في مطلع مقالته المعنونة أولوية الديمقراطية على الفلسفة يستحضر رورتي أحد المبادئ الهامة التي كان الفضل ل جيفرسون في تكريسها في تاريخ الولاياتالمتحدة ويقول بهذا الشأن: /لقد منح توماس جيفرسون نبرة للسياسة الليبرالية الأمريكية في اليوم الذي صرح فيه أن اعترف بوجود عشرين إله أو لا أقر بإله على الإطلاق، فهذا لن يكون له أي ضرر على جار لي· بفضل هذا المثال، أصبحت فكرة الفصل بين السياسة والمعتقدات جديرة بالاحترام ومن المسائل ذات الأهمية القصوى وبأن الاعتقادات المشتركة من قبل المواطنين بهذا الخصوص لا ينبغي أن تكون أساسية لمجتمع ديمقراطي·/ فلتجسيد علمنة الحياة المدنية أو الفضاء المشترك بين المواطنين حيّد جيفرسون الدين أو أعطاه بعدا خاصا (خوصصه) من دون أن يقلل من قيمته· ويبدو أن رورتي وهو يثني على موقف جيفرسون يريد أن ينطلق من هذه الخلفية لمناقشة مسألة الحقوق التي صارت أمرا أساسيا ولازما للديمقراطية ذلك أن الديمقراطية التي تعني مع ديوي العيش معا أو الحياة الاجتماعية المشتركة تفقد كل معانيها إذا لم تحترم فيها الحقوق الفردية والعامة· لم تكن النصوص الفلسفية القديمة والوسيطة- التي تناولت موضوع الأنا والطبيعة البشرية بشكل مباشر أو غير مباشر- خالية من كل نقاش حول مسألة حقوق الإنسان غير أنها تكثفت بدءا من العصر الحديث لتثمر نظريات العقد الاجتماعي التي سعت إلى توضيح علاقات النسيج الاجتماعي وتحديد الحقوق والواجبات ضمن مجتمعات متخيلة وقد أفضى هذا إلى تحديد المهام وتوزيع المسؤوليات وضبط العلاقات بين الحكام والمحكومين ضمن أطر من الحرية والديمقراطية والعدالة وعليها تأسست أنظمة الحكم الديمقراطي وغير الديمقراطي في المجتمعات الحديثة· وضمن هذا السياق يتحدث رورتي على أن النقاشات وأنماط النظرية الاجتماعية التي أفاضت في النظر حول هذه القضايا داخل الفكر الأمريكي يمكن أن نصنفها في ثلاث اتجاهات: - اتجاه أول يقول بمطلقية حقوق الإنسان ومن ممثليه رونالد دووركين· - اتجاه ثاني يقول ببراغماتية وإجرائية العدالة الاجتماعية ومنه ديوي وراولس، فهذا الأخير امتدادا ل جون ديوي يبين أن الديمقراطية الليبرالية يمكنها الاستغناء عن الافتراضات الفلسفية وذلك حينما عاد إلى مثال جيفرسون حول التسامح الديني منظورا إليه من زاوية سياسية لا دينية·(28)- وديوي نظر إلى الديموقراطية المثلى من زاوية علاقة الأفراد الأحرار في ما بينهم ومع مجتمعهم في شكل كلي· باعتبار أن السلطة الوحيدة المقبولة في مجتمع كهذا هي سلطة الإجماع الحر أي توافق إرادة مواطنين أحرار، بما يفيد ألا بُعد في الطبيعة الإنسانية أو الإلهية أو المنطق أو في الحقيقة ذاتها يمكنه أن يأتي بديلا لهذا الإجماع· واعتبر أن ثمة معضلة حقيقية بين فكرة أن للواقع سلطة معينة على العقل الإنساني من ناحية، وبين الفكر البراغماتي والديموقراطية من ناحية ثانية· فالبراغماتية أرادت القول إنه لم تبق هناك سلطة للكنيسة والكهنة والملوك، والسلطة الوحيدة الحقيقية والممكنة هي سلطة الإجماع الحر للمواطنين الأحرار، وهي تتبع في شكل عام أفكار البراغماتيين وإجاباتهم حول طبيعة الحقيقة والمعرفة، الخ· - اتجاه ثالث يسمى بالجماعوي من مؤيديه ألسدائير ماك إنتير، مايكل ساندل، تشارلز تايلور وهم يرفضون في الوقت ذاته الفردانية العقلية للأنوار وكذا فكرة الحقوق، لكنهم خلافا للبراغماتيين يعتبرون أن رفضا كهذا سيبعث على الشك حيال مؤسسات وثقافة الدول الديمقراطية الموجودة· لا يتوقف رورتي كثيرا عند مسألة التأسيس النظري للحقوق فهو يسلم بتعميمها ولكنه يعتني أكثر بالبحث عن كيفية تجسدها والتركيز على المؤسسات القمينة بتكريس حقوق الإنسان من دون البحث النظري عن ما الحقوق ؟ ما طبيعتها ؟ وما غاياتها ؟ وهو يدرك تماما أن مسألة التنظير لا مفر منها ولذلك فهو يسلم بها جدلا دون يوليها كبير عناية بل يسائل الواقع الماثل أمامه ومن ثمة فهو يكون أقرب في توجهه إلى الليبرالي الجماعوي· في دراسة له عنوانها أولوية الديمقراطية على الفلسفة يبدو أكثر رورتي المثير للجدل والمتماثل مع الخط البراغماتي الساعي إلى تغليب البعد العملي والواقعي والسلوكي واستبعاد حصر الفلسفة في رؤية تأملية نظرية تجريدية· لا يرى رورتي كما يحلو له أن يقتبس من جون ديوي تصورا ينتهي إلى هذا الرأي أنه بإمكان الفلسفة أن تبرر وأن تحاجج عن الديمقراطية و لا يمكنها أن تساهم في تدعيمها وتقديمها في صورة مستساغة ومقبولة· ويقصد رورتي هنا تلك الفلسفة الميتافيزيقية واللاهوتية والأنوارية التي رسخت صورة عن أنا متعالي خارج التاريخ· لقد تضافرت جهود المثقفين المعاصرين والأنثربولوجيين ومؤرخي العلم ومحاولات كل من هيدغر وغادامير وكذا التحليل النفسي على إزالة الأنا المشترك بين الميتافيزيقا اليونانية والتيولوجيا المسيحية وعقلانية الأنوار، أي تلك الصورة لمركز طبيعي لا تاريخي، موقع للكرامة الإنسانية، مُسيّج بمحيط عرضي وضروري·(31) يبدو من عنوان الدراسة المذكورة ومن دراسات أخرى أن رورتي يحاول استلهام المعيار البراغماتي في تفضيل الديمقراطية على الفلسفة حتى وإن تطلب الأمر التضحية بالبراغماتية لصالح الديمقراطية· إن رورتي حينما وضع مذهبه البراغماتي في خدمة الديمقراطية يعني أنه رغب في تبرير الديمقراطية بل لأن هذه الأخيرة تنسجم مع البراغماتية أكثر من غيرها من الفلسفات وليس كما ذهب إلى ذلك المفكر اللبناني ناصيف نصار في قراءته النقدية لفكر رورتي حيث أراد عكس رورتي بأن الديمقراطية تظل دوما بحاجة إلى تسويغ نظري وجاء في نصه: /أن تكون الفلسفة في خدمة الديمقراطية كما يريدها رورتي، يعني أولا أن تكون قادرة على تسويغ الديمقراطية، وثانيا أن تكون قادرة على حماية الديمقراطية من المخاطر التي تهدد بانهيارها من الداخل، ولا يعني إطلاقا التخلي عن مهمة التنظير لمصلحة النص السردي التاريخي، أو لمصلحة النص الأدبي(الشعري أو الروائي أو النقدي)، أو لمصلحة النص الطوباوي، بحجة أن التجربة الديمقراطية الليبرالية قد أصبحت مستقرة ولا خوف عليها·/ بطبيعة الحال، لا يبدو الأمر مستغربا حينما ندرك أن فيلسوفا براغماتيا لا يحبّذ كثيرًا التأصيل الفلسفي بل وينفر منه ويفضل على الدوام الجانب العملي فهذا يدخل في صميم التقاليد الفكرية الأمريكية· غير أن أصحاب اتجاهات فلسفية عدة ينظرون إلى موقف كهذا بعين الريبة ويتهمونه بالضعف والقصور من الناحيتين النظرية والواقعية· الناحية النظرية لا تعني الشيء الكثير لرورتي وقد أوضح أن نظرية ما - على حد رأي بوبر - لا تنطوي على حل لجميع المشكلات· وما أبرزه بوير من نقطة مشتركة بين أفلاطون وماركس دليل على ذلك فكلاهما اعتقد أنه توصل إلى فهم القوى الخفية التي تتحكم في مصير الكائنات البشرية على الرغم من اختلاف طروحاتهما· فقد حاول أفلاطون صياغة نظرية خارج إطار الزمان والمكان وهي النظرية التي حاول كذلك فيما كانط استعادتها في قالب أبدي أما ماركس فقد سعى إلى صب الظروف التاريخية والمادية في قالب نظري ليجعل منه قانونا كونيا وحتميا لكل المجتمعات·