ذات يوم، في أواسط خمسينيات القرن الماضي، لاحظ الطالب الشاب في كلية العلوم السياسية في باريس، جاك شيراك، طالبة شقراء ذات ابتسامة واسعة وأسنان جميلة. سأل عن اسمها فقيل له إنها تدعى “برناديت شودرون دوكورسيل". وكانت عندما لفتت انتباهه في السنة السابعة عشرة من عمرها، وكان هو أكبر منها بسنة، طالبا جامعيا لامعا ومتفوقا، يتميز بحيوية لا مثيل لها. ومن منطلق تفكيره المنظم، لاحظ أن برناديت طالبة جريئة ونشيطة ودقيقة في أداء عملها، تزور مكتبة الجامعة باستمرار لتبحث عن كتب التاريخ والقانون الدستوري. وهكذا تقدم منها، بعد أيام من مراقبته لها، وبادرها بالحديث متسلحا بالحجة المعروفة: “هل يمكن أن أستعير منك كراسة المحاضرات.. لقد فاتتني المحاضرة الأخيرة". وأعطته كراستها ولم يرجعها إليها، بعد ذلك. لقد باتا يدرسان فيها معا إلى حين تخرجهما وزواجهما في السادس عشر من مارس 1956. وهي ما زالت تذكر، عن أيام الدراسة، أن شيراك طلب منها أن يتعاونا معا في تحضير المادة المقررة، فتقرأ هي المصادر وتسجل ملاحظاتها عن مطالعتها، على أن يتولى هو التوسّع في دراسة الملاحظات، بناء على اجتهاده الخاص. وكان أكثر ما يدهشها أنه كان يتناول أفضل جزء من عملها ليوسّعه ويحصل دائما على درجات أفضل منها. تنحدر “برناديت شيراك" من عائلة برجوازية راقية، لذلك فإن والدها لم يكن مرتاحا كثيرا لصداقتها لزميلها النحيل فارع الطول الذي ينتمي إلى أسرة متوسطة، ففي نهاية المطاف لم يكن أبوه أكثر من معلم بسيط في بلدة “كوريز". لهذا السبب فرض الأب خطوبة طويلة على الاثنين ليتأكد من صلاحية الخطيب وحسن سلوكه. وفي النهاية انتصر الحب. لم يرزق الزوجان الشابان بأبناء ذكور لكنهما أنجبا ابنتين، شقراوين مثل والدتهما، الأولى تدعى “لورانس"، وقد درست الطب لكن مرضا عارضا تسبب لها في إعاقة ذهنية واستوجب إدخالها إلى مصحة خاصة ما زالت تقيم فيها حتى اليوم، والثانية هي “كلود" التي درست العلوم السياسية وصارت الذراع اليمنى لوالدها ومستشارته في معاركه الرئاسية ومديرة علاقاته. منذ زواجها من “جاك شيراك"، أدركت “برناديت" أن السياسة ستكون هي الوعاء الذي يغمسان خبزهما فيه كل يوم. لقد اختار زوجها الانخراط في العمل العام والحزبي، وكان عليها أن تقف إلى جانبه، تحشد له التأييد وتمنحه النصيحة وتتلقى معه ضربات الخصوم، بل وتجتهد لكي تصدها عنه. إنها امرأة ذات شخصية، لكنها شديدة التواضع، تهرب من الأضواء وتفضل العمل بصمت. لقد انتخبوها مستشارة في بلدية “كوريز" وصار لها دورها الاجتماعي والسياسي المحدد، لكنها لم تحاول أبدا أن تتعكز على نفوذ زوجها، الذي سرعان ما أصبح رئيسا للتيار الذي شقه الجنرال ديغول، ثم رئيسا للوزراء، وعمدة للعاصمة باريس. وفي الحملات الانتخابية للرئاسة، كانت مدام “شيراك" حاضرة في المواقع التي يضطر زوجها إلى الغياب عنها مؤقتا. وكانت تعقد الاجتماعات وتساهم بجهود لا تهدأ، وتقوم بزيارات ميدانية، إنها تستحق نصيبها من الرئاسة. فهي الزوجة التي دعمت المرشح شيراك طوال السنوات الثلاثين الماضية وأصبح خلالها، عمدة للعاصمة باريس، والقوة الأساسية المهيمنة على الحركة الديغولية، ورئيسا لوزراء فرنسا. أما عن طباع زوجها فتقول: “لم تتغير طبائعه منذ أن عرفته وهو في الثامنة عشرة من عمره، فهو رجل غير عادي، يطفح بالحيوية، حصان جامح لا يهدأ ولا يسكن.. يقطع مئات الكيلومترات في اليوم الواحد متنقلا من مكان إلى آخر. وأظن أنه بنى سمعته وشعبيته بين مواطنيه على سرعته في الحركة وحماسته للانطلاق نحو أي هدف جديد وكأنه ما زال في أول الشباب". ولا تتحرج زوجة الرئيس في التطرق إلى ميله للنساء وارتكابه “خيانات صغيرة" خرج بعضها إلى العلن، في فترات سابقة. وهي تبرر ذلك بالقول إن السلطة تستهوي النساء، وهن يحمن حول الرجل المتنفذ والبارز حوم الفراشات على النور. ظلت “برناديت شيراك" ربة لمنزل بديع هو قصر “الإليزيه" لمدة 12 سنة، واجتهدت لكي ترقى إلى لقب “الفرنسية الأُولى"، خصوصا من الناحية الجمالية. فقد اتبعت ريجيما قاسيا وغيرت من أسلوبها في اللبس ومالت إلى الجديد والشبابي من الثياب. وكانت بصمات ابنتها كلود ونصائحها واضحة على مظهرها وزينتها وماكياجها، رغم أن الأُم والابنة ظلتا تتنافسان على المركز الأول في قلب الأب، الأمر الذي لفت أنظار المعلقين إلى وجود أزمة من نوع ما في العلاقة بين الاثنتين. وإذا كانت دفة “الإليزيه" الرسمية في يد كلود فإن برناديت لم تفلت من يدها دفة إدارة القصر، اجتماعيا وبروتوكوليا. في أواخر ولايته الرئاسية الثانية، في صيف 2006، أصيب شيراك بوعكة صحية مفاجئة استدعت إدخاله إلى المستشفى على عجل. وحالما فتح عينيه، بعد تحسن وضعه، بادر زوجته بالقول “أُريد أن أتعشى في البيت هذا المساء، أنت وكلود وأنا وحدنا". لم يطق الرئيس المعتاد على الحركة أن يستبقيه الأطباء في غرفة العناية الفائقة بعد جلطة خفيفة في الدماغ. وتتذكر برناديت أن زوجها كان يبدو وهو في غرفته في المستشفى مثل أسد حبيس في قفص. وكان يسأل أطباءه مائة مرة في اليوم: “متى أخرج من هنا؟". ولما أذنوا له بالخروج، أخيرا، رفض أن يستقبل مساعديه ووزراءه على العشاء وطلب أن يتعشى مع زوجته وابنته وحدهم. هكذا واصلت الدور المحبب إلى قلبها طيلة السنوات الخمسين الماضية. وعلى الرغم من أنها تقاربه في السن، وبالتالي تحتاج إلى من يعتني بها ويدلّك مفاصلها المتعبة فإن برناديت تواصل العناية بزوجها، حتى اليوم، مثل والدة تهتم بطفل لا غنى له عنها وتسهر على طعامه وثيابه ومتطلباته كافة، خصوصا بعد أن غادرا “الإليزيه» واستقرا في شقة باريسية وضعتها تحت تصرفهما أُسرة الحريري، رئيس وزراء لبنان الراحل.