عادت إلى ذهني عبارة “الجنون فنون"، عندما شاهدت مسرحية “ما تبقى من الوقت"، التي اشتركت في انتاجها التعاونيتين “بسمة" و«كاتب ياسين لسيدي بلعباس"، وعلى مدار ساعة ونصف من الزمن، كانت حبات سنبلة الوقت تتساقط تباعا على الخشبة، كلما تقدم الشخوص في تحرير أنفسهم من قيد الآخر. لا تحتاج إلى ساعة حائطية لتستدل بالوقت في زمن المسرحية التي قدمتها تعاونية البسمة لسيدي بلعباس بعنوان “الوقت الضائع". فالإحساس بالضياع بين جدران مغلقة، داخل غرفة معتمة، كفيل بإقحامك في دوامة الجنون داخل هذه المصحة العقلية. كما لا تحتاج إلى أن تفهم إن كان هؤلاء “المرضى" أصلا لا يحملون في سواعدهم ساعات يد، يدققون فيها ويحسبون كم الحياة تتكرر في ذلك الفضاء المغلق، الذي يحرسه رئيس الأطباء وممرض بليد يطبق الأوامر. تختصر مسرحية “ما تبقى من الوقت" مشكلة الحياة عند الانسان بصفة عامة، والفرد العربي على وجه التحديد، كتب النص القلم العراقي المقتدر زيدان حمود، الذي استطاع عبر تجربته الكتابية، أن ينحت الفكرة الصعبة، باستخدام كلمات مناسبة تجعل من الحالة الشعورية للشخص إلى شيء يمكن رؤيته على الخشبة، الاستماع إليه حينما يهذي، يسافر في أحلامه المستحيلة، يكسر جدران الخوف من الرقيب المتسلط، يفكر في الحب والطبيعة، يرقص ويغني، ويمنح لقلبه مساحات مجانية للأمل.. قبل أن يقتحم حارس المصحة العقلية الغرفة، ويأمره بالإشارة فقط، بالبقاء كالأصنام، يطبقون ثلاثية: لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم. زيدان حمدان الذي انتقل نصه إلى خشبة مسرح محي الدين بشطارزي بالجزائر العاصمة، أصبح في يد المخرج مربوح عبد اله، مادة قابلة للإسقاط علينا جميعا، وقد بدا جليا أن النص عسير، فلسفي، مشفر لدرجة لا تقدر من الوهلة الأولى فك رموزه، هو كتلة درامية ترمي بالمتفرج إلى دائرة الحيرة. لهذا كانت مهمة المخرج غير يسيرة، كيف يمكنه أن يجعل اللغة العربية الفصيحة والعالمة، لغة حوارية بين الشخصيات المتخبطة عشوائيا على الركح، والمستسلمة لتيارات المد والجزر، تماما كما هو حال الشعوب العربية التي لا تتحرك إلا بإذن الساسة الحاليون رأسائها وسلاطينها وملوك وأصحاب مال ونفوذ. رغم أن النص يبدو صارما مقفلا على نفسه من حيث تعقيده، إلا أنه أثناء السرد، يمنح فتوحات واسعة، استغلها المخرج ليطلق العنان لأجساد ممثليه، ويزاوج بين الحركة العشوائية ل “المواطن المجنون"، وبين هذيانهم وتفاعلهم وتبادلهم للأدوار لحظة بناء عوالم بعيدا عن جدران السجن الكبير. ولتهوية النص، كانت سخرية الموقف فرصة لتحويل البكاء إلى نوبة ضحك على الذات، وبدل ساعات الحائط أو اليد، يحول الجميع خفافهم إلى سلاح يضربون بعضهم البعض، نعال على رؤوس الآخرين، وردة فقدت عبيرها، منديل مهترئ... أي شيء يرمز إلى عبثية الحالة العربية أو غير العربية، التي باتت قاسما إنسانيا مشتركا. لاقت المسرحية استجابة جمهور المسرح الوطني الجزائري، ومنحتهم إمكانية عد الوقت بطريقة مختلفة، كنا ننتظر قطارا وهميا صفيره ما هو إلا صوت الفرد الواهم، أن نستعد لموعد غرامي تشوهه الحقيقة المرة. تعاونية “البسمة" من خلال ممثليها الشباب (يعقوب بلال بن عبد الله، محمد زوقاع، محمد بوحجر، بوتشيش موسى محمد، حسان أحمد)، شكلت الاستثناء الجميل هذه المرة، تركت الجسد يتكلم بدوره، يقفز عاليا، يدور في الهواء كبهلوان دوخته الأفكار الغريبة. وكان الممثلون استفادوا من تدريبات رياضية، ما جعلهم يبدون في مظهر جميل لحظة التعري. الإفصاح عن منبت كل واحد منهم مباشرة بعد “الجرعة" المرة التي يتناولونها بداعي التعافي من رغبة تغيير عقارب الساعة، والبحث عن وقت جديد، مختلف عن السائد، إسقاط “جدار برلين" والثورة على من يتحكمون في مصائرهم.