لم تمر فترة طويلة عن إهانة العلم الوطني من طرف رسميين جزائريين وهم يتقاسمونه كعكة بسكين ضخم كتقليد أعمى لعادة دخيلة على ثقافتنا وتحت أنظار شهداء الثورة الجزائرية المجيدة المعلقة صورهم فوق رؤوس هؤلاء التافهين، إلى أن طالعتنا الأخبار بمصيبة جديدة لحقت هذه المرة برمز من رموز التاريخ الجزائري المعاصر ألا وهو رائد النهضة العلمية والإصلاحية ورئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين العلامة (عبد الحميد بن باديس) رحمه الله. مما يدل على سطحية هؤلاء الساهرين على تنظيم تظاهرة قسنطينة، بل ويؤكد استغلالهم هذه المناسبة لملء جيوبهم وتضخيم الفواتير لأن تكلفة هذه التمثال (المهزلة) تعد بالملايير، ومع ذلك لم يرُق حتى لعائلة ابن باديس التي رفعت دعوى ضد هذا الصنم الذي لا يشبه العلامة بل يشوه صورته التي رسخت بأذهان كل الجزائريين على أنه لم يصل الشيخوخة (1889- 1940) فقد توفي رحمه الله وعمره لم يتجاوز 51 سنة، أما هذا الشيخ الهرم الذي تبرز على وجهه علامات الحزن فقد استهجنه القسنطينيون ولم يتعرفوا عليه وهو يتوسط الساحة المركزية لمدينتهم ولولا قرب موعد التظاهرة لما تبين لهم بأن رمز مدينتهم والجزائر قاطبة أصبح محط سخرية على الهواء الطلق من طرف بارونات ومرتزقة الصفقات التي تبرم ليلا على موائد الفساد. ولم يقتصر الأمر على ذلك فحسب بل سرعان ما امتدت يد العبث إلى هذا التمثال البائس من طرف بعض المراهقين الذين مارسوا عليه طقوس الإهانة بكل أنواعها فمنهم من صعد فوق رأس الصنم وآخر لم يتردد في وضع سيجارة في فمه وهو يحمل فنجان قهوة بيده أمام لا مبالاة المارة الذين لم يجدوا في ملامح وجه هذه النسخة المشوهة ما يدل على أنه يمثل رائد النهضة الجزائرية . وإذا سلمنا جدلا بأن من نحت هذا التمثال قد نجح في عمله وجاءت ملامحه مطابقة لصورة العلامة، فهل يعقل أن نحول رموزنا إلى أصنام محنطة ونحن الذين ندرك المدلول الخطير للصنمية والوثنية في ثقافتنا ؟ لو كان ابن باديس بيننا لسارع لهذا الصنم وأرداه أرضا بعصاه تأسيا بجده رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذي سارع عند فتح مكة إلى أصنام الكعبة يحطمها الواحد تلو الآخر وهو يردد قوله تعالى { وَقُلْ جَاءَ الْحَقّ وَزَهَقَ الْبَاطِل إِنَّ الْبَاطِل كَانَ زَهُوقًا }. علما بأن أصنام الكعبة لم تكن ترمز سوى للجاهلية أما صنم قسنطينة الجديد فهو تشويه لإنسان أفنى عمره دفاعا عن الوحدانية ومحاربة لكل وجوه الشرك من بعض الطرقيات المضللة والعقائد الفاسدة. إنها جريمة متعددة الوجوه (دينيا وتاريخيا واجتماعيا وفنيا). إنا احتفالنا بابن باديس وتقديرنا له واعتزازنا بمشروعه الإصلاحي يدفعنا أولا إلى تعريف الناشئة بشخصه حتى لا يتصرفون كالقردة أمام تاريخهم ورجالاته العظماء، كما يجب علينا الكف عن الأساليب المناسباتية في التعامل مع ماضينا العظيم واتباع مناهج صادقة وهادفة لربط ماضينا بحاضرنا، ويكفينا تقليدا لغيرنا في التعبير عن مشاعر الفخر والاعتزاز حتى لا تختلط علينا الأمور فلا نميز بين كعكة من الحلوى وراية رفرفت خفاقة لترعب جنرالات فرنسا وهي مخضبة بدماء الشهداء، حين اهتدت بها مسيرات المتظاهرين في شوارع وأزقة مدننا إبان فترة الاحتلال. كما يجب علينا أن نقطع الطريق أمام سماسرة الحفلات ومتعهدي السهرات الليلية المتاجرين بشرف الجزائر وهم يستقبلون بالورود فنانات الكباريهات ليغدقون عليهم من مال الشعب المبالغ الطائلة لإحياء الليالي الماجنة تحت شعارات مزيفة للفن الساقط وثقافة الشطح والردح، عوض تشجيع المواهب الوطنية وإنقاذ الفن الأصيل من التهميش. إن قسنطينة أكبر من كل هذا وأعظم لأنها قصة جميلة من التضحية والفداء والعلم والإباء، إنها معجزة الله في الأرض لمن يقف مندهشا أمام جمال طبيعتها وهي التي ذللت جبال الصخر لتتربع عليها وتحكي لنا تاريخا من البطولة والشهادة والعلم والريادة وهي التي لم تكف عن إنجاب العظماء وستبقى منارة للجزائر وللآمة بكاملها. أن هذه المدينة ليست بحاجة لصنمكم الذي شوهتم به ساحتها وألقيتم الحسرة في نفوس محبيها وأثلجتم صدور أعدائها وحيرتم عقول زوارها ممن كانوا يتخيلونها أكبر من عقولكم التي اختصرت مناسبة الاحتفال بها في فرصة لسلب الأموال وبيع الأحلام الزائفة والمتاجرة بعرضها وتاريخها وسمعة سكانها، ولكن ثقوا بأننا لن نترككم وسنقطع الطريق أمام مشاريعكم المميعة وأفكاركم التي أيدها المغني (البربري) إيدير- والأمازيغ الأحرار منه براء – وهو يستنكر من مدينته باريس أن تحتفل عاصمة الشرق الجزائري بعروبتها متناسيا مقولة ابن باديس الأمازيغي الصنهاجي وهو ينشد : ( شعب الجزائر مسلم – وإلى العروبة ينتسب). لم يكن ابن باديس ولن يكون صنما في ذاكرة شعبه بل هو رمز من رموز الدين والعلم والكفاح في هذا الوطن الذي سيبقى على مر التاريخ غُصة في حلق الحاقدين والحالمين بجزائر يتحول فيها أبناؤها إلى خدم وعبيد لقوافل السواح المترفين، وبارونات تبيض الأموال وأصحاب المشاريع التي توظف مناسبات كهذه لضرب حاضر الوطن بتشويه ماضيه وقتل شموخ وشهامة الجزائري بجزائري آخر باع نفسه بعرض من الدنيا قليل.