اعتادت الحركة الكشفية الجزائرية أن تحتفل من كل سنة في 27 ماي بعيدها الوطني، الذي يمثل مسار النضال الفردي و الجماعي لأبناء الحركة، من تاريخ مؤسسها " الشهيد القائد محمد بوراس" إلى كل التاريخ النضالي إبان الثورة التحريرية، ثم في مسار البناء و التشييد الذي عرفته الجزائر بعد استقلالها، ويسجل هذا التاريخ أيضا وقفة على مآسي عاشها ويعيشها التكشيف منذ سنوات طويلة، جراء انقسام و استقطاب حاد داخل المنظومة الكشفية، ضيع كثيرا من الجهد والطاقات، وأدخل الحركة في رواق لا يصلح أن تكون فيه، رواق "التسييس" الذي لم تجن منه إلا هذا الانقسام، وهذا الشتات الذي ربما لا يعيه الكثير من غير المتابعين لتاريخ الحركة، ولكنه أوجاع وحسرة لدى أبنائها التاريخيين وجيلها المتطلع للممارسة كشفية مدنية راقية، تخدم المجتمع وليس الفئات والعصب. الخصومة .. ومسارات الوحدة... والواقع المختلف يتفق كل المتابعين لتاريخ المنظومة الكشفية أن "مؤتمر الإنبعاث" الذي عقد من أجل يعاد بعث الحركة الكشفية من جديد وفي إطارها الأساسي، أي أن يتم إبعادها عن كل جاذبات سياسية وعن أي تحزبات، خصوصا وأنها عرفت في فترة من تاريخها إلحاقها بالمنظمات الجماهيرية للحزب الواحد، وهذا ما كان الدافع الرئيسي بعد الانفتاح الديمقراطي في إعادتها لسيرتها الأولى، بمعنى منظمة "لا سياسية" ليس فقط لا تمارس السياسة بل لا تبتعد عنها نهائيا، وهذا ما نجده في كثير من التنظيمات الكشفية العالية التي لا تسيس النشاط الكشفي ولا تؤطره في المجال الحزبي ولا السلطوي، وذلك لأنها منظمة من أجل الجميع مع كل الاختلافات، بل و إن الاختلاف يعد عنصر فعالية و نشاط وقوة فيها، والدليل ما يذكره الجميع في النشيد الرسمي للكشافة : أدنا الهدى رسالة الفدا ***** من كل جنس من كل دين أعود للحالة التي مرت بنا إلى الانقسام الحاد والمستمر إلى اليوم، ففي تسارع الأحداث بعد مؤتمر الانبعاث، وبداية النشاط الحزبي المكثف، وانطلاق بعض التوجهات السياسية للبحث عن مساحات حيوية ونشاط لها، برز من داخل البيت الكشفي و في القيادة الوطنية من كان يدفع إلى تحزب الحركة، وإلغاء صفتها "اللا سياسية" إلى أن تكون معبرة عن توجه لون حزبي "إسلامي"، هذا التحول دفع الكثير من القادة إلى أن يقفوا في وجه هذا السيناريو الخطير و المهدد لتاريخ كبير من النضال، فوصلت الأمور إلى مشاهد مأساوية بين مدافع عن استقلالية "الكشافة، وبين من يسعى إلى "تحزيبها"، مما إلى حصول أحداث خطيرة – يمكن أن يتحدث عنها بأكثر إسهاب و دقة من عاشها من القاة الذين مازالوا على قيد الحياة- ومواقف متصلبة بين الطرفين في مسألة اللاعودة في موقف كل طرف، غير أنه وفي الأخير وبفعل تدخلات ما، وبفعل ضغوط ما، تم الإبقاء على القيادة الكشفية التي أسهمت في تحزيب الكشافة، وذلك بصورة قانوينة ورسمية، إلا أن هذا لم ُيثن من كان في الطرف الثاني، من مواصلة النشاط الكشفي ومن غير اعتراف بهذه القيادة المتحزبة، فانضموا تحت غطاء "جمعية قدماء الكشافة الإسلامية الجزائرية"، وقد كان في ذلك "مخرج طوارئ"حتى لا تتمتع القيادة المغتصبة للحركة بكامل السلطة وفرض الأمر الواقع. وبذلك أصبح في الساحة أفواج محافظات ولائية كشفية تتبع للقيادة العامة في "الكشافة الإسلامية الجزائرية"، وفي نفس السياق أفواج ومحافظات وفي نفس الولاية تتبع لجمعية قدماء، ولكلا الطرفين اعتماد رسمي وأختام وحسابات بنكية، مما يطرح السؤال الكبير حول الخلفية الحقيقة لتوصيل الخلاف إلى هذه النقطة الخطيرة. المهم أن هذا الوضع كان له الكثير من الانعكاسات على العمل الكشفي و على القاعدة، إلا أنه ولله الحمد لم يكن له الأثر الكبير على نشاط وقعالية الحركة داخل المجتمع، رغم كل الهزات التي وقعت وتقع على مستوى القيادة المركزية ، وكان يصل ارتداده للقاعدة ، إلا أنه وللأمانة بقيت الأفواج تنشط المناسبات و تقيم المخيمات و المعسكرات والأيام الدراسية وتقيم مجالسها الولائية، رغم كل الحساسية التي كانت ولا تزال تطبع الجو الكشفي العام. في كل هذا الانقسام بقيت هناك أصوات تنادي للوحدة، وتدفع نحو راب الصدع الحاصل داخل الحركة، إلا أن كل ذلك لم يقدم شيئا، فعقد في بداية الانحراف الحقيقي للحركة العديد من اللقاءات الوطنية والولائية، بغية إيجاد المخرج السليم والتصحيح التاريخي لهذا الطأ الذي قاد إلى حالة غير طبيعة ولا تشرف التارخي و المسار النضالي للكشافة الجزائري، إلا أنه وبواقع المتابعة ورصد هذه الندوات وتوصياتها، بقيت الأوضاع كما هي، بل زاد الإنقسام عمقا داخل الحركة، خصوصا مع توجه رسمي من قبل السلطة في هذه الوضعية إلى الإعتراف ومخاطبة الجهة التي أعلنت وصايتها القيادية و السياسية على الحركة، وإهمال لكل الرصيد النضالي لكبار القادة الكشفيين الذي كانوا في الصف الثاني الرافض لما سبق قوله من تسييس و تحزب، وهو ما عمق الرؤية الدونية التي كان يتعامل بها وينظر بها جناح "شارع زيغوت يوسف"- مقر القيادة العامة- للقدماء ومكتبهم التنفيذي الذي كان بزعمهم خارج الإطار القانوني ولا يمثل إلا أشخاصا وفقط، ولكن الواقع كان بعكس هذه الصورة، فقد كانت نشاطات أفواج ومحافظات وقيادات جمعية قدماء الكشافة أثر فعالية وحضورا من تنظيمات الجناح الثاني وهذا ما يثبته بقاء الكشفيين من كبار وصغار وقدماء على مبدأ "لا سياسية " الحركة الكشفية، بعكس من تاجر بالمنظمة وبكل رصيدها بغية تحقيق بعض المصالح الفئوية و الحزبية وحتى الشخصية، وهو ما عمق أكثر مرة أخرى هذا الانقسام. مستقبل الكشفية ... تكريس واقع وبحث عن بدائل بعد هذا العرض الموجز جدا ، والذي لم يكن تأريخا بقدر ما كان توضيحا لوضعية ربما يجهلها العديد. فالحركة الكشفية اليوم، لا تزال تعاني نفس هذا الانقسام، ومما زاد من الشقوق والتصدعات فيه أكثر، هو تغييب جناح "جمعية القدماء" عن كل المحافل الدولية والإقليمية، الذي قد يكون بمباركة رسمية سلطوية، وإبراز القيادة العامة " على أنها الممثل الوحيد والشرعي للكشافة، وهذا ما يخالف الواقع، ويقفز على ما كانت تعيشه المنظومة الكشفية ممثلة في قواعد "جمعية قدماء الكشافة"، من تعبئة و نشاط خصوصا في السنوات التي كان فيها الوطن في محنة أثرت على كل التنظيمات الشبانية والجماهيرية، ولم يبق في الساحة إلا الحركة الكشفية تؤطر وتفعل الشباب بل وتحميهم من مخاطر الانزلاق، في هذه الأثناء كان جناح "شارع زيغوت يوسف" منشغلا ببعض المكاسب المادية وبتدوير للأدوار بينهم وتسلق سياسي ظهر بعد زوال محنة الوطن. الحركة الكشفية في حقيقة الأمر لا يمكنها أن تكون إلا منظمة وطنية وإسلامية، هدفها تربوي وتعليمي و تثقيفي، زيادة على ذلك تعبوي وتنظيمي، وبالتالي فإن الدور الذي يمكنها أن تلعبه في المجتمع يتجاوز التصور و الخيال، لو وجدت أجواء تسهم وتثمن دورها وتساعدها على تجاوز عقبات مفتعلة، وتمنحها حماية من كمائن الغدر و التقسيم. إلا أن الحال في الجزائر، يظهر أن الحركة الكشفية اليوم وفي جناحها "المسيس"، لا تريد لها إلا أن تبقى في شكليات وبرتوكولات وواجهات جماهيرية، لا تقدم للمجتمع أي إضافة، وهو حقيقة واقع الحركة اليوم، فقد أفرغت من كل جهد يعطي الدفع الحقيقي للمجال المدني في عمله، وأطفأت كل جذوة نشاط وعمل مستقل عن البهرجة والمحاصصة و التزييف، بل تحولت إلى حركة تساوم، وتتملق، وتتسلق، وتتعدى على الغير، بل ووصل بها الحال إلى ممارسات لا أخلاقية بين القيادات، وسمسرة سياسية تمارسها لبعض المواقع السياسية، وهو ما يعتبر الخطر الحقيقي الذي يمكنه أن يأتي على كل تاريخ المنظمة ونضالها، الذي يعبث بها عابث لا يعرف له نضال كشفي ولا يفقه في التكشيف إلا لبس الشارات والمساومة على مغانم سلطوية و شخصية. ولذلك فإن مستقبل الحركة اليوم مرتبط بقواعدها وليس قياداتها، وهنا أؤكدل أن القول موجه للطرفين، ذلك أن الخصومة التي أثرت على الفعالية و الحضور للكثير من الطاقات و الإمكانات البشرية الهائلة التي ضيعها هذا التمزق، لابد وان يتم تجاوزه من خلال وقفة مبدئية و نهائية لكل قواعد الطرفين، وإعلان التوحد واقعيا و ممارساتيا، وبدأ صفحة جديدة تقودها قيادة لا تؤمن إلا بفكرة واحدة وهي "انتشال الحركة الكشفية من جمدها وشللها ومن مخاطر ومزالق تسييسها إلى مرحلة جديدة من العطاء و التوجه للمجتمع بفاعلية أكثر". أما غير ذلك فالواقع لا يبشر بمستقبل أفضل لهذه الحركة الأم، بل إن استشراف المستقبل بما يتيحه الواقع من معطيات،أن الحركة سيأتي عليها يوم ما وستكون هي باقة الورد التي توضع على القبور. أخيرا... أمل في جوف الغيب الحركة الكشفية قد يقول قائل عنها أنها أكبر من صراع الأشخاص، وأكبر من طموحات فردية شاذة، وأكبر من أن تحشر في زاوية أو في موقف وتوجه، لسبب واحد أن الحركة التي تجاوز عمرها القرن وتجاوز عدد منتسبيها أكثر من 50 مليون، لا يمكن أن تتراجع أو تنتهي لما ذكر آنفا، خاصة وأن في الجزائر لها حضور دولي و إقليمي و تاريخي مشهود، إضافة إلى تميزها وتفردها على كثير من التنظيمات الكشفية العربية والإسلامية، وهذا بداية من الشعار الذي يختلف عن كل الشعارات الكشفية في العالم. إلا أننا نذكر أن خوفنا ناتج من واقع لا يبعث عن الأمل و التفاؤل، زيادة على ذلك أن الخوف هو من كثرة حبنا وحسرتنا على هذه الحركة التي ربت مجاهدين، وأنجبت أبطالا أنشدوا النشيد الوطني في فرنسا في أيام الاستعمار، وحركة ثبتت رغم كل التقلبات، إلى أن جاءها الطعن من داخلها ومن أبنائها. من مجموع كل هذا الخوف، نتمنى أن يكون مستقبل الحركة أكثر حيوية واقل ديماغوجية، وأقل خصومة، وبعدا عن كل ممارسات السياسة و أوحالها، ولتكن الحركة التي يشهد لها الجميع دائما أنها الأم التي ربت الجميع، ووجب أن يحسن لها الجميع، انطلاقا من شعار تعلمه الجميع وتربى عليه الجميع " كشاف كن مستعدا".