ربيقة يشرف على إحياء ذكرى عيد النصر    رقم الأعمال يرتفع ب15 بالمائة    5 معطيات تنسف مزاعم روتايو    الوالي يعاين أشغال مشروع إزالة التلوّث من وادي الرغاية    مطاعم الرحمة.. موائد مبسوطة لعابري السبيل في رمضان    دعاء الجماعة أَوْلَى بالقبول من دعاء الفرد    مخططات مغرضة تستهدف الجزائر    الجزائر وتونس تُنسّقان لتأمين الحدود    وزير الاتصال ينظم مأدبة افطار لفائدة الأسرة الإعلامية الوطنية    الجزائر تُحضّر لإطلاق الجيل الخامس للنقّال    الجزائر تستنكر صمت مجلس الأمن    العدوان الصهيوني على غزة: ارتفاع حصيلة الضحايا إلى أزيد من 49 ألف شهيد و 112 ألف جريح    الوادي : تشييع جثمان شهيد الواجب الوطني الطيار المقدم نصر بكوش بمقبرة سيدي يوسف    وزيرة البيئة تؤكد أن الدولة عازمة على تحقيق نقلة نوعية في تسيير قطاع البيئة    الخارجية تُصدر بيانًا حول رفض فرنسا تسليم بوشوارب    المغرب: تحذير من مخاطر الاختراق الصهيوني الذي طال كافة المجالات في المملكة    الرابطة الأولى: فوز شباب بلوزداد على اتحاد بسكرة (4-2)    حج 2025: برمجة فتح الرحلات عبر "البوابة الجزائرية للحج" وتطبيق "ركب الحجيج"    تشغيل: بن طالب يبرز جهود القطاع في عصرنة المرفق العمومي ضمانا لجودة الخدمات    نسبة جاهزية موزعات البريد الآلية بلغت 96 بالمائة عبر الوطن    سويسرا : يوم تضامني مع المعتقلين السياسيين الصحراويين و حملة توقيعات للمطالبة بالإفراج عنهم    السيد سايحي يبرز مجهودات الدولة في توفير الهياكل الصحية عبر مختلف ربوع الوطن    المديرية العامة للاتصال برئاسة الجمهورية تعزي في وفاة الصحفية بالإذاعة الوطنية فاطمة ولد خصال    اليوم الدولي للغابات: تنظيم حملات للتشجير والتحسيس حول الحفاظ على الثروة الغابية بغرب الوطن    سعداوي يشدد على ضرورة اتخاذ التدابير الكفيلة لتسيير الفصل الثالث في أحسن الظروف    نحو إدراج التراث الأثري لمدينة تبسة ضمن القائمة الإرشادية للتراث العالمي بالجزائر    بطولة إفريقيا للمحليين 2025 : المنتخب الوطني يجري ثاني حصة تدريبية له    وفاة الصحفية السابقة بالإذاعة الوطنية فاطمة ولد خصال    مونديال 2026: "الخضر" يكثفون تحضيراتهم قبل التوجه إلى فرانسيس تاون    حشيشي يؤكد على ضرورة الالتزام بآجال المشروع الجديد لضغط الغاز بغرد النص    وزير الداخلية و الجماعات المحلية و التهيئة العمرانية في زيارة عمل إلى ولاية قسنطينة    الجمعية الثقافية السينمائية "أضواء" تحيي الذكرى ال63 لعيد النصر    روتايو.. شر بشري وغباء إداري    في باكستان.. حرصٌ على اللباس المحتشم    ورشة مفتوحة لتغيير وجه المدينة    خطوات جديدة لمرافقة وترقية الاستثمار    "بريد الجزائر" يطلق صفحة خاصة بتطبيق "بريدي موب"    المسموح والممنوع في الخدمات الرقمية نحو الخارج    نجوم في بيت الفن والسمر    اختبار صعب ل"الخضر" في طريق التأهل لمونديال 2026    يوسف بلايلي سلاح بيتكوفيتش في مباراة بوتسوانا    لهفة الصائمين تعترض مساعي الحد من تبذير الخبز    7 متنافسين على المقعد الرياضي الأكثر نفوذا    الجزائر تدين بشدة الهجوم الإرهابي على موكب الرئيس الصومالي    مهرجان للإنشاد والمديح بسكيكدة    الخضر يبحثون عن الفوز للاقتراب من المونديال    حج 2025 : اجتماع تنسيقي لمتابعة عملية تسيير رحلات الحج    قال إن المنتخب الجزائري يملك توليفة رائعة من اللاعبين.. صهيب ناير سعيد باللعب مع الجزائر    متى يباح الإفطار للصائم    أجمل دعاء يقال في رمضان    الذكرى ال63 لعيد النصر: تنظيم ندوة فكرية حول تجليات عيد النصر في المخيال الأدبي والفني الجزائري    اتخاذ إجراءات ضد 53 مستورد للمورد    هل حافظت "طيموشة 3" على التألّق نفسه؟    بهجة رحال ونوري الكوفي نجما النوبة    الحويني في ذمة الله    جاهد لسانك بهذا الدعاء في رمضان    هذا موعد أول رحلة حج    12 مطارا و150 رحلة لنقل 41 ألف حاج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أشْلاَءُ حُلْمٍ... تَلاَشَتْ خَلْفَ التِّلاَلِ..!
نشر في الجلفة إنفو يوم 27 - 07 - 2014

1- وَأنَا عاَئِدٌ مِنَ الْجَلْفَةِ إِلَى الْبِيرِينِ، تَوَقَفْتُ فِي مَدِينَةِ {حَاسِي بَحْبَح} الْمِضْيَافَةِ اسْترَحْت فِيهَا اسْتِرَاحَة مُسَافِرٍ، وغَادرتُهَا عَصرًا عِندْمَا صَفَا الجوُّ واعتدَلَ، وهبَّت نَسَائِمُ الصَّيْفِ مُنْعِشَةً تُدَاعِبُ الْجُفون، وَتَحْمِلُ ألَقاً تُضَارِعُه ألْوَانُ السُّهُوبِ القزَحِيَّة، يمَّمْتُ وَجْهِي شَطرَ مَدِينَةَ {حَدِّ الصَّحارِي} عرَّجْتُ عَلى السَّبْخَة وَبُرْجَ الْحَمَّام، دَخلتُ المُنْعَرجَات وَالشَّمْسُ تَلِجُ مَخْبَئِهَا خِلْسَة تَارِكةً خَلفَهَا احْمِرَارًا، النَّهَارُ يَسْحْبُ بسَاطَ أنوَارِهِ، ليتوَارَى خَلفَ أسْوَارِ الغابَاتِ والصُّخُورِ، تَنْتفضُ الطيُورُ عَلى ذُرَى الأشْجَار وأغْصَانِهَا جَذَالَى تَنْتَشِي بهَذا السُّكُونِ، تبْدَأُ حَرَكَةُ الكَائِنَاتِ رَاكِضَة صَاخبَة تَظْهَرُ وَتَخْتَفِي، وأنَا أسِيرُ فِي هَذَا الليْل الدَامِسِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، مُتدثرًا بألوَانِ الجِبَال السَّمْرَاءَ، والمُسَافرُ صَيْفًا فِي هَذِه البرَارِي يَقرَأ في خَطوَاتِه أحْدَاثَ الأرْضِ وأَخبَارَهَا، ويَسْترْجِعُ الذِّكْريَاتِ الْعَذبَة، وَأحْيَاناً يَسْكنهُ هَاجِسُ الخَوْف؛ الطرِيقُ يَتلَوَّى فِي ارْتَفَاعٍ وانْخِفَاضٍ، الدُّرُوبُ مِن حَولِي مُوحِشَة، السَّمَاءُ مُكتَظةٌ بالنُّجُومِ المُتلألئَة، ولاَ غَيْمَة فِي الأفُقِ، وَأنَا أسْرَحُ فِي هَذا الفَضَاء وَحِيدًا.
أتوَغَّلُ فِي تِلك الشِّعَابِ والْمُنْخفَضَاتِ بِبُطْءٍ.. يَالَهُ مِنْ مَشْهَدٍ جَمِيلٍ سَاحِرٍ..! لَكِن مَاذَا يندَسُّ في الْعَتَمَةِ؟ أنَا لاَ أُصَدِّقُ..! إنِّي ألْمَحُ امْرَأةً..أجَلْ.. امْرَأةٌ غَريبَة، تَكُونُ قَدْ فقَدتْ عِيَّالهَا أو هُم فقدُوهَا، تَجْلسُ القرْفُصَاء عَلى قارِعَةِ الطرِيق، تَمدُّ يَدَهَا مُتودِّدَة مُتلطفَةً، أسْألُ نفْسِي مِنْ أينَ جَاءَت؟ وأينَ هِيَّ مُتوجِّهَةً ؟ ليْسَ هُناك مَنازِلَ وَلاَ سُكَان فِي هَذَا الْعَرَاءِ، آلَمَنِي المَنْظرُ واسْتدْعَى كُلَّ نَوَازِعِي.
توَقفتُ بَعدَ تردُّدٍ، والْفَضَاءُ يَتلفَّعُ خَوَاءً أكْبرَ، سَألتُها: من تَكُونِين يَا امْرَأَة؟ كيْف وصَلتِ إلَى هُنَا؟ مَاذا تُرِيدِينَ؟ كُنتُ حَذرًا مِنهَا ومِمَّا يُخفِيه الظلاَم، رَفَعَتْ صَوْتَهَا جَاهِشَةً بالبُكَاء، مُتَذَلِلَّةً تَسْتَعْطِفُنِي، رَحَل العيَّال وترَكُوهَا هُنا وحِيدَة، إنَّهَا جَائعَة وخَائِفَة، اعْمْل مَعْرُوفًا يَاهَذَا..رجَاءً خُذْنِي مَعَك..أشْفَقتُ عَليْها ولِنْتُ لطلبِهَا، فتحْتُ لَهَا البَابَ فَرَكِبَت، ولمَّا اسْتَوَتْ جَالِسَة أفرَجَتْ عَنِ أَنْيَابٍ مُلَوْلَبَةٍ وابْتسَامَةٍ شَاحِبَةٍ.
2- ومَا إنْ تَحرَّكَت السيَّارَةُ حَتَّى فَاضَ جَسَدُها عَلى المَقعَدِ كُلهِ وغَطاه، تدَلَّت أطرَافُهَا كَسَتَائِرَ خَيْمَةٍ؛ امْتَدَّ صَدْرُهَا ليَصِلَ الزُّجَاجَ، مَالَ ثَدْيُهَا نَحْوي ليُغَطِّي لوحَة القيَّادة، نهْدَاهَا تُلاَمِسَان الْمِقْوَدَ، تَنَاثَرَ شَعْرُهَا الطوِيل وَقَذَفَتْ بِهِ إلَى الْخَلْف؛
تَتلاَحَقُ أنفاسُهَا شَخيرًا وزَفِيرًا وَغَمْغَمَة كَالأَنِين، وفِي ثَغْرهَا بَريقُ ابْتسَامَةٍ، أحسَسْتُ بِارْتجَافٍ فِي قَلْبِي وازْدَادَ نبْضُه، كَانَتْ تَقتَرِبُ مِنِّي أكْثرَ وَأنَا ابْتَعِدُ.. أشُمُّ فِي نَحْرِهَا رَائحَةَ الأعْشَابِ الجَبَليَّةِ، جَسَدُهَا كُضُرَام نَّار يَلتَهِبُ، أشْعُر بالرُّعْبِ يَكتسِحُنِي، أتظاهَرُ بالصَّبرِ وَعَدَمِ اللاَّمبَالاَة؛ أقَاوِمُ زَحْفَهَا بِكلِّ مَا أتِيتُ مِنْ قُوَّة، لمْ يَكُنِ الأمْرُ سَهْلاً، وليْسَ فِي إمْكَانِي فِعْل شَيْءٍ، كَانَ الْمَشهَدُ مُقزِّزًا يُثِيرُ فِي النَّفْسِ قَرَفًا.
تتَوقَّفُ السَيَّارَة، يَعْلُو أَزِيزُهَا، يرْتَفَعُ صَوْتِي بالدُّعَاءِ وَقِرَاءَة الْقُرْآن، وَبَيْنمَا أنَا عَلى هَذِه الحَال، أشْتُمُهَا فَلاَ تَنْشَتمُ، ألُومُهَا فتضَحَكُ مُقهْقِهَة، تَتمَادَى في إزْعَاجِي، وَجَاءَ شَيخٌ عَجُوزٌ يَتَجَرْجَرُ فِي اسْمَالِهِ كَشَبحٍ قادِمٍ مِن عَالَم الأَمْوَاتِ، يَحْمِلُ قِرْبَةَ مَاءٍ تَنْبَعِثُ مِنْهَا رَائِحَةُ الْقَطَرَانِ؛ يَجُرُّ عَصَاه، يَسْتوْضِحُ الأَمْرَ بْسُؤَالٍ عَجِيبٍ:أتَعْرفُ مَن تَكونُ هَذِه الْمَرَأَة؟! كَيْفَ تَتَجَرَأُ أنْ تَأخُذَ زَوْجَة غَيْرِكَ؟ أَجَبْتُهُ بِغَضبٍ وانفِعَالٍ: لوْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ مَا تَرَكَهَا هُنَا، تَبًا لَكَ ولامْرَأةٍ لا تَخْجَلُ من تصَرُّفاتِهَا العَابِثَة، ولنُكْرَانِهَا الْجَمِيل، ابْتلعَ رِيقَهُ وضَحِكَ مِلْءَ حُنْجَرَتهِ، وَقَالَ: قَدْ تَكُونُ كَلِمَاتِي قَاحِلَةً لاَ تُعْجِبُكَ، وَلَكِنْ سُتُعْجِبُك إنْ تدبَّرْتَ الأَمْرَ، لَيْسَتِ الْبَرَاكِينُ وَحْدَهَا تَثُورُ..هَهَهْ..مِنَ النَّاسِ مَنْ يَبِيعُ شَرَفهُ، لاَبدَّ أَنْ أُخْبِرَكَ وَأَنَا لَكَ نَاصِحٌ أَمِينٌ، الإنْسَانُ ضَعِيفٌ لا يُمْكِنُهُ أنْ يَكُونَ وَحِيدًا فِي مَكَانٍ مَهْجُورٍ وَقَدْ قِيلَ { الرَّفِيقُ قَبْلَ الطَّرِيقِ} إنِّي أَخْشَى عَلَيْكَ مِنْ أُولَئِكَ الصَّعَالِيك الَّذِينَ يَفْتَرِشُونَ الْعَاصِفَةِ، اللَّيْلُ مُخِيفٌ يَا وَلَدِي وَلاَ بُدَّ مِنَ الْحَذَرِ، إليْكَ قَدَحًا مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ الزُلاَل لترْوِي ظَمَأَكَ، اسْتَأنَسْتُ بِهِ وَقد انْدَلَقَ إلَى سَمْعِي اعْتِذَارٌ كَالرَّجَاءِ، ألتَفتُ مُنْتَبِهًا وإذَا بِالسيِّدَةِ يَلوحُ عَلى شَفَتيْهَا شَبَحُ ابْتسَامَةٍ بَاهِتَةٍ وهِيَّ تقُولُ: بَعْضُ النَّاسِ يَحْمِلُونَ قلوبًا ليسَتْ لَهُم فِي الأَصْل، وَأوْرَاقُ أسْئِلتِهم تَحْتَرِقُ فِي غَيْرِ طَائِلٍ، هَذَا الشَّيْخُ مِنْهُم، أخَذَتْ تَنْزَلْقُ فِي بُطْءٍ مِنْ مَكَانِهَا وَتَعْتَذِر، فَجْأةً تَخْتَفِي وكأنَّ الأرْضَ ابْتلَعْتهَا.
3- وإذَا بِفتَاةٍ شَقرَاءَ فَاتِنة الجَمَالِ، سَامِقَةً الطُّولِ عَذبَة الصَوْتِ، تَجْلسُ مَكَانَهَا وتُحيِّينِي بِلُطفٍ، وَأخْرَى فِي المَقعَد الخَلفِي تَتَحَرَّكُ بجسَدِهَا الرَّشِيق وَصَوْتهِا الشَجِيِّ الآسِر، إنَّهَا فَتاةٌ سَمْراءَ رَهيفَة القلْبِ، مَليحَة الْعَيْنَيْنِ، فَفَزعْتُ أسْألُ: مَاذَا يَحْدُثُ؟ ارْتجَفَتْ نَشْوَةُ البوْحِ فِي دَاخِلي، كَلمَات مُلتحِفَة بالصَّبر واللِّينِ، ويَندَلِقُ الْبَوْحُ شَلاَلاً، لم يَكنْ يَخْطُرُ ببَال أنْ ألتقِي بِفتَاتيْن كًنْتُ تَخَيَّلتهُمَا ذَاتَ مُنَاسَبة سَرْديَّة، ورَافَقتهُمَا في رِحْلة البَحْثِ عن وَطنٍ، كَانتْ مَطَارِقُ الحَيَاة تَنْهَلُ عَلىَ رأسَيْهِمَا {ومَن رَأَى السَمَّ لا يَشْقَى كَمَنْ شَرِبَا} قالتْ الأُولَى أنَا فَاطمَة الشَّاميَّة، التِي كَانَتْ ولا تَزَالُ تبْحَثُ عَن وَطنٍ ضَائِعٍ، ألا تَذْكُرُ ذَلِكَ ؟ بَلَى.. قَالَتِ الثَّانيَّة إنَّهَا مَرْيَمُ الْمَاليَّة الَّتِي خَطفُوهَا ذَاتَ تَارِيخٍ، وَعَادَتْ إلى بَيْتِهَا لتَسْتأنِفَ رِحْلة البَحْثِ عَنْ مَأوَى، ابْتسَمَ الشَّيْخ وَقَالَ مَازِحًا: أزوُّجِّكَ بهَاتيْن الْفَتَاتيْن، قُلتُ: أنَا مُتزوَّجٌ، وأشحَتُ عنه بِوجْهي مُسْتَنْكِفًا، اسْتَرِقُ النَّظرَ إلَى الْفتاَتَيْنِ، وأنَا مُعَجَبٌ بِذَلاَقَةِ لسَانَيْهِمَا، هَمَسْتُ إليَهِمَا كأنِّي أعْرفُهُمَا: مِنْ أيْنَ جِئْتُمَا؟ والَى أيْنَ تنْوِيَّان الذَّهَابَ؟ جَالَ الشَيْخُ بِعَيْنَيْه الْمُرْهَقَتَيْن وَقَالَ: الانْسَانُ فُضُولِي بِطَبْعِهِ؛ دَعُونِي ارْحَلْ..انْجَلَتْ الصُّورَة.. وَللتَوِّ اخْتفَى..!
قَالَتْ الفتاةُ الشَّامِيَّة: خَرَجْنَا لتوِّنا من مَقَابِر تُشبِهُ هَذِه، وأشَارَتْ إلَى مَقبَرَة {المَقسَم} المَهْجُورَة، والتِي لاَ تَبْعُدُ إلاَّ بِضْعَة اذْرُعٍ مِنْ مكَان تواجُدِنَا، ثُمَّ نَكَّسَتْ رَأسَهَا مُتَشَبِثَة بالصَّمْت هُنيْهَة، وكأنَّهَا تعْزِفُ ترَانِيم الوَجَع، وَتَنْفُخُ في جَبَرُوتِ الْغَضَبِ، وَهِيَّ تذْرِفُ سَيْلاً من الدُّمُوع وَتَصْرُخُ: كُنَّا نَحْلمُ بالعَوْدَة إلى أوْطانِنَا بعْدَ أنْ هَجَرْنَاهَا مُكْرَهِينَ، ولِلأسَفِ تنَاثرَت أحْلاَمُنَا المَقتُولة بَيْن الشُتَاتِ والمَلاَجِئ، ومَا بَقِيَّ لنَا مِن أمَلٍ طوَاهُ النِّسْيَانُ، سَكنَّا الْمَقَابِرَ هَربًا من جَحِيم الحُرُوب الظالمَة، ومِن عِصَابَاتِ المَوْتِ الجَائعَةِ المأجُورَةِ، تِلْكَ الَّتِي تُحَارِبُ بِالوَكَالَة،وَتَبِيعُ الأَوْطَانَ.. إيه..أبْنَاءُ الشَّام مُشرَّدُون مُعذَّبُونَ ضَائعُونَ هَائمُونَ فْي تِطوَ افِهِم بَيْنَ المَلاجِئ والمُخَيَّمَات؛ مِثلَ أغْصَانٍ تتقاذَفُهَا أمْواجُ البَحْرِ، مَجْدُ الآبَاءِ مُغتصَبٌ مُعَفَّرٌ بالتُرَابِ، وَنحْنُ نَشْكُو وَجَعًا لمَنْ لا نَرْجُو عِنْدَهُ الْبُرْءَ.
4- تَتنَهدُ مَريَم وهي تبْكِي بِحُرْقَة، وَمِنْ هَوْلِ بُكَاءِ الْبُكَاءِ بَكَيْنَا؛ وبِصَوْتٍ خَافِتٍ: تَقَولُ نَحْن نمُوتُ في اليَوم أكْثرَ مِن مَرَّة، قلوبُنَا تَتَمزَّقُ بَيْنَ الحِرْمَانِ ونَارِ الغُربَة، وتحَرَّكَت في مُقْلتَيْهَا دُموعٌ تَلمَعُ كَاللُّجَيْنِ يَسْتوطنُهَا التَوَتُّر، تَصْرُخُ فَاطِمَة وَالْفُؤَادُ وَلُوعٌ: هَذَا ابْتِلاَءٌ وَظُلمٌ مُبِينٌ! ألمْ يَأن لحِكَايَة الرَّبِيعِ الْعَرَبِي أنْ تنَامَ كمَا نَامَتْ حِكَايَاتٌ مُلفَقَةٌ مِن قبْل.؟
فجْأة أقبَلَ أَطْفَالُ غَزَّةَ أفوَاجًا مُتلاحِقَةً، وَهُم يحْمِلُونَ الْحِجَارَةِ فِي يَدٍ وَفِي الْيَدِ الأُخْرَى الرَّايَاتِ الْخَضْرَاء وَيَنْشُدُونَ، وصَدَى صوْتُ إنشَادِهِم يترَدَّدُ بَيْنَ ثنَايا الجِبَال والرَّوَابِي، والنِسَاءُ خَلْفَهُم مُتلفِعَاتٌ بلبَاسٍ أبْيَضَ، تُهدْهِد مَشَاعِرهُنَّ أقدَامٌ غَضَّة، يَمْشِينَ علَى اسْتِحْيَاء، والحُزنُ لا يَعْرفُ إلاَّ لُغَة الأحْزَان، فسَألتُ مُتعَجِبًا: وأيْنَ الرِّجَالُ؟ رَفعَت فَاطمَة عَقِيرَتَهَا وَقَالَت: هُمْ السَّبَبُ ..! هَلْ القَذَائِفَ وَالبَرَامِيلَ الْمُتَفَجِّرَةِ أبْقَتْ شَيْئًا؟ لقدْ خَسفَتْ بهِم وبالدِيَّار وَلَمْ تَتْرُكْ إلاَّ النِّسَاءَ وبَعْضَ الأَطفَال فِي الْمَلاَجِئ هِيَّام.
أفْجَعَنِي الْمَشْهَدُ فارْتَشَفْتُ الرُّعْبَ مَفْزُوعًا،أُفْرِكُ عَيْنَيَّ وَأَحُثُّ جَسَدِي عَلَى التَحَرُّكِ، وَالْكَلِمَاتُ تَتَنَاثَرُ يَكْسُوهَا الانْكْسَارُ.
حَمِدْتُ الله أنَّ مَاحَدَثَ لِي مُجرَّد حُلم، وَجَدْتُ سَيَّارتِي قد انْحَرفتْ كَثَوَرَاتِ الْعَرَبِ، ولحُسْنِ حَظي نَجوَتُ؛ أصْلحَتُ العَطبَ، وَتسمَّرتُ في مَكَاني مَشدُوهًا، أبَلِّل عَيْنَيَّ بمَاء الْغَبَشِ، وصَمْتَ الْمَكَانِ لا يَخْدَشُه سِوَى عَوَاءُ الذِّئَاب، فَيَا لِلْهَوْل مَا ذَا أسْمَعُ وأرَى..؟!
إنَّهَا تَقِفُ مِنْ حَوْلِي مُتَرَبِّصَةً..أجَل.. مُتوَثبَة، إنَّهَا ذِّئَابٌ مُكَشِّرةً عَنْ أنْيَابٍ كَالمَنَاشِير، وَذِي أفَاعِي تجُوبُ المَكانَ وتَتَهَيَّأ لفِعْل شَيْءٍ، لا رَيْب أنَّهَا ترِيدُني.. أجَلْ.. فَلاَ وَقْتَ للانْتظَار والترَدُّدِ، ارْتمَيتُ بسُرْعَة البَرْقِ مُتَخَنْدِقًا فِي مَقصُورَةِ السَيَّارَة وأوْصَالِي ترْتَعِدُ، اسْتأنفُ السَّيرَ وأنَا أحْتَلِبُ البَوْحَ، و أشْلاَءَ حُلْمِي تَتَلاَشَى خَلْفَ التِّلاَلِ.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.