كثيرا ما يشتكي المثقفون في العالم العربي سوء حظهم في مجتمعاتهم في لحظة يشعرون فيها بيأس وقنوط شديدين، عندما يسعون إلى مقارنة حالهم بأحوال نجوم كرة القدم·· وعندئذ يسخطون أشد السخط على أهلهم الذين هضموا حقهم ومكانتهم·· وليس بوقت طويل، عندما حادثت أحد كبار الكتاب الجزائريين المقيمين بفرنسا معربا عن رغبتي في استضافته إلى فضاء الجريدة الثقافي للقاء جمهور المثقفين، حتى ثار غاضبا وحانقا على بلده الذي كادت أنفاسه تحتبس في المقابلة التي جمعت الفريق الوطني لكرة القدم مع فريق زامبيا·· وسألني بكثير من المرارة كيف لم تحتف به بلده، ولم يقدره شعبه حق قدره وهو الذي أنتج عشرات الروايات وفاق صيته حدود البلد والعالم العربي·· وفي الحقيقة، لا أقول أنني صدمت لموقف الروائي لكنني حزنت له أشد الحزن، لهذه المقارنة غير السليمة وإن بدت في الظاهر وللعيان منذ أول وهلة في غاية السلامة·· نحن هنا، أمام نظرة تقليدية، هشة ومتجاوزة في تعاطيها مع الأشياء والمعاني والدلالات، نظرة تقليدية لم تتخلص من منظومتها السلطوية والاستعلائية التقليدوية، نظرة جامدة، معلبة، ثابتة تضفي على حيوية الأشياء يقينها المعلب وجمود قصر نظرها·· تختزل لاعب كرة القدم بشكل خاص، أو الرياضي بشكل عام، في رجليه أو في عضلاته أو في قوة جسده·· وهي بهذه الزاوية في التعاطي والفهم تجرد الجسد من عقله، من ذكائه، من ذاكرته ومن بلاغاته التعبيرية في شكليها، الباطني والسافر·· ما الذي ينتجه لاعب كرة القدم، إن لم يكن منتجا للعبة يتلاقى الذكاء بالقوة، والإبداع بروح العقل الخلاق، ومعجزة الحلم بسحرية الواقع، وعبقرية الفرد بكرم الجمهور، ووهج المصارع بنشوة الانتصار··؟! ما الذي ينتجه لاعب الكرة إن لم يكن ذلك المنتج لقيم الحياة ونشيدها العام النساج لملحمة المقاومة والدفاع، وسمفونية الهجوم المتوج بأهداف النصر·· أهداف الفرح وتحرير تلك الطاقة المهولة الكامنة فينا الساعية أبدا إلى البناء البروموثيوسي للحظة الخلود اليومي السارق ناره من لحظة السرمدية··؟! إن كرة القدم، ليست وفق النظرة التقليدية سوى لعبة محدودة في المكان والزمان·· لكن إذا ما تجاوزنا سلطة النظرة التقليدية، فهي استحضار ساحر وعجيب بالمعنى الأسطوري ولغة المجاز لكل تلك الآلهة الكامنة فينا·· الآلهة المحاصرة تحت الطبقات السميكة المغمورة بالظلام، الآلهة المكبلة بالقيود والأغلال لتتجلى في الصرخات الطليقة المزيلة لجدران الصمت والجمود، والعابثة بكل ما هو مزيف ومحنط من مشاعر·· أليس الملعب هو الفضاء العاري والصادق لمعركة بين الفوز والهزيمة، بين القوة والضعف، بين التكتيك والاستراتيجية، وبين القلب والعقل، وبين الجسد والروح؟·· ثم أليس هذا الجمهور هو ذلك التعبير المكثف حيث يتضارب ويتلاطم في أحضانه التصادم والتناقض، الغريزة والفيض، النور والظلام، والبهجة والكآبة··؟ إن عبقرية اللعبة المستديرة لا تكمن في الأرجل بقدر ما تكمن وتتجلى في العقل والروح معا·· في اللعبة المستديرة تتجلى بلاغة لعبة الحياة·· يتجلى في لحظة العراء وتحت الأضواء الكاشفة كل ما يشكل وتتشكل منه دلالة الحياة، الصدق، الكفاحية، الغش، العقاب، الجزاء، الصبر، العدل، النزاهة، الذكاء، القوة، الشعرية، الحزن، الفرح، الحيلة، الخديعة، الضعف، الانكسار، العنف، الشراسة، ويظهر كل ما يرمز إلى الدلالة الحيوانية مجسدة في الأسد، الثعلب، الذئب، الفيل، الأرنب، الجمل، الهر··· إلخ· ويقودنا مثل هذا التحليل إلى التساؤل إذا ما لم يكن لاعب كرة القدم، هو بديل المثقف الذي يكتب بجسده وروحه معا، على صفحات كتاب اسمه الجمهور·· جمهور الملعب وجمهور المنزل المتابع للمنازلة عبر جهاز التلفزيون·· إذا لم يكن لاعب كرة القدم هو هذا الملهم الجديد لشعلة في صميم الجسد الخراب·· الجسد الذي خربه السوق، وخربته من الداخل إيديولوجيا السوق والسلطة·· ويقدونا مثل هذا التأمل في هذه الظاهرة التي لم تترهل أمام سطوات الزمن والهيمنات الجديدة انتهاء بشمولية العولمة إذا ما كان لاعب كرة القدم، هو برومثيوس العصر الجديدة·· المحاصر والمعاقب من جهة من قبل الآلهة الجديدة، قصدت آلهة المال والسياسة·· ومن جهة ثانية ذلك المحكوم عليه برغم حدود الجسد بتحرير الجسد المهزوم، والجسد الكئيب الباحث عبثا عن لحظة انفراج طغيان الكآبة·