيّ، ألم يصاحبني منذ البدء، ألم الفصل... الفصل والخيبة وأنا أبكي يوميا باطنا، أبكي فكل أمر يحرك الوجع... أهرب إلى الأفلام والمسلسلات فتبكيني قصصها، أسمع الموسيقى والغناء فيزداد النحيب وأنا أجهش ''كي ندير'' النحيب يلاحقني والجرح ينزف وأنا لست أنا ولا أدري من أنا، أنايا نأت عني... الزمن لا يبالي بي والعمر ينقضي بلا معنى.. وأنا لست أنا بعد، الزمن يمضي والماضي لا يمضي والحاضر لا يحضر والمستقبل مغلول بالماضي وأنا لست أنا بعد، الزمن يمضي ونوعي من خبل، نوعا لا يتجنس ولا حد للمناطقة لكي يتحدد به وأنا لست أنا. ''كي ندير'' يأتيني صوت الجنية ''حوست اع البلدان ولقيت داري خيرلي'' فسيدي الهواري وشم الدهاليز وجمرتها، سفر الخروج عنه ومنه تيه في تضاريس التحلل بحمض عفنّ ماء الحياة وسمم دم الحراك، والتيه مركب، تيه عن الزمن وتيه عن المكان وتيه عن الجوهر وتيه عن الصورة، تيه مركب... الأنفاس تتراكض والدقات تتكثف والزمن يعطسني والمكان ينكرني والحفلة التنكرية تتوسع وصورها تتموج من نانسي عجرم و''آه ونص'' إلى باعة الأوثان، العراء يمتد ويجعلني أرتجف بصقيع العزلة وأتخبط بحرائق الحنين، تشردت كثيرا وفي تشردي أدركت كالجنية ''حوست عشرين دار ولقيت داري خيرلي''، إنني في شوق لرحم يحتويني، حضن يحتضنني... في شوق إلى العودة رضيعا يهدهده الهز ويلفه الحب، إنها فظيعة المسيرة، أريد أن أنسى... إنها فظيعة يا الجنية ''يا ليع بويا ما راه صاري فيه''، ''يا خلا دار ما ماراه صاري فيا'' الكآبة، اليأس يحاصرني وكل ما حولي يدعو للإنتحار، فلا معنى ولا نكهة وإنها فظيعة ضاعت الحدود ولم يهملني الزمن لكي أحيا ولو لحظات... إنها فظيعة فالذاكرة مأساوية والراهن مفجع والآتي مرعب، إنني مسكون بالخوف، وصلت إلى الضياع وأود النسيان وما أصبح يبدو مستحيلا... الرعب يزحف بدقاته المرعبة ولا شيء أصبح يطاق، محروم من كل شيء حتى من الحق في إحساس بالنشوة ولو لحظات... كلي نزيف... والحياة أصبحت حيات تلسعني في كل اللحظات... الخراب يرافقني كقرين والدمار يجتاحني، إجتياحا يجعلني أفهم الجنية لما تصرخ: ''مانيش منكم الله ينعل جدكم'' أنا من؟ لماذا و''كي ندير'' يا الجنية؟ الطعنات تتواصل والعزل يتأكد وأنا وحدي أصارع، ووحدي أحيا أهوالا، ووحدي لم أفهم نفسي و''اللي نديرو في قلبي يولي لي عدو'' آه يا الجنية لم يعد الأمان، أبكي عذابي ليلا وأمثل نهارا لمرواغته فيصرعني دوما وأبقى المنهزم... كم تبددني الوحدة، ''أنا راسي شاب، من المحنة طاحو ضروسها'' آه يا الجنية المحنة محنا، الروح ممحونة والحواس ممحونة والقلب ممحون والذاكرة محنة والعقل محنة وحياتي كلها محنة، والمحنة تصرخين يا الجنية ''أنا عينيا عمات، خويا كلاه القبر''... والغائب يؤجج جمرات الباطن، الباطن يطفو فيتماهى مع الظاهر....