يرى المحامي والناشط السياسي مقران آيت العربي، أن الفساد صار من “ثوابت" السلطة، وأنه لم يحدث منذ الاستقلال أن وقف برلماني أو وزير أو مسؤول سامي أمام العدالة، وأشار آيت العربي في هذا الحوار إلى أن الرأي العام لم تفاجئه الفضائح المتتالية ولا الصمت المطبق حولها بكون الجزائريين - كما قال - يعرفون جيدا ويلاحظون يوميا انتشار الفساد في كل القطاعات دون عقاب، مضيفا بأنه عندما تنشر الصحافة ملفات الفساد التي تورط فيها مسؤولون كبار، ولم يرفع المعنيون شكوى ضد مدير التحرير والصحفي عن القذف، نكون أمام قرينة قوية تسمح للنيابة العامة، بل تجعل من واجبها فتح تحقيق ضد الشخصيات المذكورة في الملفات مهما كانت مسؤولياتها في هرم الدولة. ربما تكونون قد اطلعتم على فضائح الفساد التي نشرتها “الجزائر نيوز"، مؤخرا، حول عدة قطاعات، لا سيما قطاع الأشغال العمومية، حيث مست هذه الفضائح عددا من الشخصيات العمومية، هل من المعقول أن يكون الفساد في بلادنا قد وصل إلى هذا الحد؟ المسألة لا تتعلق بقطاع عمومي واحد ولا “بالمعقول واللامعقول" بل تتعلق بغياب الصرامة حتى صار الفساد من “ثوابت" السلطة. وهل رأيت منذ الاستقلال وزيرا أو برلمانيا أو مسؤولا ساميا أمام العدالة بسبب الفساد؟ الجواب يعرفه الجميع. لكن حذار من استعمال مثل هذه الملفات لأغراض سياسية أو انتخابية أو لصالح جماعة في النظام ضد جماعة أخرى. وحذار أن تصبح العدالة مجرد عصا في يد جماعات المصالح. وإذا لم تتخذ إجراءات جادة وصارمة وعاجلة فالمسألة ستتفاقم أكثر وتصبح خطرا على المجتمع، إن لم نقل على الدولة. السيد أيت العربي قد تكون هذه الفضائح مفاجئة للرأي العام، لكن أليست المفاجأة الأكبر منها هي الصمت المطبق للسلطات العمومية؟ أعتقد أن الرأي العام لم تفاجئه الفضائح المتتالية ولا الصمت المطبق حولها لكون الجزائريين يعرفون جيدا ويلاحظون يوميا انتشار الفساد في كل القطاعات دون عقاب، كما أن المهتمين يلاحظون في قاعات الجلسات للمحاكم والمجالس أن معظم المتهمين إطارات تقنية وإدارية وليست إطارات سياسية مما جعل الرأي العام يتوقع أخطر مما ينشر في الصحف، فالفساد موجود في كل الدول، ولكن الفرق يتمثل في جدية محاربته يوميا بالوسائل القانونية وليس عن طريق مجرد حملات سياسية تخدم أغراض آنية لا علاقة لها بمفهوم العدالة. وماذا عن دور العدالة إزاء متابعة ملفات الفساد؟ عندما تنشر الصحافة ملفات الفساد التي تورط فيها مسؤولون كبار ولم يرفع المعنيون شكوى ضد مدير التحرير والصحفي عن القذف، نكون أمام قرينة قوية تسمح للنيابة العامة، بل تجعل من واجبها، فتح تحقيق ضد الشخصيات المذكورة في الملفات مهما كانت مسؤولياتها في هرم الدولة. ولكن نلاحظ أن الفساد المعلن عنه (فما بالنا بالخفي) بلغ درجة تهديد أركان الدولة، وليس السلطة أو النظام فحسب، لأن الرأي العام في هذه الحالات توصل إلى قناعة بأن النيابة العامة قوية عندما تتعلق المسألة بصغار الموظفين، وأن المسألة تتجاوزها عندما يكون المجرم مسؤولا في الدولة. كما أن العدالة مستقلة في الخطاب السياسي، ولكنها تخضع لرغبات السلطة السياسية. ودليلنا على ذلك يتمثل في أن جميع ملفات الفساد لم تصل إلى المحاكم بمبادرة من النيابة العامة، ولكن بناء على ما تقدمه لها مصالح الأمن. ولما كانت هذه المصالح خاضعة للسلطة التنفيذية فإنها تغربل الملفات ولا تقدم لوكيل الجمهورية إلا مسؤولين في الطابق الأرضي من عمارة المسؤولية و(قضية الخليفة شاهدة)، وذلك عندما لا تكون الملفات مجرد تصفية حسابات بين الجماعات الحاكمة. ومن ثمة يمكن الجزم أن تورط كبار المسؤولين في الفساد يتجاوز بكثير جهاز العدالة وكل من يرى غير ذلك مهما كانت مسؤوليته فليتفضل للنقاش. هل تعتقدون السيد أيت العربي أن وسائل الإعلام عليها أن تتحمّل العبء الأكبر في كشف الفساد في بلادنا، أين هي المكونات الأخرى للمجتمع لا سيما المجتمع المدني؟ الإعلام سلطة، وكل سلطة تخضع للحقوق والواجبات، ومهام الصحافة في اعتقادي في الظروف الراهنة أن تهتم بقضايا الفساد في جانبها الإعلامي ولا يمكنها بأي حال أن تحل محل الضبط القضائي وسلطة الاتهمام والعدالة بصفة عامة. وعلى “الصحافي المحقق" ألا ينشر إلا الأخبار التي يتأكد منها شخصيا ويتفحصها ويحصل على الدليل، ويتصل بالمعنيين لأخذ توضيحاتهم، وألا يكتفي بنشر معلومات مصدرها طرف واحد فقط. أما المجتمع المدني فهو مكمّل للصحافة وضروري لحرية الرأي والتعبير والنشر. لقد حلت الجزائر في المرتبة ال 112 في ترتيب مؤشر الفساد الذي أنجزته منظمة الشفافية الدولية للعام 2011، ومن المنتظر أن يصدر الترتيب الخاص بالسنة الجارية 2012 خلال شهر ديسمبر المقبل، هل تعتقدون أن الجزائر ستتراجع أكثر في هذا الترتيب بعد بروز هذه الفضائح الجديدة المتعلقة بالفساد؟ معرفة درجة الفساد في الجزائر لا يحتاج إلى الترتيب والرتبة، فالجزائر مصنفة ضمن الدول الأكثر فسادا، وأن تخفيض الرتبة في مؤشر الفساد لا يعني شيئا عندما يصبح الفساد حديث العام والخاص، وعندما يجعل الشعب يفقد الثقة في ممثليه ومسؤوليه ومؤسساته، ولا داعي للإطالة في هذه النقطة. السيد أيت العربي، من المؤكد أن الكثيرين يشعرون بالإحباط ليس فقط عند الاطلاع على قضايا الفساد الأخيرة ولكن أيضا تلك التي طبعت الأحداث منذ أكثر من عشرية في بلادنا، هل الفساد قدر محتوم على الجزائريين؟ الإحباط شيء سلبي، وعلينا جميعا أن نحاول الخروج من السلبية إلى الإيجابية عن طريق عدم المشاركة في الفساد إن لم نستطع محاربته. فالامتناع مثلا عن دفع الرشوة ولو كان المبلغ قليلا والمقصود من ورائه كثير، سيساهم في محاربة الفساد لكونه ملى تدرض في المجتمع. ولا ينبغي أن نختفي وراء سبب يتمثل في أن المواطن مضطر للدفع. وأعتقد أن ملف الفساد يحتاج إلى كل النزهاء بطريقة أو بأخرى، وكل حسب قدرته للتقليل منه. ولعل تقارير المفتشية العامة للمالية ومجلس المحاسبة رغم محدودية إمكانياته وصلاحياته تعتبر ناقوس الخطر. هل تعتقدون أن الفساد كفيل بالتسبب في عرقلة حقيقية لتحقيق البرامج التنموية الضخمة الجاري إنجازها في بلادنا؟ إن انتشار الفساد في بلادنا وخضوع الصفقات والإنجازات والاستثمار لتقديم رشوة يؤدي إلى رفع تكاليف الإنجاز وأحيانا إلى العجز. (وكم من مشروع معطل بهذا السبب) قد يؤدي بالفعل إلى عرقلة التنمية، ولا أريد ذكر أمثلة عن ذلك حتى لا أدخل في لعبة الجماعات الحاكمة التي تستعمل مثل هذه الملفات لأعراض سياسوية. برأيكم، ما هي الخطوات العاجلة التي يتعين على السلطات العمومية اتخاذها للحد من هذه الظاهرة على الأقل في انتظار اجتثاثها يوما ما من بلادنا؟ إذا كان كبار المسؤولين يفضّلون علاج أنفسهم وأقاربهم وأصدقائهم في أوروبا بصفة عامة وفرنسا بصفة خاصة لكون وسائل العلاج أنجع، فلماذا لا يعالجون قضايا الفساد بالوسائل المستعملة في أوروبا، وهي وسائل ناجعة جدا. وإذا استعملت عندنا ستتحقق النتيجة في ظرف سنة. وهذه الوسائل لا تحتاج إلى تكنولوجيا متطورة بل تحتاج إلى إرادة سياسية وهي: استقلال الضبط القضائي عن السلطة الإدارية والسياسية وعدم خضوعه إلا لتعليمات النيابة الإنابات القضائية، واستقلال النيابة العامة في مجال الدعوى العمومية عن وزارة العدل وعدم امتثالها إلا للتعليمات المكتوبة التي يوقعها الوزير شخصيا. وحتى هذه التعليمات لا ينبغي أن تنفذ إذا كانت مخالفة للقوانين، وهذا ما يسمى بكلمة واحدة استقلال القضاء عن جميع السلطات. وكذلك رد الاعتبار لمجلس المحاسبة وفروعه الجهوية ومنحه الاستقلال التام وتزويده بالوسائل المادية والبشرية والبنايات الضرورية لتمكينه من المراقبة البعدية للمال العام. وكذلك استقلال المفتشية العامة للمالية وعدم خضوعها للوصاية. وإلزام النيابة العامة بمقتضى القانون بفتح تحقيق عن كل فضيحة مالية تنشرها الجرائد. فإذا كانت الوقائع صحيحة تتابع الشخص المفسد مهما كانت سلطته، وإذا كانت مغرضة أو كان هدفها مجرد التشنيع وزعزعة المراكز والعمل لصالح جماعة ضد جماعة أخرى، فعلى النيابة أن تتابع مدير النشرة والصحافي بشرط إلغاء عقوبات الحبس وتعويضها بغرامات مالية وتعويضات مدنية. ويمكن التركيز على تشجيع الجمعيات التي تعمل من أجل الشفافية ومحاربة الفساد ومنحها حق الادعاء المدني أمام الجهات القضائية، وانتهاج الصرامة في مجال الصفقات العمومية، وفرض التعامل بالشيك، وإلزام المسؤولين على جميع المستويات بإثبات مصدر ممتلكاتهم، ولماذا لا نفتح نقاشا حول ملف الفساد خارج القصور، لتمكين المواطنين من تقديم حلول ناجعة قد تخفى على “المتخصصين"، وهذا لا يحدث إلا بتوفر الإرادة السياسية في محاربة الفساد بكل أنواعه.