''أقول لكم شيئا، أريد الحقيقة·· العلاقات بين الدول الكبرى تبنى على الحقيقة وليس على الأكاذيب··لا يمكن القول أن الصداقة بين الشعوب والدول قادرة على الصمود أمام الأكاذيب، يجب إلقاء الضوء، ليس هناك ما يخفى، ومن جهتي سأعمل من أجل تسليط الضوء على هذه القضية، وسأرفع طابع السرية عن كل الملفات التي تطلبها العدالة الفرنسية في سبيل الوصول إلى الحقيقة''· بهذه الكلمات علق الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي وأمام ضيفه الرئيس البرازيلي ''لولا داسيلفا'' على شهادة الملحق العسكري السابق في السفارة الفرنسية بالجزائر فرانسوا بوخفالتر، التي شكك من خلالها في رواية السلطات الجزائرية التي تحمّل مسؤولية اغتيال الرهبان السبعة لجماعة ''الجيا'' في تبحيرين سنة .1996 وبهذه الكلمات كذلك أعطى الضوء الأخضر وفي صيغة الأمر لوزيرة العدل الفرنسية ''ميشال أليو ماري'' التي سارعت بدورها للتأكيد على أنها ''ستعمل كل ما في وسعها لتمكين التحقيق في اغتيال الرهبان السبعة من الوصول إلى نهايته، داعية القضاة إلى مواصلة التحقيق بكل الوسائل الممكنة ولو تطلب الأمر اللجوء إلى التعاون الدولي''· ما يستوقفني بداية في التصريحين، هو قول ساركوزي ''أن العلاقات بين الدول الكبرى تبنى على الحقيقة وليس على الأكاذيب'' وهذا غير صحيح بالمرة، فالعلاقات بين الدول تقوم في جانب هام منها على الكذب، وما خفي منه كان أعظم، وحتى لا نذهب بعيدا ونقلب صفحات تاريخ العلاقات الفرنسية الجزائرية، منذ البيان الأول الصادر عن الإدارة الفرنسية التي وعدت الشعب الجزائري بتحريره من ''الإستعمار التركي'' إلى اليوم، لنبرهن للرئيس الفرنسي عن عدم دقته حتى لا نقول خطأه، نذكره فقط بأكبر كذبة عرفتها العلاقات الدولية في مطلع الألفية الثالثة والتي على أساسها تم غزو العراق· ألم يتم غزو هذا البلد بناء على معلومات كاذبة سوّقتها أعظم دولة بالبيانات والخرائط للدول الكبرى في مجلس الأمن؟ ودون الحديث عما تقوم به مخابرات الدول الكبرى في توفير المعلومات الصحيحة والكاذبة التي تبنى على أساسها المواقف، وتتخذ القرارات، نقول لساركوزي أن تعريف السفير عند بعض أساتذة العلوم السياسية هو ''شخص يحسن الكذب لصالح بلده''· وإذا كان غير صحيح أن العلاقات بين الدول لا تبنى على الأكاذيب، فالصحيح هو أن العلاقات بين الدول لا تبنى على العواطف، ولكنها تبنى على المصالح، وهذه هي التي تجعل العلاقات الدولية تبنى أحيانا على الأكاذيب· والفرق بين الدول الكبرى والدول الصغرى، هو أن علاقات الدول الكبرى مع الصغرى يتحكم فيها العقل، وعلاقات الدول الصغرى مع الكبرى تتحكم فيها العواطف بحكم مجموعة من العوامل السياسية والثقافية والإقتصادية وغيرها التي تشكل مجتمعة علاقة تبعية محبوبة، وأحيانا مرضية، خاصة بالنسبة للمستعمرات السابقة تجاه الدول الإستعمارية، مثلما هو الشأن بالنسبة لعلاقة الجزائربفرنسا، فهي بالنسبة للبعض الذين يتكاثرون بسرعة مع مر السنوات، فيما يخص عامل من العوامل التي تجعل العلاقة عاطفية، أي لغة المستعمر· فقد كان لدينا بعد الإستقلال من يسمون (Les Francophones)، أي الذين يحسنون استعمال اللغة الفرنسية أكثر من العربية، لكنهم وطنيون يحبون بلدهم أكثر مما يحبها المتاجرون بالدفاع عن العربية· ومع مر السنين ظهر عندنا ما أصبحنا نسميهم Les Francophiles)) الذين يحبون اللغة الفرنسية إلى درجة تجعلهم تابعين لبلد هذه اللغة، وقد تطور هذا الحب عند بعضهم إلى درجة العشق والهيام وهؤلاء من يسمون Les Francomanes))، أي الذين أصبحوا يعتبرون أنفسهم فرنسيين أكثر من الفرنسيين، وهم مستعدون للتضحية بأي شيئ من أجل هذه اللغة وبلدها· مثل هذه العواطف في الثقافة والسياسة والإقتصاد والإجتماع وغيرها هي التي تضعف الدول الصغيرة، وكلما كانت تبعية طبقتها السياسية والثقافية والإقتصادية أكبر، كلما كانت تبعية البلد أشد وطأة، وتبعية الجزائرلفرنسا في مختلف المجالات لا أحد يمكنه نكرانها، فهي اليوم وبعد نصف قرن تقريبا عن الإستقلال تصل عند البعض إلى درجة التفريط في دم الشهداء وحقوق الأجيال، فقد أصبحنا نسمع حتى بعض كبار المجاهدين وأبنائهم وحتى أبناء شهداء يستنكرون طلب الدولة الجزائريةلفرنسا بالإعتذار عن جرائمها الإستعمارية، بل ومنهم من يطالب الجزائر بطي صفحة الماضي وتوقيع معاهدة الصداقة مع فرنسا دون قيد أو شرط· لو قلت أن موقف العقيد معمر القذافي في أول زيارة له للبلد المستعمر إيطاليا الذي وضع على صدره صورة عمر المختار مقيد بالسلاسل ومحاط بضباط إيطاليين وهم يقودونه للإعدام شنقا، وأخذ معه في الزيارة نجل عمر المختار، رغم أن إيطاليا اعتذرت لليبيا، وتعهدت بدفع تعويضات لها، هو موقف رجولي وشجاع لقيل لي أن قائد الثورة الليبية لا يقاس عليه، ولهذا أقول عوضا عن ذلك أن موقف ساركوزي في حد ذاته درس لنا، ذلك أنه لا يريد التفريط في دم سبعة رهبان، حتى وإن كان مقتلهم تم عن طريق الخطأ كما يقول ملحقهم العسكري في سفارتهم بالجزائر الذي أحيا القضية بعد 13 سنة من وقوعها، في حين ينصح بعض الساسة وحثالة المجتمع عندنا بالتفريط في دم مليون ونصف المليون شهيد في ثورة التحرير وحدها، وعشر سكان الجزائر منذ بدء الإحتلال· وحتى لا ننساق وراء العواطف في تحليلنا للموضوع، فإننا نعتقد أن سؤالا كبيرا يطرح نفسه بإلحاح وهو لماذا هذه ''الجعجعة'' الفرنسية بعد أكثر من عقد، رغم أن مجموع المسؤولين الفرنسيين أثناء وقوع المجزرة في 1996 كانوا على علم بحيثيات ما جرى حسب الرئيس السابق لمصلحة محاربة الإرهاب في محكمة باريس؟ وعن هذا السؤال الكبير تتفرع مجموعة أسئلة حتى يدرك بعض الغافلين خلفيات وأبعاد القضية: لماذا تشجع فرنساالجزائر على السير في طريق المصالحة الوطنية، لإنهاء دوامة العنف، وتحقيق الأمن والإستقرار، وفي نفس الوقت تفتح ملف اغتيال سبعة رهبان، وتهدد باللجوء إلى التعاون الدولي، أي إلى تدويل هذه القضية؟ لماذا تريد فرنسا تشويه صورة وسمعة الجيش الوطني الشعبي، بعد أن شوهت وجرّمت جبهة التحرير الوطني، وحولت جرائم جيشها في الجزائر إلى فعل إيجابي بمقتضى قانون أصدره نواب الشعب الفرنسي في البرلمان سنة 2005؟ هل صحا ضمير فرنسا النائم أو المنوم منذ 13 سنة، أم أن وراء هذه ''الجعجعة'' الفرنسية أهداف، لا علاقة لها بدماء الرهبان السبعة، ولا برؤوسهم التي قطعتها ''الجيا'' اقتداء بجنود فرنسا الذين قطعوا رؤوس قادة جزائريين وغرسوها فوق الأوتاد؟ إن دم الرهبان هو بمثابة قميص عثمان يرفع عند الضرورة لتحقيق مآرب عجزت فرنسا عن تحقيقها بطرق ووسائل أخرى، والأكاذيب المغلفة بالبحث عن الحقيقة، هي في الحقيقة البحث عن تحقيق المصالح التي تظل الحقيقة الوحيدة الدائمة في علاقات الدول· لقد سعت فرنسا ساركوزي بكل الوسائل لأن تجعل من الجزائر قاطرة الإتحاد من أجل المتوسط، لكن هذه القاطرة مصابة بمرض ''انفلونزا الكيان الإسرائيلي'' الذي يمنعها من التحرك، وهو ما يجعل كل العربات المتراصفة وراءها مشلولة· وتوددت فرنسا ساركوزي للجزائر حتى تساهم بجزء من مليارات احتياطها النقدي في إنعاش اقتصادها الذي تضربه الأزمة المالية العالمية في العمق، وذلك عن طريق صفقات السلاح، ومنح الأفضلية لشركاتها التي هربت من الجزائر وقت الشدة، لكن هذا الباب هو الآخر لم يفتح بسهولة خاصة أمام شركات تبحث عن طوق نجاة من الغرق، والتي ترى أن الجزائر هي طوق نجاتها· وبذلت فرنسا ساركوزي كل ما في وسعها من أجل أن تكون الجزائر قوة صد وردع ورد ''للحراقة'' الأفارقة والجزائريين في مقدمتهم، لكن هذا لم يتحقق لها· وحاولت فرنسا ساركوزي إقناع الجزائر في أن تتولى مهمة محاربة القاعدة ليس في الجزائر فحسب، بل في منطقة الساحل بأكملها، وهو ما يفتح لها أبواب صحرائنا على مصراعيها للعودة إلى الفردوس المفقود، في شكل قواعد مثلما تريد الولاياتالمتحدةالأمريكية منذ مدة، وباريس تعتقد أنها الأحق بهذا الإمتياز، أو على الأقل في شكل خبرة تدريب وتصدير للأسلحة، لكن لسوء حظها ما يزال عامة الناس في الجزائر يعتقدون أن وجود جنود فرنسيين على أرض الجزائر هو أسوأ من الطاعون والكوليرا· وقد استعملت فرنسا ساركوزي كل وسائل الترغيب والترهيب لجعل الجزائر توقع معاهدة الصداقة، وتطوي صفحة الإعتذار عن استعمارها للجزائر، لكن هذه الأخيرة ما تزال تتمسك بشرط الإعتذار قبل توقيع المعاهدة· هذه الأمواج الفرنسية التي تتكسر على الصخور الجزائرية، والتي تقف في وجه ''تسونامي المصالح الفرنسية في الجزائر''، خاصة منها القذرة التي تريدها فرنسا تحت الطاولة، والتي يحلم بها الرئيس ساركوزي، هي التي تجعله يلجأ إلى أسلوب الترهيب الذي استعمله مع سوريا، ملفوفا في رداء حريري أسماه ''البحث عن حقيقة اغتيال الرهبان السبعة''، وهو في هذا تلميذ أخواله الذين استطاعوا بالمكر والدهاء أن يحولوا المقاومين الفلسطينيين إلى إرهابيين، ويسوقوا أنفسهم للعالم على أنهم الضحية· فساركوزي يريد تسويق الجزائر للعالم على أنها مقترفة جرائم في حق رجال الدين، بعد أن جرم جبهة التحرير، وبرأ جيشه من جرائمه حتى التي يعترف بها قادته، وهكذا بدلا من أن نطالب نحن فرنسا بالإعتذار والتعويض المادي والمعنوي، بدءا بكنز القصبة، وجردا لما نهب على امتداد 132 سنة، قد نجد أنفسنا يوما أمام قرار من مجلس الأمن وفرنسا أحد أعضائه الدائمين يطالبنا بالإعتذار والتعويض على غرار ما فعلوه بليبيا الشقيقة، ولما لا التعويض للمعمرين· ما هو مؤكد أن ساركوزي ''الذي ينطبق عليه المثل القائل ضربني وابكى واسبقني واشكى'' يجر الجزائر إلى ساحة معركة وهمية، لكنها مخيفة لبعض رموزنا في الحكم أو خارجه والتي تمسك فرنسا برقابهم، أو تضع يدها على أموالهم وتتحكم في مصالحهم، لتجعلهم أكثر ارتباطا ووفاء لها· وما هو مؤكد كذلك أنه حتى وإن تنازل أتباع وأذناب عن حق لا يملكونه، فإن الجزائر لن تتنازل، وحق شعبها لا يزول بالتقادم، وسيأتي يوم تعتذر فيه فرنسا عن استعمارها للجزائر وعن جرائمها في حق أبنائها مثلما اعتذر لها الألمان، ومثلما اعتذرت دول استعمارية أخرى للشعوب التي استعمرتها، ولو بعد قرون·