الطريق معبدة جدا، ومع الأصدقاء تصبح مضيئة بالإحالات المعرفية الدالة على إرثنا· لم تكن الزيارة بذلك الثراء لولا الحضور البهي للسكان وترحابهم، تلك الميزة التي انمحت في مدننا الملعونة التي أصبحت تتيمّم بالأموال وتحجّ إلى الجيوب والإسمنت، المدن التي فقدت الرحمة وهوت إلى البطن، من ألفها إلى يائها، إلى مستقبلها، إن كان لها مستقبل· كانت وجهتنا مدينة القنادسة (دخلها الفرنسيون عام 1903)، غير بعيد عن بشار التي بدأت تفقد تدريجيا هويتها العمرانية، بفعل اعتداء بنايات مشوهة على حرمة الصحراء وهدوئها القديم· وكان ذلك مؤلما· لقد أصبح العمران فوضى مبرمجة ومقننة، وغاب الحس الجمالي في وقت يتحكم فيه منطق ''الشكارة''، لا غير· على اليسار الطريق إلى تاغيت وعبادلة، وإلى تيميمون وأدرار، وعلى الحواف كثبان مهاجرة وصخور مجوّفة مرتبة بإحكام: الطبيعة تشتغل جيدا، بلا ميزانية، وخارج الاجتماعات· وكانت هناك سكنات متشردة، بعضها تقليدي وبعضها نشاز، شيء يشبه ما لا يمكن تحديده· وكانت هناك مستثمرات فلاحية مراهقة قادمة إلى الدنيا متوجسة: نخيل وزيتون وقصب، سعادات خضراء على جبين الرمل· ثم الزاوية الزيانية بالقنادسة· لا أحد يعرف من أين نبع هذا الإسم· هل جاء فعلا من قندس الدّال على اتخاذ زاوية من أجل العبادة؟ ذاك تأويل متداول في الجهة· كانت تسمى فجّ الريح، ثم العوينة في مرحلة ثانية (1242)، ثم عرفت بهذا الإسم مع مجيء سيدي محمد بوزيان (من مواليد تاغيت)، أي مع قدوم المرابطين· تقوم القنادسة على عمودين: المدينة القديمة وأساسها الزاوية الزيانية، والمدينة الأوربية التي تؤسس على الاستغلال الاقتصادي، وهو التقسيم المتواتر في الحديث والذاكرة، وربما الحلم، لأن الواقع خلط ملط· لقد استوت الأشياء واختلط الحابل بالنابل، ولم تبق سوى المكابرة وبعض الجهود المخلصة من أجل الحفاظ على ذاكرة العمران والمكان في الممارسات المفترسة· تتوسط زاوية القنادسة القصر القديم الذي بني حولها، وهي مبنية على الطريقة التقليدية: طوب وحجر، ومسقوفة بالقصب أو الدفلى، لأن المادة الأخيرة مرّة ولا تأكلها الحشرات، وللجريد دوره كذلك· لقد ظلت النخلة عمّة حقيقية منذ قرون، وسخية دائما، سخية وهادئة كالأنبياء، وتعاليمهم وكالفراشات التي ملأت بها روحي وأرصدتي· أخبرنا الدكتور محمد تحريشي، رئيس جمعية الزاوية الزيانية، أنها تتميز بطبيعة الأقواس وعددها الذي تجاوز العشرة، وكل قوس له مسوغاته، أما الباب الخفيض الذي يجعلك تحني قامتك فيدل على قداسة المكان وهيبته، لذا لا يمكن ولوجه إلا مطأطئ الرأس، احتراما وتحية له· أما التأويل الآخر فيركّز على التهوية، من المنظور الهندسي، على شاكلة ما رأيته في بعض عمران الأجداد، عربيا كان أم بربريا، قبل أن تعمّ الفوضى الحالية التي لا أساس لها ولا رأس ولا مرجعية ولا معنى، قبل هذا الخراب الفظيع الذي لا يمكن إصلاحه إلا بتخريبه جذريا احتراما للمعاني وللجمال وللحمولة المعرفية وللحضارة· عليك أن تجلس في الزاوية كما فعل الأوائل· ثمة أفرشة أصيلة ووسادات وشاي وفستق، ذاك بعض ما بقي من شخصية الجنوب، ثم الأحاديث والحلقات التي توارثتها الأجيال بعفوية، وبقناعة أحيانا· على الجدران المقابلة، كما على الأبواب شعار الزاوية الزيانية: العافية الباقية، ولا غالب إلا الله، العبارتان المتواترتان في الجهة، منقوشتان في الجبس أو مكتوبتان حيث يمّمت، لكنهما لازمتان لا يمكن تجاوزهما· ما زالت الصحراء بخير إذن، ولا داعي للشرح· قدّم الدكتور محمد تحريشي للحضور شروحات مسهبة ودقيقة· من هنا مرّت عدّة شخصيات بارزة: مؤرخون وكتاب ومحاربون وسياسيون ومثقفون، لقد كان الحيّز ممتلئا بالتاريخ، شكلا ودلالة، وإحالة على الجانب الديني بالدّرجة الأولى· تنسب الزاوية إلى سيدي محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي زيان بن عبد الرحمن بن أحمد بن عثمان بن مسعود بن سيدي عبد الله الغزواني بن سعيد بن موسى بن مولاي عبد السلام بن مشيش بن أبي بكر بن علي بن حرمة بن عيسى بن سليمان بن مزوار بن علي بن محمد بن مولاي إدريس الأزهر بن إدريس الأكبر بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن سيدنا علي بن أبي طالب من سيدة نساء أهل الجنة السيدة فاطمة الزهراء بنت سيدنا محمد (صلعم)· أثبت هذه الشجرة سيدي محمد المصطفى بن الحاج البشير القندوسي في مخطوطه ''طهارة الأنفاس'' الذي ألّفه في مناقب شيوخ الطريقة الزيانية الشاذلية بالقنادسة، وقد ذكر فيه سيدي محمد بن عبد الرحمن (1652-1732)· ويبدو أن الشيخ كان محل اهتمام العلماء وطلاب العلم· يقول تلميذه الفاسي الشريف إدريس بن محمد المنجرة الكبير (المتوفى عام 1724) في مخطوطه ''عذب الموارد'' (المكتبة الوطنية بالرباط، رقم د· 1838)، بعد زيارة القنادسة في حدود عام ,1722 في حديثه عن شيوخه: ''ومنهم الشيخ الفقيه الإمام أبو الإقبال الحاج الأبر صاحب الكرامات سيدي محمد بن عبد الرحمن بن أبي زيان المراكشي نزيل الصحراء قبل جبل بشار· له أحوال وكرامات يبوح بها ويفشيها ويحب ذكرها وله حال في التصريف· لقيته ببلده واستفدت منه ولقنني وواعدني وصرّح لي بما أرجو الله في حصوله وأكثر··''· أصبحت الزاوية اليوم قبلة للمهتمين بالتراث ومختلف النشاطات التي تقام دوريا، وفي المناسبات الدينية، أي أنها مركز إشعاع يجمع السكان والمهتمين بالشأنين الثقافي والتراثي· لقد عملت الجمعية منذ تأسيسها على جمع المخطوطات النادرة التي تمّ ترتيبها في الطابق الأول بمحاذاة الأواني القديمة، وهي كثيرة ومتنوعة: الذرر النفيسة في ذكر جملة من حياة الشيخ سيدي أحمد بن موسى للشيخ مولاي التهامي غياري (مؤسس الزاوية الموساوية)، تاريخ الشيخ بن عبد الكريم المغيلي وشجرته للطيب بن عبد الله بن سالم بن عبد الله البلبالي، الياقوتة لسيدي عبد القادر بن محمد المتوفى سنة 1025ه، مخطوط أبي سالم عبد الله بن محمد بيرك، محمد رشد، مارتن إيدموند قوفيون، محمد ولد الشيخ (محمد بن آغا شيخ بن عبد الله 1906-1938م الذي يعتبره بعض القنادسة أول من كتب الرواية في الجزائر، ويعدّ نصّه الموسوم: مريم في النخيل، تجربة رائدة وهو نص مكتوب باللغة الفرنسية)· وفي بهو الطابق الأرضي صور وشهادات: الجنرال دو كولمب (1823-1902) الذي أطلق اسمه على المدينة من قبل الفرنسيين تقديرا لخدماته الجليلة، إيزابيل إبهارت ''سي محمود''، الكاتبة المعروفة التي عاشت متنكرة في ناحية عين الصفراء (1877-1904)، ويعتقد أنها عاشت ثلاثة شهور في القنادسة· وإذا كان لوسي هوبار ليوتاي هو الذي أرسلها، في الاعتقاد الشائع، فمعنى ذلك أنها لم تكن كاتبة فحسب، بل أنها لعبت دورا ما مع الأجهزة العسكرية، بيد أن هذا مجرد تخمين، فرضية تدفعنا، ولو من باب الفضول إلى البحث عن حقيقة هذه المرأة التي تخلّت عن أوربا لتعيش في قيظ الرمل ومدّه· ويمكننا أن نقرأ هذه الرسالة التي كتبها الماريشال لوي هوبار ليونتي (1854-1934) لمعرفة استراتيجية المستعمر وطريقة تفكيره: ''إنّ إقامتكم في غرب جبل بشار لا تتمثل فقط في احتلال نقطة في الخارطة، ولكن في احتلال منطقة· الأمر لا يتعلق بزرع مركز عسكري، بل بمركز عمل وتأثير· يجب أن تشعر المنطقة كلها قريبا بأنها بين أيدينا، ماديا ومعنويا''· ماديا ومعنويا: خلاصة معبّرة عن كل ما حدث ويحدث حاليا، دون أن نستفيد كثيرا من هذا الدرس التاريخي المرعب الذي يلخص وضعنا ومرجعيتنا وتذبذبنا وانتماءنا الفعلي· خرجت من الزاوية رفقة فراشات الخالق مجتمعة: الصلاة هناك شيء آخر، إحساس غريب بالحلول في الزمن والمساحة، بعيدا جدا عن اعتداءات الإسمنت التي تخيلتها إساءة إلى الذات الإلهية، إفتراسا علينا لذاكرة العمران الذي كان ينبض معرفة وحياء· يجب أن نعتذر للرمل وللأجداد الذين عاشوا هناك وتركوا لنا علامات نتكئ عليها لنعرف من نحن، حتى لا نسيخ أو نهيم على وجوهنا في أرض الربّ، بلا أعين و بلا بوصلة، مثل سحاب الصيف الذي لا يعرف وجهته ومعناه ووظيفته· وقبل هذا أو بعده، علينا أن نعيد تأثيث الذاكرة بتاريخنا علّنا نبرأ من التيه، ثمّة دائما في هذا الوطن ما يدعو إلى البهجة والتفاؤل، بعيدا جدا عن أموال الحرام ومحدودية النظر إلى الراهن وإلى الأفق، بعيدا جدا عن الجامعات الموبوءة التي لا تنتج سوى الوباء والنميمة، بعيدا جدا عن السياسة الجائعة كفأر الكنيسة، وقريبا من زاوية مثل زاوية القنادسة حيث يتلألأ الماضي وامتداداته، وحيث يترقرق شلال الدلالات: دلالاتنا·