"أنا مستعد أن أرفع صخرة سيزيف حتى قمة الجبل.. لكن المشكلة هي أني لا أستطيع حتى أن أدفع الصخرة أكثر، إنها لا تتزحزح .." هكذا وصف مهمته في سوريا، واستعار شخصية "بطل الأسطورة الإغريقية سيزيف" ليعبر عن ما يعانيه من أجل تحريك الملف السوري دون جدوى، وذلك بالرغم من علمه المسبق بأن "المهمة شبه مستحيلة" كما وصفها لدى تعيينه مبعوثا أمميا وعربيا، لكن يبدو أنه كان يحتاج عامين آخرين ليتأكد من انتفاء مفردة "شبه" عن الجملة، ليدرك يقيناً ان "المهمة بالفعل مستحيلة" .. وهكذا وبعد عامين داميين مرهقين ومكلفين قرر الديبلوماسي . الثمانيني أن يحرر استقالته ويعتذر في ذات الوقت للشعب السوري عن فشل مهمته، انه الأخضر الإبراهيمي، أصيل قرية "العزيزية " بولاية المدية، الذي ذاع صيته وملأ الدنيا صخبا، في أكثر من ملف لنزاع دولي أو إقليمي او محلي ، ليسطر إسمه ضمن قوائم أهم شخصيات الديبلوماسية العالمية، بكل ما يفترضه هذا المجال من نجاحات او إخفاقات ممكنة في لعبة تتصف بأنها عبارة عن محاولة لتحقيق الممكن في ساحة تضج بالمستحيلات الكثيرة والمعقدة ! ولعل ما لا يعرفه الكثيرون أن انعقاد مؤتمر باندونغ سنة 1955 بجاكرتا الأندونيسية، كان خطوة البدء الاولى. لهذا الديبلوماسي، عندما حضره ممثلا لجبهة التحرير الوطني التي لم يمض على تأسيسها. وانطلاق شرارة الثورة المسلحة اكثر من عام واحد .. وقد ضم وفد الثورة حينها في اولى فتوحاته الديبلوماسية كل من : محمد يزيد وحسين آيت احمد، الشاذلي مكي ،محمد الصديق بن يحيى، الى جانب الاخضر الابراهيمي .. وهو المؤتمر الدولي الاول الذي إنحاز لمطالب الشعب الجزائري، وأقر المبادئ التي تنادي بها الشعوب الحرة عندما نص على " ضرورة انهاء الاستعمار والدعوة لحق الشعوب في تقرير مصيرها ومساندة الحركات التحررية في العالم" .. كما كان ذات المؤتمر مناسبة لخطوة أخرى للأبراهيمي الذي تم الاتفاق على تعيينه ممثلا للجبهة في جاكرتا، وهو ما تم بالفعل في عامين بعد ذلك التاريخ واستمر في منصبه من 1956 إلى1961. ليعود الى الجزائر فجر الاستقلال . وبالرغم من ان ابن المدية قد خطى في جاكرتا خطوات ديبلوماسية مهمة باعتباره ممثلا لجبهة التحرير، سواء بمشاركته في المحافل السياسية. وشبكه للعلاقات مع البعثات الديبلوماسية، فان أول عمل ديبلوماسي له يمثل دولة مستقلة ذات سيادة كان في منتصف أفريل من عام 1963، عندما وقف امام الزعيم المصري جمال عبدالناصر يقدم أوراق اعتماده كأول سفير للجزائر المستقلة في مصر . وكذلك مبعوثها الدائم في جامعة الدول العربية . قبل ان يبدأ أيضاً رحلته الدولية والإقليمية من ذات العاصمة العربية، عندما تم تعيينه مسؤولا ساميا في جامعة الدول العربية، أهم منظومات العمل الديبلوماسي العربي في الفترة ما بين 1984- الى 1989، حيث تقلد عدة مناصب ديبلوماسية من بينها امين عام مساعد للجامعة . ثم مبعوثا للجامعة العربية الى لبنان في الفترة من 1989 الى عام 1991. وهي فترة الحرب الأهلية الدامية . عاد الإبراهيمي للجزائر مجددا ليترأس جهازها الديبلوماسي في وقت أقل ما يقال عنه، "فترة الحرائق المشتعلة" حيث كانت بداية التسعينيات مرحلة بداية الإرهاب الأعمى، وفي ذات الوقت فترة الإدانات الخارجية، و محاولات فرض العزلة على البلاد ، و في ذلك التوقيت الصعب - تحديدا- عاد الرجل ليقوم بمهمة رجل الإطفاء على المستوى الخارجي .. حيث تقلد منصب وزير الخارجية من عام 1991 - 1993، مواجها اهم التحديات التي كانت تعتري مهمته على المستويين الداخلي المشتعل والخارجي غير المتفهم لحقيقة الأحداث الدامية . كل الإنجازات والمناصب السابقة كانت فترة إعداد الديبلوماسي الذي كان يتطلع الى دور أممي، يتوج من خلاله جهوده السابقة في العمل الديبلوماسي الوطني والعربي، لذلك لم يكن من المصادفة. ان يضعه القدر في موقع تاريخي وحدث استثنائي وتاريخي بكل المعايير . عندما بدأ عمله رسمياً مع الأممالمتحدة كممثل خاص إلى جنوب إفريقيا، وكمسؤول عن بعثة المراقبين، التي أشرفت على أول انتخابات ديمقراطية متعددة الأعراق، بعد القضاء على نظام التمييز العنصري، وأفضت إلى تولي الزعيم التاريخي نلسون مانديلا الحكم في جوهانسبورغ . لتتوالى بعدها المهام المعقدة لرجل يملك من الصبر أضعاف ما تملك منظمته من الحيلة والقدرة الفعلية على فك فتيل النزاعات، حيث قام بالوساطة الدولية ممثلا للهيئة الأممية في عدة مناطق نزاع في الفترة ما بين 1994 الى 1996 في هايتي وزائير ، ثم في الحرب الأهلية. في اليمن مبعوثا أمميا بين صنعاء وعدن . ثم مهام اخرى كلف بها من طرف الأممالمتحدة لحل تفاوضي في العديد من بؤر التوتر والتي كللت في العديد من الأزمات بنجاح، وبين عامي 1997 حتى عام 1999 كان مبعوثاً أمميا إلى أفغانستان، في مهمته الأولى، أما الثانية فتلت اجتياح البلاد بعد أحداث 11 سبتمبر/2001، وسقوط نظام طالبان ليعود إلى كابول مبعوثا أمميا . وبعد الغزو الامريكي للعراق عين الابراهيمي كأول مبعوث للأمم المتحدة مقيم في بغداد وذلك في عام 2004، حيث اشترك في الاعداد للمرحلة الانتقالية ما بعد زوال نظام صدام حسين . كان من الواضح ان "الإبراهيمي" الذي استقال من معظم مهامه الدولية، وراح يقضي فترة نقاهة من النزاعات في بيته الأسري بباريس عام 2012. يدرك جيدا انه قد لا يحرز أهدافا أبعد مما حققها رئيسه السابق كوفي عنان في الملف السوري، لذلك أبدى تمنعا من تحمل المسؤولية قبل ان يقبل بها على مضض واصفا إياها ب "شبه المستحيلة" .. قبول "الإبراهيمي " بهذه المهمة لا يختلف كثيرا عن شخصيته المائلة للديبلوماسية وللحوار والمحاولات المستميتة من اجل حل نزاعات أعقد أكثر من اللازم .. الكثيرون لاموا الرجل قبوله بالمهمة - تحت ضغط المنظمة الأممية- سيما وأنها غالبا ستكون اخر مهامه الدولية .. لكنه في نهاية المطاف انصاع لفكرة الديبلوماسي فيه .. وهي فكرة لا يمكن النظر اليها او تجزيئها عن شخصيته وتفكيره وتجربته التي عاند خلالها كل شروط الفشل ليولد مقادير التوفيق والنجاح في المهام الساعية من اجل السلم والحرية والاستقرار . نجح في معظمها واخفق في بعضها الآخر، كما هو حال "المهمة السورية " . أتت استقالة "الإبراهيمي " اذن من مهمته في الملف السوري، لتريح محبيه بذات قدر خصومه "المفترضين "، فأولئك الذين ظلوا ينتقدونه كانوا في كل مرة يدفعونه لخيار الاستقالة، ومحبيه ومؤيديه كانوا يشفقون على هذا المخضرم الثمانيني الذي حقق انجازات عظيمة في مسار حياته، ان يبقى مبعوثا لمجتمع دولي وعربي لا يوفر أي "قدرة او إمكانات " لإنجاح مهمته، ولا يملك ذلك المجتمع "المفوض للمبعوث " إرادة حقيقية لإيجاد حل لتلك الأزمة المتشعبة ! لذلك فان استقالة الرجل قد تكون اراحت أطرافا كثيرة، من بينها شخصه، سيما بعد أن شعر بطعنة حادة من قبل نظام وعده بالمساعدة لإنهاء الأزمة فإذا به يعمق الأزمة اكثر من اللازم من خلال ترشيح رئيسه مجددا لانتخابات عبثية، او "لاستحقاق ينسف مفاوضات السلام " - كما وصفها الابراهيمي نفسه - حيث اتهم دمشق باللجوء إلى "مناورات تسويفية" لتعطيل المحادثات.. وهو ربما ما دفعه هذه المرة الى الاستقالة بعد عام من التفكير .. حيث سبق وان قال للصحفيين في ابريل من عام 2013 : كل يوم أستيقظ وأقول لنفسي عليّ أن أستقيل، لكني لم أفعل".. ها هو قد فعلها وضمنها أيضاً "اعتذارا للشعب السوري على فشل المهمة .. لكنه في ذات الوقت قال إن الأزمة ستنتهي " وهو بمثابة "نذر" رجل خبر النزاعات حتى لو شاخ عن حلها مؤخراً نتيجة عدم توفر ظروف موضوعية وذاتية كافية، فضلا عن تداخل الأدوار الدولية والإقليمية والمحلية بشكل يجعل من الحل عصيا حتى لا نقول مستحيلا !