عندما خرج آخر رتل عسكري أمريكي عبر الحدود العراقية الكويتية، صرح الرئيس الأمريكي باراك أوباما، أن على جنوده الخروج مرفوعي الرأس، لأنهم تركوا وراءهم عراقا جديدا يتمتع بالديمقراطية والحرية. لكن الديمقراطية التي تركها الجنود الأمريكان في العراق، تختلف كثيرا عن تلك الديمقراطية الممارسة في بلدهم أو في بريطانيا أو السويد وغيرها من الدول العريقة في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان، لأنها ببساطة ديمقراطية زائفة، مغلفة بدماء وأشلاء العراقيين المتناثرة عقب الانفجارات اليومية التي لا تزال تميز المشهد العراقي، وحقوق الإنسان الزائفة أيضا طالما أن أبسط حق غير مصان وهو الحق في الحياة. تسع سنوات من الاحتلال الأمريكي لم تكن أبدا خاتمتها مسكا، حصدت خلالها مئات العشرات من القتلى والجرحى والثكالى واليتامى وأرجعت العراق إلى الوراء لسنوات طويلة، وزجت به في نفق الضياع والدمار السياسي والاقتصادي والاجتماعي ولكن أيضا الفساد المتعدد الجوانب، حيث تعد العراق إلى جانب أفغانستان الأكثر فسادا في العالم باحتلالهما المراتب الأولى، والأضعف جيشا عربيا. بعد تسع سنوات من الدمار الهائل لأحد أهم دولة في الوطن العربي، لم يعد الحديث يدور حول وحدة البلد والتراب، بل عن »عرقيات«، حتى لا يقال عن »عراقات« عديدة وقبائل وأقاليم وطوائف ومذاهب، ومكونات سياسية، كل منها تتربص بالأخرى، في مشهد مأساوي وأزمة راهنة لا يبدو أن مخرجها يلوح في الأفق، بل تزداد سوءا وستترك آثارها السلبية ليس على المدى القصير فحسب، بل على المديين المتوسط والبعيد. لا شك أن دعاة الاستنجاد بالغرب للتخلص من الراحل صدام حسين، يقفون حاليا عند حقيقة مفزغة وهو أن الثمن والمقابل كان باهظا وغير محسوب العواقب، وأن نفس الغرب، وفي مقدمتهم الولاياتالمتحدةالأمريكية، لا يهمها، قيد نملة معاناة العراقيين، بالأمس واليوم، بل الأهم بالنسبة لها هو التخلص من »طاغية« كان يثير الكثير من الانزعاج، إقليميا ودوليا وحتى اقتصاديا. واليوم وكما يبدو للجميع، فإن أمريكا وبعد أن ضمنت التدفق العادي للنفط العراقي، وأزاحت نظاما كان يشكل تهديدا خطيرا على أمن إسرائيل، مثلما كانت تزعم هذه الأخيرة، تركت عراقا مفتتا عرقيا وطائفيا، ضعيفا وعلى صفيح من نار، تتلاطمه النزعات والأهواء والنزاعات، ولا تجد أي حرج في وصف إنجازها بالعظيم، وبالقدوة وهي لا تزال سائرة في تقديم النصح تارة والتهديد والوعيد تارة أخرى، في مشهد أقل ما يقال عنه أنه مثير للدهشة والسخرية في آن واحد. الوضع الكارثي الذي يوجد عليه العراق اليوم، هو محصلة مؤلمة عن سنوات من الغزو الأمريكي البريطاني، وخير مثال عن المخلفات المحتملة للاستنجاد بالغرب لتخليص الشعوب من حكامها »المستبدين« وهي آثار ومخلفات لن تمحى وكما يبدو بالنسبة للنموذج العراقي على المدى المتوسط أو الطويل. ومن المفارقات التي قد تبدو عجيبة، أن المستفيد الأول من غزو العراق ثم خروج الأمريكان منه هو إيران، بعد أن تكون قد تخلصت من غريمها التقليدي الراحل صدام حسين، والأكثر من هذا صعود التيار الشيعي الحليف التقليدي لطهران، لتقدم أمريكا لعدوها الرئيسي في المنطقة إيران هدية لا تقدر بثمن، سمحت لها بكسب بلد جار لها، أصبح يمثل عمقا استراتيجيا لطهران وتدعم بعد الانسحاب المذل لقوات المارينز من العراق. انسحاب القوات الأمريكية من العراق قبل أسابيع هللت له كثيرا، دول الممانعة في المنطقة ولا سيما سوريا، واعتبرته نصرا لخط المقاومة ودعما لصمود شعوب المنطقة في وجه اسرائيل وحلفائها العرب وتهديدا أكيدا للمصالح الغربية ومن يدعمها، ولا شك أن موقف العراق مما يحدث في سوريا، ورفضه الانسياق في فلك الغرب وعملائه في المنطقة، لزعزعة استقرار البلد الذي يكن له العراق كل التقدير والاحترام على مواقفه السابقة، يعد نكسة أخرى، واخفاق آخر للولايات المتحدةالأمريكية، تضاف إلى سلسلة الاخفاقات الأخرى للسياسة الأمريكية الخارجية في تعاملها مع قضايا العرب.