(6) عَمِل بمهنية عالية، لم تغره الامتيازات ولم تخفه التهديدات الجدية والكثيرة، كما لم يخضع للابتزاز الرخيص الذي قادته أعتى وسائل الإعلام العالمية تأثيرا ورواجا، مضى في طريقه ليضع العالم بأسره أمام جرائم ترتكب خلف عيون الكاميرات، وشاشات التلفزة.. أجساد شباب في عمر الورد تبقر، ليتم المتاجرة بها.. شهداء صغار السن والتجربة لم تكتف "الدولة العبرية" بسرقة حياتهم في بواكر العمر، بل مضى جيشها إلى سرقة أعضائهم والمتاجرة بها في مستشفيات "تل أبيب - وأمريكا".. هكذا وثق الأمر بالأدلة الدامغة وبأعين الكاميرا ليضع العالم أمام سؤال الضمير.. ! حاورته ورافقته في عدة جولات بالعاصمة الجزائرية، وسيل التهديدات لا يتوقف على بريده الإليكتروني وتلفونه المحمول وبيته الذي غادره مرغماً نحو مكان أقل خطورة، بل إن بعض التهديدات نُمِق على أعمدة بعض الصحف اليمينية المتطرفة. قال لي في الحوار "قد يتمكنون من قتلي.. لكنهم يعلمون جيدا أنهم قد فشلوا في إسكاتي أو في ابتزازي، كما فعلوا مع آخريين.. حينها سأموت مرتاح الضمير".. إنه الصحفي السويدي "دونالد بوستروم". (7) لم يكن من المصادفة أن وجدته مديرا للمدرسة الثانوية، التي كنت أدرس بها، فقد كانت سمعته قد سبقت حضوره، مربياً ومدرسا وشاعرا متفردا، بل من مؤسسي مدرسة "الغابة والصحراء" الشعرية، فضلا عن انتسابه الأول لمدرسة "أبو اللو". كما لم يكن من المصادفة أيضاً أن أولى النشاطات التي قام بها فور تعيينه هو تبنيه وإشرافه على "جمعية فكر وإبداع الأدبية" التي كنت مسؤولاً عن أنشطتها الثقافية ويرأسها صديقي توفيق قسم الله.. فمنذ تباشير حضوره كان قد أحال المدرسة إلى شعلة أدبية وثقافية تضج بالنشاط، بجانب الرسالة التعليمية، ليجعل منها بالفعل مدرسة نموذجية تماماً كاسمها "الأمل النموذجية" -الذي خلعه عليها -.. وحين ثارت بعض الزوابع في الصحف والصالونات الأدبية -على قلتها وعلتها- أثر إعلان نتائج إحدى دورات "جائزة رايموك الأدبية" التي كان عضوا بلجنة تحكيمها، آثر أن ينأي بنفسه من الانزلاق في تلك الحملات، رغم الاتهامات الكثيرة التي طاردته بالانحياز لطرف بعينه، والتشكيك في نزاهته للحد الذي بلغ فيه القول "إنه لم يقرأ الأعمال المرشحة، بل تم إقحام اسمه عنوةً في اللجنة، دون أن يملك قدرة على الاعتراض" حينها كنت ورفاقي ضائقين من تلك "الدعاية السوداء" بحق هذه القامة الأدبية الشامخة، نحاول جاهدين، أن ندفع عنه التهم، أو ندفعه للرد والتفنيد .. لكنه بدا هادئا وواثقا يقول "يا أبنائي لا يصح إلا الصحيح.. سيذهب الزبد جفاء ليبقى ما ينفع الناس"، ولم يلتفت أبدا إلى ذلك المنحدر، ليهتم بما هو أهم وأبقى وأرصن!.. إنه المربي الفاضل والشاعر الكبير -الذي لازلت أحاول القبض على جمر حكمته-، شاعر القطرين (ارتريا والسودان) الأستاذ محمد عثمان كجراي. (8) كان مؤتمر حركة فتح في يومه الثاني بالضفة الغربية، التي بدت أنها منعزلة عن جسدها الآخر في ظل حالة الانقسام الحاد بين الفصيلين (فتح وحماس)، وأنا أحاول بالكاد الوصول إلى قيادييها عبر الهاتف، سيما وأن معظمهم يستخدم هواتف لا يمكن الوصول إليها نتيجة عدم وجود خط هاتفي مباشر بين الجزائر وترقيم شركات الدولة العبرية العاملة في الضفة. وحين تمكنت أخيرا من إيجاد خط فلسطيني لرئيس اللجنة التحضيرية، وتكرم الرجل بالموافقة على إجراء الحوار الهاتفي حدث مالم أكن أتوقع!! بضع دقائق، من الحوار وتوقف كل شيء.. لم ترق أسئلتي للضيف.. بدت له أنها دفاع عن الفصيل الآخر.. توقف منفعلا دون أن يتنبه -أن الصحفي غالبا ما يتبنى وجهة النظر المعارضة للمتحدث حتى يمنحه فرصة الرد على كل الأسئلة-، صمت ثم طلب مني إعادة تعريف اسمي والعنوان الصحفي الذي أعمل له، ثم رد بيقين غريب -لم أعرف من أين أتى به- قال: أعرف من أنت ولصالح من في حماس تعمل وأعرف أيضا من أي دار في غزة تتحدث سلم لي على معلمك" ثم أغلق الخط. ولم يرد لاحقا.. إنه المناضل والمفاوض، والوزير الفلسطيني السابق. نبيل عمرو ! . (9) كنت قد قرأت له روايتين، ولم أتصور يوما أن ألتقيه أو أتجاذب معه أطراف الحديث، لذلك ربما تعمدت أن أسجل نفسي في دورة للبيانو -كانت جمعيته تقيمها بين فترة وأخرى-،.. ربما حتى أقلص المسافة بيني وبينه، وحتى تتيح لي السانحة فرصة أن أشاهده عن قرب.. وحين عملت مراسلا لصالح إحدى الصحف العربية، اقتربت منه طالبا إجراء حوار صحفي، تبسم ثم سألني هل قرأت لي؟ أجبته بنعم فراح يجري لي امتحانا شفويا حول شخوص رواياته التي قرأت.. ثم وافق -فورا- على الحوار.. وفي خضم الحوار كان في كل لحظة يتوقف ليسألني هل ستتمكن من نشر كلامي كاملا؟!، سيما وأن الحديث قادنا إلى الفكر والسياسة، متجاوزا محطات الأدب والرواية. وبعد أيام من ذلك وبعد نشر الحوار كاملا كما أراد، جئت لأزف له الخبر، فوجدته في محرابه الجميل مبتسما وقد قرأ الحوار يقول لي: كيف تمكنت من تمرير كل تلك العبارات الناقدة، وربما الصادمة، في صحيفة خليجية ؟! .. وكان ذلك الحوار هو عربون المحبة، وجواز مرور لحوارات وأحاديث لاحقة لا زلت أفخر بها، إنه الروائي الكبير الراحل المقيم الطاهر وطار. أو "عمي الطاهر" كما درج الجزائريون مناداته. (10) عرفته منذ أكثر من أربع سنوات في إحدى مقاهي وسط البلد بالعاصمة المصرية القاهرة، شاب فارع الطول ضعيف البنية، باذخ الثراء الوجداني، تراه مبتسما، ما إن يلمحك حتى يرمي بجسده النحيل المتعب في أحضانك، ثم ما يلبث أن ينسج خيوط الحديث نحو الموسيقى خاصة "القناوي" وجديد الأحداث السياسية في الساحة، بذهن المتابع الحصيف وعيون الكاميرا - عشقه الأول-.. توطدت العلاقة أكثر من بدايات الثورة المصرية، لأجده خلفي ومن أمامي في كل فعالية ونشاط بالكاد يحاول حمايتي من مكروه ما، يتهددنا في كل لحظة بساحات بدت مواقع معارك لا تتوقف. في موقعه ميدان رمسيس (أول جمعة بعد فض اعتصام رابعة) وفي عز إطلاق النار تهت عن صديقي "وائل" الذي تقدم أكثر من اللزوم نحو مصدر النار .. وبين زحمة الناس وتدافعهم الإنساني، وجدته يدفعني نحو الخلف ثم يجري نحو عازل هو عبارة عن برميل مهملات ليجعله متراسا بيني وبين الرصاص المنهمر.. صرخ يقول لي: اقعد هنا وأوعا تتحرك".. سألته: ما شفتش وائل يا محمد؟ رد باقتضاب: سيبك منه دا حد مجنون" ثم تقدم هو الآخر نحو مصدر النار أو الجنون حاملا كاميرته، وهو يوصيني -مرة أخرى- أن لا أتحرك قيد أنملة.. كانت تلك آخر وصاياه التي التزمت بها تماماً إيثارا للسلامة. وكانت تلك أيضاً آخر المعارك التي شاهدته فيها، قبل أن أتلق خبر انتقاله إلى الرفيق الأعلى بعد أشهر قليلة. إنه النوبي الأصيل، المصور الصحفي والثوري محمد عبد المنعم المعروف ب "نوبي" رحمات الله عليه.