- 1 - إن الترجمة عند السعيد بوطاجين فعل تقني ذو خصوصية تنتقي النص لتحتفي به، وتحتفل معه بالخطاب المفتوح على الإنساني والجمالي والأدبي، وهو ما نعثر عليه في ترجمات عدة له، كما نجد ذلك في "نجمة تائهة" للكليزيو و«أفلام حياتي" لتريفو و«الإنطباع الأخير " لمالك حدّاد، ومؤخرا "رقان حبيبتي" لفيكتور مالو سيلفا. - 2 - إنّ رواية "رقان حبيبتي" تتحدّد ضمن مستويين للقراءة، مستوى يتعلق بفعل الترجمة ومستوى آخر يتعلق بالعمل المترجم. يتأسّس الفعل الترجمي كوظيفة جمالية وسياقية، وبتداخل الوظيفتين يترسّم النص كبنية آملة تطرح رؤيا وتقدّم مسارا. تتعلق الرؤيا بالوظيفة الجمالية والمسار يتعلق بالوظيفة السياقسة، ورواية "رقان حبيبتي" تُنتج سياقاتها الحدثية المتاخمة للموضوع الذي يحيل إليه الحدث، فتعمل على نبش الذاكرة وبعثها من خلال رؤية السّارد "لوي روني" الذي يبدو وكأنه عاش الحدث، وخلال سياقية الحدث، تتفجر الجمالية كضرورة لتقديم الموضوع ضمن مسار حكائي فني ينطوي ضمنا على الانتظام عند أفق تلقي القارئ حسب ما يقتضيه عنصر الانتظار، كون القارئ القريب من مدارات الموضوع يطلب الاستزادة والكشف عما يجهله في إطار مسار الحدث. - 3 - يتجلى فعل الترجمة لدى السعيد بوطاجين كأوالية للاقتراب من حميميات فكرية وإبداعية تشغل حيزا في أفق اهتماماته الأكاديمية أو الإنسانو ثقافية، ومما لاحظته من خلال أربعة أعمال مترجمة، أنه مثلا في روايتي "الانطباع الأخير" لمالك حدّاد و«رقّان حبيبتي" لمالو سيلفا، لا يقدم لهما، بينما نعثر على مقدمة ل "أفلام حياتي" لتريفو و«نجمة تائهة " للوكليزيو، وهو ما يفسّر انجذابه نحو الأعمال الإنسانو ثقافية التي لا تحتاج إلى ترتيب تبريرات الترجمة أو الإقبال عليها، لأنه في حالة "الانطباع الأخير"، فالجانب الإنساني يشكل قرابة وجدانية شخصية، من حيث إن العمل يعود لرائد الشّعرية في كتابة الرواية الجزائرية، مالك حداد، ويتعلق في بعض جوانبه بالحالة الثورية القائدة نحو أفق التحرر، ولعلها تمثل حالة قريبة من الذات، حينما نعرف أن الشخصية الرئيسة تدعى "سعيد"، ومن ضمن عناصر الحدث الروائي نبات الزعتر الذي ينتمي إلى متعلقات المترجم الوجودية: "لا مجال للنظر إلى الزعتر الآن" ص 143، أما في "رقان حبيبتي" فالموقف الإنساني يسجّل الالتصاق بالحدث حد التماهي، لأنه يمثل الفجيعة الإنسانية الناتجة عن وحشية الأنا حينما تتحصن بأنانيات الذات الفظيعة: "لن تستطيع الكلمات التعبير عن ذلك. قلت لزوجتي: "هل تدرين؟ إنّنا قتلنا أناسا هناك، بيد أنها كانت تعرف ذلك من قبل. ثم نامت" ص 11. إنه الموقف الإنساني، الذي يفجر الضمير الحكائي المتعالق مع التراجيديات الوجودية الممكنة، المتواجدة في مجال تلقي الأعماق القارئة المختلفة في إثنياتها والواحدة في إحساساتها بالفظاعة البشرية، علم الزوجة قَبْلا بالحدث ونومها عند حوار الزّوج معها، يكشف عن عمق الشّرخ الوجودي الذي أدّى إلى اللامبالاة واعتزال المشهد الواقعي احتقارا للاوعي بالكينونة الآمنة، وهو ما قامت به الدّادائية وجيل الضياع بعد الوقوف على فظاعات الحرب العالمية الأولى. - 4 - تتمدّد الذاكرة وتصر على وجودها، تقع على صدر الكينونة بثقلها متعدد الأوجه، تفتح على صفحة الواقع سطورا للكتابة كي تشفى فقط من ألمها المثقل بوجع الكارثة التي تمثل بالنسبة للروائي الذي يتحدد ضمن المقاطع السردية الأولى كسارد واقعي، ثم يتحول مع الرسالة الأولى التي يكتبها السارد إلى حبيبته "هيلين" إلى سارد تخييلي هو "لوي روني"، انتقال الرواية ما بين التخييلي والواقعي يكشف هول الفاجعة التي عجزت الكلمات على حمل حقائقها ومضامينها، وقد يكون ذلك السبب المباشر في ترجمة هذه "الرّوا-سير-ذاتية"، لغلبة الجانب الإنساني الذي شارك في تفجيره السارد واقعا وحدثا، وانعكس أثره على الأنا المترجم المنتمي إلى فضاء الموضوع حيث تربطه به وشائج الجغرافيا والتاريخ. - 5 - تستجدي الذاكرة أحيانا الكلمات: "أتذكر باستمرار، لكني لا أجد الكلمات" ص 13، عند هذا المفصل السردي تنتقل الرواية من مستوى الموضوع أو السياق الواقعي إلى المحاولة السردية، أي إلى جادة الكلمات عند التقاطعات المفصلية مع الواقع، لكن السارد يقف على هامش الواقع وينتصر لواقعية الحدث الوجودية، أي التي حصلت في التاريخ وفي الزمن مستسلما لعجزه التعبيري، لشدة وقع الكارثة التي حلت بالمكان "رقان" وبالبسطاء الذين كان يمنحهم ذلك المكان سر وجودهم: "لم تكن هناك كلمات لأقول ما كان يجب قوله" ص 13، فالحدث يعجز عن توصيف الحالة الواقعية وترحيلها إلى هامش التّخييل، كمحاولة لإراحة الضمير الأخلاقي، وهو هذا الذي قد يكون مركز جذب المترجم كذات توافق العمل الأدبي الذي يرسم المستعمر كأنا عاجزة عن تفعيل المتخيل لفقره الوجداني: "اكتشفت بعد شهور قضيتها معهم أن المسألة قد تتعلق بفقدانهم الكلي للخيال" ص 122. - 6 - قد يدور النص المترجم "رقان حبيبتي" حول تيمة مركزية وهي المتخيل، فالراوي يربط بين فقدان الخيال في الحد السردي السابق بتفادي العسكريين لطرح أي سؤال: ".. بحيث تفادوا كليا طرح أي سؤال" ص 122، والإحجام عن الإجابة معناه عدم احتمال السّؤال، وبالتالي يكشف ذلك عن فقر في الخيال، وهو ما يفكك إشكالية العنف الاستعماري واللاإنسانية التي يتدثرها المستعمر، فالخيال أداة التشظي في مستويات فوق جسدية أو فوق واقعية، أي انغماس في لذة اكتشاف روحية، والمستعمِر بطبيعته التحتانية لا يمكن أن يفكر في التحليق الماورائي، ولذلك كانت "رقّان" أبشع حلقة في دائرة المستعمِر الاستحواذية ما - دون الإنسانية. إنّ أهمية التخييل في الرواية تأتي من خلال سرديته المتبادلة بين المستعمِر والمستعمَر، فانعدامه (التخييل) لدى المستعمِر يتأسّس سلبيا ينعكس على كيانيته الإنسانية، بينما عجز التّخييل عند المستعمَر يتأسّس إيجابيا لعدم المقدرة على تصوّر العلاقة الوحشية التي تطرأ على الوجود الإنساني كما هو الحال في ظاهرة المستعمِر (رقان أنموذجا). - 7 - يبدو من خلال قراءة الرواية وتهجي الخطاب كعلاقة بين ذات مرسلة، ترسم وجوديتها في زاوية الذات المتلقية، أنّ العنوان كعتبة افتتاحية يدشن الحلقة المفقودة بين كارثية السلوك الاستعماري وطبيعة العنوان الوجدانية، التي تخرج عن كونها مجرد انعكاس لعلاقة مواساة إلى حالة مساندة لفعل التّخييل الخالق للجمالية السردية المنتجة لجمالية القضية، وبالتالي منطقيتها، فموضوعة الحب المسندة إلى المكان تضع "رقان" محل كينونة أنثوية، وهو ما يعرضه السارد من خلال استلهامه للهوية المكانية: "كانت تلك المرّة الأولى التي أسمع فيها اسم رقان، أعجبني، كان يذكّر باسم امرأة" ص 106، وهو الوصف الذي يفجّر مدار التّخييل كعنصر يتعالق مع وجودية المرأة الجمالية والمخيالية كموضوع للذة، وهو ما نعثر عليه خلال فعل القراءة، حيث يستوقف التلقي توظيف نوع من التناص الخاطف الذي يُلتَقط من خلال أحد عناصر النص المتضمَّن، فموضوعة الليل الواردة في الوحدة السردية التالية: ".. وكان معجبا بسرد وقائع الليلة العاطفية التي قضاها، حسب زعمه، في بلاد اعمر.." ص 127، فالقرينة السردية تحتمل الإحالة على وقائع "ألف ليلة وليلة"، حيث يتكثف مفهوم التخييل المرتبط بالحالة الأنثوية الشّهوية، وهو ما يجعل النص الإطار كحدث تخييلي محايث لموضوع واقعي، في مواجهة مع النص المتضمَّن المتمثل في "ألف ليلة وليلة"، المترع بالتخييل واللذة، ممّا يكشف ويعري موضوعة الرواية الرئيسة الكارثية بمقابلتها إحاليا على موضوعة التخييل الجمالية في النص المتضمن إمعانا في إظهار بشاعتها.