حين تتدخل السياسة في عمل القضاء نصبح أمام كارثة حقيقية، وحين يتدخل القضاء في السياسة نصبح أمام كارثة أكبر· صحيح أن القضاء المصري لعب أدواراً سياسية كثيرة في عهد مبارك، فكان يقرر، بدلاً من الناس، إذا كان هذا الحزب له حق الحصول على رخصة قانونية أم لا، وفق مجموعة من القيود سيئة السمعة (مثل أن يكون برنامجه مختلفا عن باقي الأحزاب وغيرها)، وقُدمت أمام مجلس الدولة العشرات من القضايا ليُفتى ويُحكم فيها بدلا من برلمان ورئيس منتخبين بشكل حر وديمقراطي، ومع ذلك ظل - هناك - غالبية من القضاة محافظين بشرف على النزاهة والاستقلال رغم عصا المعز وذهبه· ولعل القرار الصادم الذي أصدرته محكمة استئناف القاهرة للأمور المستعجلة بإعادة صور وأسماء حسني مبارك إلى الشوارع والميادين العامة يدل على أن معنى الثورة على حاكم فاسد ومستبد قهر الشعب المصري ثلاثين عاما لم يصل إلى بعض دوائر القضاء (كما عبّر المستشار زكريا عبدالعزيز بقوله: الثورة لم تصل بعد للقضاء)، وأن النظر إلى رمزية مبارك باعتبارها قضية جزئية يحلها القانون وليس السياسة أمر كارثي لا يجب قبوله· ففي كل بلاد العالم حين يثور الشعب على حاكم أضر بمصالحه ومارس فسادا واستبداداً يجب أن يختفى اسمه من الشوارع والميادين والمنشآت، وليس من كتب التاريخ، كما يتصور البعض، فأي حاكم أسقطه شعبه يجب ألا يكون لاسمه أثر في الشوارع والميادين، إلا إذا كان البعض لايزال مصرا على الاستمرار في إهانة الشعب المصري، كما كان يفعل الرئيس المخلوع· والغريب أن المحكمة حوّلت الموضوع إلى محكمة القضاء الإداري لتحسم في أمر هذا الحكم، وهو بالتأكيد ليس من اختصاصها ولا وظيفتها، أن تحكم على ثورة قام بها الناس· فحين يقرر الشعب المصري أن يسقط مبارك بعد ثلاثين عاما من الظلم والاستبداد فلا مكان لاسمه على الميادين التي ملأها بصوره وصور زوجته ونجله، ولا مكان لاسمه الذي وُضع على أكاديميات الشرطة فحولها إلى أدوات لقهر الشعب المصري وظلمه، ولا على مراكز البحث العلمى التي تحوّلت إلى مؤسسات حكومية فاشلة تكتظ بالموظفين لا العلماء· لا أتخيل أن هناك بلداً في العالم خلع الشعب رئيسه ورموز نظامه بثورة شعبية كبرى، ويأتى جهازه القضائي ويعتبر هذا القرار لا قيمة له، ويقول له: سنحتفظ بأسماء الرجل الذى خلعتموه دون أي تغيير· ليست وظيفة القضاء أن يقرر للشعب المصري إذا كان من حقه أن يُبقي على صور مبارك أم لا، ويجب ألا نقبل أن تُحوّل قضية حسمها الشعب إلى محكمة القضاء الإداري، فليست وظيفتها أن تقول لنا إذا كانت 71 يناير ثورة أم لا، أو أن تختار للشعب المصري نظامه وخطواته السياسية، إنما فقط تنفيذ أحكام الدستور والقانون الذي وضعه الشعب· على السلطة القضائية أن تبدأ في إصلاح بيتها من الداخل أولاً، وأن تستلهم تجربة قضاتها المستقلين، فكما يجب أن نرفض بشدة أي ضغوط قد يمارسها الشارع لفرض أحكام بعينها على القضاء، يجب أيضا ألا نقبل أن يقرر القضاء للناس ما يجب أن يفعلوه بعد أن قالوا كلمتهم وحسموا أمرهم بالنسبة لمبارك وعهده·