يجزم كثيرون أننا لا يمكن أن نلمس رسوخ كعب الثقافة بأدبها وفنها وإنجازها الحضاري في أي بلد إلا في أرض ثقافية ممراح تنتعش تفاعلا فكريا، لذلك كان مثقفو وأدباء وكتاب الأجيال السابقة فيما مضى يعتمدون على الصالونات الأدبية أو الأمسيات الأدبية من أجل توجيه مسار بوصلة الحقل الأدبي بما يخدم الحياة الثقافية ويرتقي بها إلى طريق الإبداع، وفعلا كانت الساحة الأدبية آنذاك كالروضة الغناء وكانت كل زهرة أدبية تحمل رحيقا أدبيا خاصا، فاتسعت سماوات الفكر ووجدت فراديس الأدب الخالد وكانت للكاتبة اللبنانية الرائعة مي زيادة حكاية مع الأمسيات الأدبية التي كانت تقيمها في القاهرة ويحضرها العقاد وطه حسين والرافعي والمازني وغيرهم يتناولون الأدب وحركته وجديده في وجبات دسمة لذيذة.... وشجون الحديث تأخذنا إلى بلدنا الجزائر فنتساءل: هل للصالونات الأدبية من وجود؟ وهل تساهم بشكل حقيقي وفاعل في إنعاش المشهد الثقافي، والأهم من ذلك هل أدت حقا إلى بزوغ شمس الإبداع ؟. مما لا شك فيه، أن أنهار الحياة الثقافية قد تتعرض إلى الجفاف كما قد تذبل الأزهار الجميلة للإبداع إذا زهدنا في تحريك شطآن الحقل الثقافي بين مده وجزره وسلطنا عليها عوامل الجمود والسخف، وهو الحال في وطننا اليوم فالصالونات الأدبية على قلتها لا تتوج الثقافة بورود الجمال والتميز والرقي بل ترشقها بسهام خطيرة من البلادة والتكرار والتفاهة في أحايين كثيرة، ويتجلى ذلك واضحا للعيان كوضوح الشمس في رابعة النهار في الإنتاج الثقافي والأدبي الهزيل إلا في النادر جدا، وبالتالي أضحت هذه اللقاءات الأدبية مجرد شطحات ديكورية وفي الغالب تافهة تضر أكثر مما تنفع لأن من يبادر إليها من محترفي الثقافة، من يقتاتون على الموائد الثقافية والأدبية ونجد أغلبهم يعاني من مرض التفوق والأنا والنرجسية ....فأنى لهؤلاء أن يخدموا الثقافة ويرتقوا بها؟.. كانت الكاتبة والأديبة المميزة غادة السمان تقول: «إنني لا أستطيع أن أفهم كيف يمكن لإنسان أن يبدع إذا لم ينفتح على إبداع سواه بدلا من أن يكرر ذاته والآخرين»، وهنا مربط الفرس بل مأساة الثقافة في بلادنا، فالأغلبية تكتب والأغلبية تكرر سيما في مجال القصص والروايات، فلا نكاد نلمس أي بضاعة مزجاة إلا في النزر اليسير، وهكذا أصبح الجميع يتقن حرفة ترصيع الألفاظ فوق أكداس من الورق الأبيض والسبب بالتأكيد عدم جدية وجدوى الملتقيات الأدبية التي تنازلت عن دورها الأساسي في التخلص من البطالة الفكرية التي تميز حياتنا ومن لغو الكلام والفقاعات الأدبية التي تلون أيامنا الثقافية وتخلت دون تردد عن مهمتها في كونها أرضية لتلاقح الأفكار وللتفاعل والسجال الثقافي بين المثقفين والأدباء والكتاب والفنانين، فأثمرت هذه البيئة المشوهة بدورها ثمارا مشوهة لا تغني ولا تسمن من جوع ثقافي وفكري تعيشه البلاد، وهو إنتاج رديء مكرر وفي أكثر حالاته مميع تافه زاد من شرخ الشلل الفكري الذي يحاصرنا، فالكاتب الحقيقي والمثقف الحقيقي والفنان الحقيقي هو من يكتشف، يوحي، يتفاعل ويؤثر في النفوس والعقول فأين نحن من هذا؟. أما وميض الإبداع الثقافي الذي أضحى لا يبرق بل يكاد يندثر، فقد بات هو الآخر عملة نادرة في بيئة ثقافية مريضة، والدليل أن أغلب الكتاب والمثقفين المبدعين أبدعوا بعيدا عن هذه البيئة المدجنة وبعيدا عن الوطن الأم، وما زاد الطين بلة أن بعض الكتاب يقحمون أنفسهم في معارك جانبية تبدد مواهبهم وتعطل ملكة الإبداع لديهم، وليتهم يقرؤون كي يعلموا كيف كان يتصرف الأدباء الكبار مع هكذا مواقف، فنجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل لم يدخل في أي صراعات سياسية في مصر فحافظ على قلمه المبدع، عكس يوسف إدريس صاحب الموهبة الغزيرة التي استهلك جزءا منها في معارك جانبية مع أنصاف الموهوبين من محترفي السلطة والثقافة أثرت على أدائه المميز. لا جرم إذن، أنه قبل أن نفكر في ارتقاء حياتنا الثقافية يجب أن نقضي على الطفيليات الثقافية وكل من يعبث بالبيت الثقافي، ثم نفطم أنفسنا عن الرداءة ونشجع المواهب الحقيقية في مجال الأدب والفن التي ستخلق لنا حياة ثقافية سليمة فاعلة تؤثر..تغير .. تنجز.. وترتقي.