قد تكون الجزائر البلد الوحيد الذي تتوقف فيه القوانين وتجمّد إلى حين انتهاء المناسبات ذات الطابع الاجتماعي والديني الجليل، إذ تسجل جداول الضرائب خلال فترة الأعياد والمناسبات أخفض المداخيل، فترى ضآلة في تسجيل المخالفات المرورية، وتوقيف كافة أوامر قطع الطاقات عن المنازل، حتى ولو كان أصحاب تلك الأوامر ممن لا يدفعون حق الدولة عليهم، وكذلك الأمر بالنسبة لقطاع التجارة، إذ تصوم مصالح الرقابة عن الرقابة، مخلفة وراءها جزائر غارقة في فوضى عارمة·· الأحياء تتحوّل إلى إسطبلات كلما حلت مناسبات عيد الأضحى، تظهر عيوب التجارة في العاصمة بل حتى في كثير بل أغلب المدن الجزائرية الكبرى، إذ تظهر المديريات المحلية وفروعها فاشلة تماما عن أداء مهمتها الرسمية، وهي تنظيم الأسواق ومراقبتها· وإذا كان للإدارة مبررها المتمثل في سريان المشاريع لخلق الأسواق، إلا أن هذا المبرر أصبح غير مجدٍ لسبب بسيط وهو أن العاصمة تعيش هذه الظاهرة منذ سنوات، ومن المفترض أن تكون تلك المشاريع المسجلة قد انتهت وتم تسليمها بكل المواصفات والتقديرات التي تجعل من الدراسات موافقة للتطور الديموغرافي والتوسع السكاني للمناطق· وبما أن الأمر كذلك، يجد الموالون وتجار المناسبات الذين هم خليط من البطالين وأصحاب التجارات المتحولة موسميا، يجدون ضالتهم في كل هذه الظروف التي تصنع الفوضى· ويكاد لا يوجد عبر أحياء العاصمة وبلدياتها الستة والعشرين، حي من الأحياء لا تفوح من أرجائه رائحة الكباش وروثهم الممزوج برائحة التبن المبلل بالبول، فتجد حتى من الناس البسطاء من ينخرط في هذه الحرفة المناسباتية، إذ يتم تخصيص مبلغ مالي بين أفراد العائلة الواحدة أو الإخوة أو أحدهم فقط من أجل شراء رؤوس من الماشية من أسواق الجملة خارج العاصمة وإعادة بيعها، كما هو الحال لعائلة ''م'' في باب الوادي التي اشترك ثلاثة إخوة في رأسمال رفضوا الإفصاح عن قيمته وتوجهوا رأسا إلى المسيلة وجلبوا معهم ما لا يقل عن 60 رأسا من الغنم، قد لا ينزل سعرها جامعة عن ال 120 مليون سنتيم· هؤلاء الأشقاء رغم عدم شرعية تجارتهم على خلفية أحد الأماكن العمومية المشتركة التي احتلوها عنوة ورغم أنف السكان، إلا أنهم يصنعون بهجة حيهم كل عام، إذ يكون غالبية زبائنهم من الحي نفسه الذي يقطنون به· ويقول ''وسيم'' أحد الأشقاء بأن الهدف في هذه التجارة ''عادة ما يكون في السبق الذي يحققونه بفتحهم لأول موقع في الحي لاستقطاب الزبائن، وهو ما يفوت الفرصة على الآخرين الذين عليهم أن يبحثوا بعيدا بعد أن تكون معظم العائلات قد حجزت مواشيها لدينا''· في باب الوادي دوما، قصة أخرى لأحد الشباب الذي وجدناه في مشادات كلامية مع مجموعة من السائقين، بسبب غلق إحدى الشاحنات التي كانت تزوده بالعلف لماشيته التي خصص لها أحد الأقبية في إحدى البنايات العتيقة· ويقول هذا الشاب الذي ألح على معرفة مهنتنا منذ أول الكلمات التي تبادلناها، إذ اختلط عليه الأمر لدقائق بين نسبنا إلى السلطات المحلية أو الصحافة، قبل أن نكشف له بأننا جئنا لنحقق حول ظروف بيع المواشي في هذه المناسبات· ويقول ''ح· م'' الذي كان يرتدي بدلة رياضية أنيقة وملمعا شعره ''بالجال'' مثلما يفعل كثير من الشباب، ولا يبدو عليه بتاتا أنه تاجر مواشي، يقول ''أعترف أنها تجارة موسمية وليست مطابقة للقوانين، لكن أنا أسألك ماذا فعلت لنا السلطات بالمقابل كي تجعل هذه التجارة شرعية وتمنح الفرصة للشباب لخلق مناصب شغل حتى ولو لم تكن دائمة''، ويضيف ''عندما لا يكون هناك تنظيم كل واحد منا تصبح له دولة في رأسه''· ويكشف ''ح· م'' بأن أحد المسؤولين المحليين أراد مساومته بورقة الطبيب البيطري التي تؤكد بأن المواشي التي يعرضها للبيع لا تشكل خطرا صحيا على المستهلكين، ويقول ''لقد طلبوا مني 5 آلاف دينار كي يسمحوا لي بمواصلة النشاط، لكنني رفضت ولن أدفع سنتيما واحدا، فطلبوا مني على خلفية ذلك أن أغلق بوابة المحل وأن أبيع بشكل مستتر''· ويقول هذا الأخير أيضا '' لا تظنوا أنه عمل سهل، فأنا أخاطر بحياتي وبمالي عندما أتسوق إلى خارج العاصمة، كما أن مخاطر موت الماشية مرتفعة النسبة، وإذا فقدت رأسا واحدا فقد أكون فقدت الفائدة المرجوة من كل هذا المجهود''· وإذا كان في قصة ''ح· م'' دليلا على تحرك السلطات المحلية سواء الإدارية أو المنتخبة في باب الوادي، فإن هذه التحركات تظهر أنها لا تأتي بأي نتيجة على الميدان ولا تمنع أو تردع هؤلاء الباعة الفوضويين، وأن الهدف الأول منها هو تبرير العمل فقط ولكي يقال بأنهم أدوا مهمتهم ''إذ يقول أحد سكان البنايات في حي ميرة ''شارع الكيلاوة'' كما كان معروفا في السابق بباب الوادي ما معنى أن يخرج مسؤولون إلى الحي ويطلبون توقيف وغلق هذا النوع من المحلات، ثم بمجرد مغادرتهم، تبقى الأمور على حالها؟''، ويقول هذا الأخير بأن تحرك هذه السلطات يكون دوما في إطار ذر الرماد في العيون· وما يؤكد تحليل هذا الأخير، هو تصريح أحد الذين التقينا بهم عند أحد بائع مواشي آخر في حي ميرة عبد الرحمان الذي اتخذ من أحد مواقع البنايات المهدمة في باب الوادي مركزا مهما لبيع المواشي في كامل باب الوادي، ويقول هذا المواطن بأن هؤلاء الباعة فرضوا أنفسهم فرضا على السلطات ''ومن يدري ربما هؤلاء المسؤولون يجدون في الباعة الفوضويين فضلا يغنيهم عن مطالبة رسمية بإنشاء مكان مخصص لبيع الماشية بمناسبة عيد الأضحى''· باب الوادي ليس الحي العتيق الوحيد الذي يعرف هذا النوع من التجارة، بل حتى في قلب ''جامع ليهود'' عمارة علي حاليا، الحي الذي لا يُتصور أبدا أن تجد فيه مثل هذه الأشياء، إلا أن الفضول جعلنا نتأكد من أن العاصمة وقعت منذ قرابة الشهر تحت سلطة ''كبش العيد''· في ''جامع ليهود'' لا تباع الأضحية فقط، بل إلى جانب العلامات الكبيرة للملابس وسوق الخضار والفواكه تجد طاولات القرط وحزماته الكبيرة، إذ لم يبدِ هؤلاء الباعة أي حساسية من وجودنا هناك، بل وتبادلوا معنا أطراف الحديث بشكل عادي حول المهنة، ويقول أحد الشباب الذي كلفه صديقه بالوقوف على ''السلعة'' كما يسمونها أو ''رأس المال'' بأن الجميع يعلم بأن العاصمة ضيقة في أزقتها ولا توجد أماكن كثيرة لمثل هذا النشاط ''كما لا يليق أن نخرج إلى مناطق بعيدة لبيع الماشية ما دمنا نستطيع تخصيص أماكن هنا نقترب بها من الحي ولا نكلّف أبناءه كثيرا للخروج بعيدا لشراء الأضحية''· محلات مهجورة وأسطح عمارات وأقبية تعج بالنشاط إن هذه التجارة أعادت الروح إلى كثير من المواقع والمحلات المهجورة التي لم تفتح أبوابها لسنوات، ومنها ما لم يفتح منذ الاستقلال ومنها ما كان مغلوقا بسبب خلافات حول الميراث أيضا مثلما لمسناه في الميدان بمنطقة باب الوادي، إذ تبدو بوابات المستودعات وحالة طلائها الذي يعود إلى الحقبة الاستعمارية، عادة ما تكون هذه المحلات مفعمة بالرطوبة التي تزيد من حدة رائحة روث الماشية، أعمدتها متآكلة من شدة الفطريات التي نتجت عن المناخ الداخلي المظلم الذي لا تصل إليه أشعة الشمس، وكثيرا ما تكون هذه المحلات عبارة عن تلك المرافق المشتركة بين سكان العمارة المخصصة لوضع الحاجيات المنزلية غير المرغوب فيها· أما الأرضية فهي معشوشبة ببقايا العشب الأصفر الذي يلتصق بكل جوانب الحذاء وأنت تسير بين رؤوس الماشية، كما تلتصق بك الرائحة حتى لو بقيت لبضع دقائق تفاوض البائع حول سعر الكبش· لم نصادف أي أحد من هؤلاء الباعة وهو داخل محله أو مستودعه، بل كل الذين التقينا بهم كانوا ممن يفضلون البقاء خارجا ولا يدخلون إلى محلاتهم إلا لإعطاء الأكل للخرفان، أو إذا فرض الزبون عليهم ذلك· أما أسعار الكراء وطرقها، فذلك من بين الأسرار الكبيرة التي يحتفظ بها هؤلاء ''المناسباتيون''· وعملا بمبدأ الغاية تبرر الوسيلة، فقد أشعلت هذه التجارة في حي بلكور حربا غير معلنة بين سكان إحدى العمارات بحي نصيرة نونو، وجارهم الذي قرر بيع المواشي فوق السطح، وهو ما تسبب في توافد أشخاص غرباء عن البناية وسوء العلاقة بين هذا الأخير وجيرانه، فضلا عن تحول تلك العمارة وكافة العمارات المشابهة لها إلى اسطبل حقيقي بسبب تناثر الحشائش وفضلات الكباش وانتشار الروائح الكريهة أمام ضيق قنوات التهوية وزيادة الحركة والنشاط في البناية· أسواق جديدة من طرف ''حكومة الموالين''!؟ في عين البنيان، الشراقة، القليعة وزرالدة تم احتلال مواقع ومساحات عمومية كبيرة جدا، وهذه المرة ليس من طرف أبناء المنطقة، بل من طرف الموالين وأباطرة الماشية الذين قدموا أساسا من الجلفة، تيارتوالمسيلة، حيث لا ترى على لوحات ترقيم مركباتهم سوى الأرقام الإدارية لهذه الولايات، إذ نصبوا زريبات بالقصدير وبقايا الخشب والأشجار ويبيتون منذ أيام طويلة في سياراتهم ويتسببون في غلق الكثير من الطرقات بتوافد الناس عليهم وتوقفهم بسياراتهم على جنبات الطرقات· لقد تحولت كثير من المساحات الزراعية والعمومية خارج العاصمة إلى أسواق حقيقية ليس بفعل تنفيذ برامج السلطات المركزية أو المحلية، بل بتنفيذ برنامج سنوي ترفضه حكومة فريدة من نوعها اسمها ''حكومة الموالين''· أوامر الوزير ورئيس البلدية في واد والواقع واد آخر كشف مستشار وزير التجارة فاروق طيفور في تصريح ل ''الجزائر نيوز''، أمس، بأن الوزير وجه تعليمات إلى مديريات التجارة من أجل تكثيف عمليات الرقابة على التجارة غير الشرعية في الآونة الأخيرة، فضلا عن تشكيل فرق مناوبة تعمل على مدار اليوم لوقف كافة أشكال التجارة غير الشرعية ''خاصة غير المصرح بها''، مضيفا بأن عمليات الغلق والحجز من اختصاص السلطات المحلية· وفي هذا الشأن، أكد كتو حسان، رئيس المجلس الشعبي البلدي في اتصال معه، أن مصالحه أرسلت إعذارات لكافة الذين أصبحوا يبيعون المواشي في ظروف فوضوية، مؤكدا بأن أعوان البلدية قاموا بعمل تحسيسي شفوي مع هؤلاء الباعة الفوضويين، ''لكنهم رفضوا الانصياع إلى الأوامر بالرغم من إبلاغنا إياهم أن البلدية خصصت مواقع من سوق سعيد تواتي لنشاطهم''، وأضاف رئيس البلدية بأن البلدية ستتحرك اليوم رفقة القوة العمومية لتنفيذ الغلق وحجز كافة المواشي عبر باب الوادي، ولما سألنا الرجل الأول في البلدية عن خلفية هذا التحرك الذي يأتي في ال48 ساعة الأخيرة فبيل عيد الأضحى، نفى كتو حسان أن تكون باب الوادي قد عرفت النشاط منذ مدة طويلة·