تعبت كثيرا قبل أن أصبح صديقا للصّحفي القدير، والمترجم الفذّ بشير هروم، وأتعب أكثر في محاولتي الفاشلة هذه، لأكون في مستوى الكتابة عنه، فهو بطبعه شخص انعزالي وناقم على العالم، ليس لكونه غير قابل للمعاشرة، بل لعجز الآخرين عن تشريف مقتضيات تلك الصداقة، والتحكّم في تقلّباتها، وتفهّم انشغاله الخطير باللّغة، وتحوّل مدلولات ألفاظها، وتتبّع سياقات استخداماتها الجديدة· ويشهد له المعجم الفرنسي ''لو بوتي روبير'' بإثرائه قاموس اللّغة الفرنسية بلفظين جديدين، لفظ أدبي وآخر تقني، كما يحفظ التاريخ مساهمته النوعية في ترجمة وثيقة ''معاهدة الصلح'' بين إيران والعراق في مارس .1975 لا أعرف كيف ألقت به الأقدار إلى وكالة الأنباء الجزائرية، ولا كيف انتهى به الأمر مسؤولا لمكتبها بولاية تبسة خلال نهاية ثمانينيات القرن الماضي، إلى أن تقاعد مرغما قبل بضع سنوات، بعد صراع مرير مع مرض السكري، ومسؤوليه المباشرين بالوكالة، في المكتب الجهويّ بمدينة باتنة· غير أن عودته إلى الجامعة في السنوات الأخيرة، أحيت فيه الرّغبة في الإستمرار، ونقل عدوى حبّ اللّغة والبحث فيها، إلى طلبته· أمّا الصحافة فقد طلّقها بالثلاث، ولا يرغب في الحديث عن السنوات التي أخذتها من عمره، بل إنّ ذلك يثير لديه القرف والإشمئزاز· توطّدت علاقتي بالسّي بشير في العام ,1994 وكنت وقتها أكتب ''رسالة تبسة'' لأسبوعية ''الوقت'' الصادرة عن مؤسّسة الوطن، وأحرص قبل أن أوافي رئيس التحرير بمقالتي، على زيارة بشير هروم بمكتبه، وأقرأ له ما كتبت، فينبهني أحيانا إلى بعض المطبّات، ويطلب مني أحيانا أخرى تغيير لفظ واستبداله بآخر أكثر دقة، وينبّهني في مناسبات عديدة إلى مواضيع كان يجدر بي أن أكتبها· وتعلّمت منه في ظرف قياسي ما لم تقدّمه لي الجامعة طيلة خمس سنوات· عندما زار الرئيس بوتفليقة ولاية تبسة خلال عهدته الأولى، عاش هروم مأساة مهنية حقيقية، وبحكم عمله بوكالة الأنباء الجزائرية، كان مطالبا ببرقية أولى يؤكد بها وصول الرئيس، دون الخوض في بقية التفاصيل· لكن مسؤولي الإعلام بالولاية كانوا يقولون له بأنّ المعلومات سيستقيها من الميدان، عندما يشرع الرئيس في تفقده للمشاريع ومعاينتها؛ فعاود طلبه بشكل آخر، وهو يتحدّث إلى مسؤول محليّ رفيع: إنّي أحمّلك مسؤولية ''وصل''، فبقدر ما تبدو لك هذه اللفظة حقيرة، فبدونها لا تستقيم هذه الزيارة الرئاسية، وقد أطرد من عملي بسبب أيّ تأخّر في إرسال برقية ''وصل''· أحد الصحفيين المحليين المتطفّلين على القطاع كان يزوره بمكتبه من حين إلى آخر، ويستقي أهم الأخبار لموافاة جريدته بها، ولمّا ضاق صدر هروم به، قرر عدم استقباله مجدّدا، فجاء الشخص غير المرغوب فيه، ودق على باب المكتب عدة مرات وبشكل فيه الكثير من الإصرار وقلة الذّوق، فلم يتحمّل هروم ذاك السلوك غير اللائق، فسأل من الطارق؟ أجابه الصحفي المتطفل: أنا فلان يا سي بشير، لماذا لا تريد أن تفتح الباب؟ أنا أعرف بأنّك داخل المكتب لأنّني لمحت سيارتك مركونة جنب الطريق·· إفتح يا سي بشير إفتح·· أريدك في أمر هام· فأجابه هروم بسخرية وعبثية: أنا لست هنا يا أخ·· لقد خرجت في نزهة ولا أعرف متى سأعود·· بل قد لا أعود أصلا إلى هذا المكان· المتطفّل لم يفهم الرسالة، وعلّق بالقول: لا تمزح يا سي بشير·· إفتح إفتح الباب من فضلك· ففتح له النافذة بدلا من الباب، وصرخ بأعلى صوته: لماذا لا تصدّقني يا أخ·· فأنا بشير هروم أؤكّد لك بالصّوت والصورة أنّني غير موجود حاليا، وأنت تصرّ على خلاف ذلك· هذا أمر مقرف· لا تأتي إلى هنا مرّة أخرى· مازلت أهاتفه إلى اليوم للإطمئنان على صحّته، وأطلب لقاءه أحيانا لما في مثل اللقاء به من متعة وسحر، وما يزال السي بشير وفيا لنظارات ''ريبان'' ذات الحجم الكبير والألوان غير التقليدية، كما لا يزال متشبتا بذوقه الستيني والسبعيني في اللّباس، لا يتنازل عن ربطات العنق الأنيقة، وساعة اليد لضبط مواقيت تدريسه بالجامعة أو للتحكم في مواعيده رغم قلتها·· وما يزال كما عرفته ناقما على الأوضاع، مفضلا العزلة والعيش بمفرده في شقّة متواضعة بتبسة لا يكاد يعرفها أحد غيره·