لم يعد أمام العقيد معمر القذافي أي خيار سوى مواصلة الحرب· دفعته إلى ذلك نوعية أخطائه التكتيكية التي ارتكبها في بداية الأحداث، عندما كان يعتقد أن مجرد اتهام القاعدة يكفي في تحييد الدول الغربية، وعندما أخلط في خطاباته بين نظام يحارب تمردا مسلحا وبين نظام يستعمل السلاح الحي ضد مظاهرات سلمية· وبعد ذلك تكفلت القنوات التلفزيونية بإكمال الصورة: طائرات تقصف المدنيين العزل، ومرتزقة يؤتى بهم من دول إفريقية مجاورة تصنع الموت والدمار، ومعارك طاحنة بين فريقين على امتداد مئات الكيلومترات من شرق ليبيا إلى غربها· والسؤال الذي لم تجب عنه لا الجزيرة ولا العربية ولا غيرها هو: كيف تطورت الوضعية بصورة سريعة ومفاجئة إلى حرب أهلية بين النظام ومعارضيه؟ إن مجرد طرح هذا السؤال يعطي للقذافي نوعا من المصداقية ويحتم قراءة وافية لمواقف كل الأطراف الدولية، ويفسر تردد الولاياتالمتحدة في التدخل العسكري المباشر، كما يفسر الصعوبة التي يجدها حلف الناتو في الوصول إلى إجماع بين مختلف أعضائه، وفي الحصول على موافقة روسيا والصين وموافقة مجلس الجامعة العربية· ولتجاوز منطق القذافي استعملت العديد من الحيل: منها أولا إحالة الملف بسرعة إلى محكمة الجنايات الدولية للتحقيق في احتمال ارتكاب النظام الليبي جرائم ضد الإنسانية· ومنها رفض الاقتراح الفينزويلي لوساطة تحاول الوصول إلى حل سلمي· وقد أدى ذلك إلى إغلاق الباب -نهائيا- أمام أي مخرج ''مشرف'' للعقيد· فما كان عليه سوى تصعيد الحرب إلى ذروتها· وعلى الرغم من محاولات النظام في التفاوض، ومحاولاته في البحث عن حلفاء في الخارج، كما فعل مع المسؤولين اليونانيين، ومحاولاته في إقناع وسائل الإعلام، من خلال لقاءات العقيد وأبنائه مع عدد من القنوات الغربية، وعلى الرغم من تقدمه العسكري في الميدان، فإن الدائرة الدولية ما تفتأ تضيق يوما بعد يوم، ولا تزال صورة الديكتاتور الذي يقمع شعبه بالحديد والنار هي سيدة الموقف· وفي الجهة المقابلة ترتسم أمامنا صورة جديدة لنظرية التدخل الأجنبي من حيث الجهة التي تصدرها· فلأول مرة، منذ الحرب العالمية الثانية، يتأكد تردد رئيس الولاياتالمتحدة بين أنصار التدخل العسكري الذين يحثونه على القيام به دون الالتفات إلى الشرعية الدولية، تماما كما فعل في العراق، بحجة أن ''خرق القانون الدولي من أجل السلم عملية من الشرعية بمكان''، وبين فريق يقول، كما جاء على لسان وزير الدفاع الأمريكي، روبير غايتس: ''إن الذين يدعوننا إلى التدخل في شؤون بلد مسلم عليهم أن يراجعوا حالتهم الذهنية''· وقد لجأ الأمريكيون، الفريق الحذر على الأقل، إلى مجموعة من التعلات لم يصدقها أحد، ومنها أن حظرا جويا على ليبيا يستلزم هجوما بريا، ومنها أن الدفاعات الأرضية الليبية قوية جدا وهي تمثل أكبر قوة دفاعية أرضية في الشرق الأوسط بعد مصر، ومنها أن الولاياتالمتحدة لا تستطيع تنفيذ المهمة لوحدها، وأن فرنسا وإيطاليا أكثر قدرة منها على ذلك بحكم الجغرافيا·· إنها المرة الأولى التي يمارس فيها ضغط غير مسبوق على الولاياتالمتحدة من أجل تدخل عسكري· ومن الأطلسيين من يعتقد أن تدخل الحلف في الشأن الليبي فرصة لإنقاذ مصداقيته بعد الفشل الذي مني به في الكوسوفو وأفغانستان وفي أماكن أخرى· بمعنى أن التدخل هذه المرة ضرورة استراتيجية وليس فقط مهمة إنسانية· ومن التطورات الجديدة -أيضا- ما أعلنه رئيس الوزراء الفرنسي، الدولة التي رفضت رفضا قاطعا تزكية الحملة الأمريكية على العراق، اقترح القيام بضربات تكتيكية محدودة ضد مجموعة من الأهداف الليبية، بعد أن أعلن عن اعترافه بالمجلس الأعلى الانتقالي واستقبل رجلين من ممثليه· ما هو الدافع الفرنسي؟ ما الذي دفع ساركوزي إلى هذا التصرف المنفرد؟ لعل الأمر يتعلق بالأجندة الخاصة للرئيس الفرنسي وهو يواجه معارضة داخلية شرسة قبل الانتخابات الرئاسية· معارضة اتخذت من السياسة الخارجية مادة لها· وعندما جاء آلان جوبي إلى وزارة الخارجية أراد أن يستدرك ما فاته مع أحداث تونس، وأن يستبق الأمريكيين· ولكن بين هذه التصريحات وبين أن تقوم فرنسا بمفردها، ودون تكليف أممي، ودون إجماع داخل الاتحاد الأوروبي، بتدخل عسكري في ليبيا، بين هذا وذاك مساحة كبيرة جدا لا نعتقد أن فرنسا قادرة عليها ولا مستعدة لها· ولا تنتهي الطرافة عند هذا الحد، يعني حد تغير الصورة الغربية، بل تتعداه إلى المواقف العربية، بين موقف مجلس الجامعة العربية ضد أي نوع من أنواع التدخل الأجنبي، يضاف إليها مواقف عدد من الدول العربية، مثل سوريا والجزائر، وبين موقف دول الخليج العربي وهي تطالب صراحة بالتدخل العسكري الأمريكي ضد معمر القذافي· ولم يكتف مجلس التعاون الخليجي بطلب هذا التدخل في السر، كما فعل مع عراق صدام، بل انتقل، هذه المرة، إلى الإعلان صراحة على رأيه في القذافي وحكمه· والذي يبدو لنا، من خلال هذا المشهد، أن كلمة المأزق هي المفتاح الذي يمكنه أن يفسر طبيعة الوضع· القذافي في مأزق·· للحلف الأطلسي مأزقه، وللولايات المتحدة مأزقها·· ناهيك عن مأزق الاتحاد الأوروبي·