نسمع الشيء الكثير ونقرأ عن هذه البلاد المشغولة بنفسها فيما تشغل العالم أكثر، تشغل مخيلته السياسية، تشغل مشاعره الدينية، وتشغل فنونه الدبلوماسية، إن الشيء الكثير الذي يسمع عن إيران ويقرأ عن طهران يمكن توصيفه بأوصاف عديدة ومتباينة، الملوحة، الهجانة، القتامة، الفسيفسائية، الالتباس، بين جذب الديني ونزوع السياسي، تتأرجح إيران الفارسية، الحضارية، العلوية، الخمينية، الخاتمية، النجادية، إنها هكذا دائما متأرجحة بين شاهتشاهية غير مأمونة عاشتها قبلا وبين خمينية غيرت دفة اتجاه ريحها وخلخلت سياسات الجيران والعالم وعلى الرغم من الجدل الذي أحدثته الثورة في إيران وما جاورها /العراق، السعودية، الإمارات، تركيا/، وكذالك على مستوى الغرب لكن الخمينية استمرت في اجتياز مخاطرها ومطاردة الساحرات كما يعبر بذالك الأمريكيون، على خلفية منازعات تاريخية ظلت باقية إلى عهد متقدم وأقصد عهد أحمدي نجاد ، مع موسوي، يبدو أن الفكر الانتصاروي المحافظ الذي لازال يوجه طهران وأن النقاشات حول ولاية الفقيه لن يستطيع مريدو الإمام النائيني حسمها ولا من رافقوا رؤيته من أمثال آية الله طالقاني ومحمد جواد مغنية وعلي شريعتي وعبد الكريم سروش، أي من يعملون من الداخل لتفكيك ، الكلياتية الفقهية ووضع إيران الفارسية المشبعة بانوار الشيرلزي وعمر الخيام وجلال الدين الرومي وضعها في سكة العقل دونما تلفيقية نظرية تسوق وقت الأزمات، لقد عجت إيران بالاصطدامات والنيران وبالطبيعة الراديكالية بدءا وتمثيلا بالبهلوية والشاهنشاهية وصولا عند الخمينية والخاتمية، لقد كان مسار خاتمي هو الأجود لإيران والأنفع في عالم يمور بالديمقراطيات، ويتلون بالحريات وبالمجتمع المدني وبالأفكار المبدعة، خاتمي كان رجل ثقافة ووعي مديني ويتخلق بأخلاق المدينة المعاصرة وهو القائل /ليست الليبرالية مذهبا خالصا وخيارا أخيرا غير أن الحرية هي ما يقي من الوقوع في الفاشية/، في الحالة الطهرانية تكون الفاشية هي ولاية الفقيه والملالي وآيات الله المتخرجين من الحوزات المدعومين برجال السوق وأنبياء البازار وما جرى في إيران مؤخرا متأثر جدا بمقولة خاتمي عاكسة إيران المرتدة، إيران غير الثقافية، إيران التي أبت أن لا تسكر بانخاب جديدة وتسمح لسمائها أن يشقها قمر جديد يضيء في عتمتها الداجية وينتشلها من أرض قديمة انطحنت واغبرت وفاتها البذار والثمر والزهرات وتواشيح حافظ الشيرازي والطوسي والسهروردي··· لا أحكي سياسة إيران ولا مذاهبها في الحكم والمعارضة، كما لا أحكي قوانينها وأعرافها وغرامها بالتشيع والصفوية، فذلك ما يشكل سحرها ومخيال المنسحرين بها ويجعلها مستقواة بماضيها الأثيل وحاضرها الدينامي ومستقبلها النووي، أي هذه البلاد التي لا تسدل الجفن على الفراغ وتنام قنوعة بما يقسمه لها الغرب، الغرب الذي يريد أن يبتزها بشعاراته وتريد هي أن تبتزه بالثورة، والأيديولوجية الدينية وصخب الرعاع الذين ساروا في مسيرة الإمام الخميني وقد كان مصدر سعادة المحرومين، كل محرومي الجمهورية الإسلامية، لا أحكي كثيرا بنيتها المحكمة والعصية على غير المطلع، فمجددا هي لا تظهر إلا بهذين الوجهين غير المتوائمين وطريفة هي حتى في الدرجة التي يمكن الزعم أن الفقهاء هم من سيحاكمونها، إذ أن لها تشكيلات متباينة ورؤى موصوفة بالزئبقية والتمذهب الذي يتجاوز الثنائيات، فجماعة /روحانيت/ أو / الروحانيون/ هم أيضا علماء دين يقتربون من اليسار الإسلامي أو لهم توجه الحركة الإسلامية التقدمية تلك يتواجد أشتات منها في تونس ولبنان وسوريا وكذالك الشيء نفسه يذكر عن منظمة مجاهدي الثورة وهم نخبة الكوادر الدينية التي لم تكترث بمقادير التحصيل الديني، الشرعوي وهكذا دواليك يحصل التناقض الموار الساخط والمنادي بتغيير ما يجب داخل الراديكالية الباسطة بالكف والذراع على إيران الفيلسوفة والمنطقية والحضارية والدينية· هذا التنافر المحبب بين الديني والسياسي في الساحة يثير الشغف في البحث، فأنت اليوم حتى إذا تحدثت عن الرافضين لاستمرارية الخمينية فان الغرابة ستظل مرافقة لأي رؤية غير عميقة ولا تنهل من إيران كتاريخ وكحضارة وكفتنة وكثورة وكعلمانية، أود أقول أن الديني في هذا البلد الرائع، المغامر والجري دائما، لا صلة له بالراديكالية الإسلامية الكلاسيكية التي انتشرت في الوطن العربي منذ الستينات، لي أن أذكر أن شريعتي، وقبله جلال آل أحمد ومهدي بازركان، وإحسان نزعي، وصولا عند عطاء الله مهاجراني ومحمد خاتمي وغلام حسن كرباستشي، أي هؤلاء المثقفون المنشقون عن الفضاء الديني ويكونون قد مروا على الحوزة الدينية في قم كما يكونون قدموا الدروس والمواعظ في الحسينيات وأندية الترشيد غير أنهم يحوزون على روح تسامحية كبيرة وفكر نير وميل طاغ إلى انتزاع أو التحجيم من ولاية الفقيه وهي ليست مفارقة البتة عكسا عن ذالك وجود المثقف الديني المستنير الذي ينهض من ثقافات إنسانية مختلفة وينبثق من معارف عدة، ويجول بين جسور الفلسفة وحقول المنطق والرياضيات والفلسفة والهندسة والفيزياء، يحدث كخصوصية إيرانية نادرة المثال ولا تنوجد لا في مصر ولا في باكستان، ففي مصر لم تستطع الطبقات الدينية أو المنفصلة عنه ، مؤسسة الأزهر، جبهة علماء الأزهر حركة الإخوان المسلمين، حزب العمل، حزب الوسط، أهل الدعوة المستقلينن كل هؤلاء لم يتجاسروا على خلق مثقف إسلامي ديني، علماني رغم وجود حالة فريدة وسبق لها أن دافعت عن الثورة الإسلامية وعن الخميني وهو حسن حنفي إلا أن حسن حنفي تجاوزته الأحداث السياسية المصرية وسقط منظر اليسارية الإسلامية ومؤلف علم الاستغراب في النسيان المؤلم، كذالك المثال الباكستاني فلقد عرفت فيلسوفا كمحمد إقبال وندروجودة في التجديد الديني، كما عرفت أبو الأعلى المودودي، الاسم التاريخي المفصلي الذي تتأسس عليه الكثير من الخطابات الجذرية الإسلامية كما نظرياته في التشريع الإسلامي والحاكمية وولاية المرأة وهو نفسه فيلسوف الحركة الإسلامية في السبعينات والثمانينات والذي كان له التأثير البالغ على الخميني، لكن باكستان لم تعرف إلا كوكبة من المفكرين الحداثيين، والنهضويين ممن درس معظمهم في بريطانيا كفضل الرحمن وإقبال أحمد وبرفيز منظور، على ذالك استفردت إيران بفضائل الجدل وخطابات الغرابة، وتلوينات مميزة على حياة سياسية ودينية وفكرية وثقافية فيها حراك واضطرابات وفيها إلهامات وتطلع لكل من يفكر فيها ويتأمل سير وسر حيويتها التي لا تتوقف ولا يهدأ روعها وترويعها إذ أنها دائما تحت زووم الملاحظة وعدسة المتابعين كما أنها في اللاشعور السياسي لرؤساء أمريكا والغرب مثلما يحلم الصحافيون وأهل الكتاب والشعر زيارتها وتشمم العبق المنبعث من سجادتها وزمردها نقاش في داخلها مستمر، نقاش خارجها مستمر كذالك وهويتها والموقع العلماني على أرضها هو ما يؤكد طرحه النخبة وجماعات المثقفين، ثم الطرقة الممكنة للإبقاء على الزخم الإصلاحي يلاحق مؤسسات الثورة ويجري عليها المغالبات الضرورية· إن الإصلاحيين في إيران محملين بالثقافة النوعية، ولغة الانخراط الفاعل مع الآخر وتجنب مدرسة الحشو تلك التي ترفع الأعلام والرايات مترجمة المسلك المقاوماتي ضد الغرب الذي يعني عند الأئمة مفهوم الصدع بالأمر الديني الجهادي وهو الأهم لديهم من الميل إلى البناء والرفاه والازدهار، لعبة جديدة يخوضها المشاركون في التحرك الاحتجاجي الأخير مبتغاه الأخير هو تطعيم إيران ومؤسساتها بمصادر وعناصر ومرجعيات حديثة تبني الحياة الفاعلة التي أراد أن يجسدها ذات يوم الحسن بني صدر وطلع من الباب مطرودا وأعاد الكرة ثانية محمد خاتمي وهو يسحق غريمه عبد الله ناطق نوري· إطلاقا لا يعني أن الثورة في مراميها وأهدافها غير منطوية على نبالة ومقصدية كرامة وكراهية للحيف واستنصار المحرومين الجياع فذالك المبدأ لازال غير مطعون فيه إلى الآن لكن بوصلة العالم تغيرت، وأجيال شابة تهفو إلى النور، تركض نحو الضوء، تريد استبدال نمطية الماضي بخفة المستقبل، وهكذا تبدو اللحظة شبيبة إيران الحالمة التي ابتهجت بفريقها الكروي وبلاعبها كريم باقري وبالسينمائية شرين عبادي وبالكاتبة مرجان ساترابي، وبين الركض نحو الثورة والجمهورية والركض نحو الرقة والحقة والثقافة تظل إيران مشروعا طموحا في المنطقة وعلى أرضها كنوز لا تفنى···