تمويل نشاط الجمعيات لمنع المتاجرة بها مع منح الاعتماد للمئات منها، يتجدّد الجدل حول الجمعيات و»صراعها» مع الأحزاب، بعد أن كان الكثير منها ولوقت طويل واجهات غير معلنة لجهات سياسية. ومن أجل نزع الغطاء السياسي عنها، يدعو بعض المتابعين إلى تمويل نشاطتها بشكل مدروس ومقنن منعا للمتاجرة بها. عندما أعلنت السلطات نيتها بناء مجتمع مدني حر، ونشيط وقادر على تحمل مسؤوليته وله سلطة مضادة، يكون أداة تقييم للنشاط العمومي خدمة للمواطن والوطن، وتنفيذا لخطة عمل للشباب من أجل إعداده لتحمل المسؤوليات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعمل على ظهور جيل جديد، واعتماد إطار قانوني وتدابير لتسليم فعلي للمشعل للشباب. مع شروع السلطات في منح الاعتمادات لتأسيس مئات الجمعيات، تعالت بعض الأصوات تحذر من هذه الخطوة من باب أنه يستحيل – حسبها - تعويض الجمعيات للأحزاب السياسية، فهي لا تملك حق التنافس للوصول إلى السلطة، وعملها تطوعي، خدماتي، وفق الاحتياجات المعبر عنها لا أكثر ولا أقل. والأولوية في نظر السلطات كانت القيام بعملية تطهير واسعة لتحديد الجمعيات النشطة من تلك الباحثة عن الريع. في حين يرى آخرون العكس، ذلك أن المجتمع المدني وإن كان مجموعات تطوعية ومبادرات فردية، لكنه قادر على صقل مشاركة المواطنين في العمل السياسي كالمشاركة غير المباشرة في الاستراتيجيات المحلية أو في مساعدة المشرّع أو الدارس أو الاستشاري في صياغة القرار النهائي، الذي يخدم الديمقراطية التشاركية، ويحتاج فقط برامج تكوين يلائم البيئة الجزائرية حتى يسهل عليه تحديد الاحتياجات الاجتماعية. حسب آخر الإحصائيات، بلغ عدد الجمعيات الجديدة المعتمدة من طرف وزارة الداخلية 2635 جمعية على المستوى الوطني، من مجموع 4 آلاف طلب تأسيس أودع لدى مصالحها، وقلّصت مدة معالجة الملفات المودعة إلى 10 أيام لتسهيل إجراءات تأسيس الجمعيات خدمة للصالح العام. وينتظر من الجمعيات، في إطار بناء الجزائر الجديدة، تعزيز الديمقراطية التشاركية التي يكون فيها المواطن طرفا فاعلا وغاية منشودة للنشاط العمومي من خلال حوار تعاوني وتشاور مستمر بين السلطات المحلية والمواطنين والجمعيات والشركات وغيرها من الجهات الفاعلة المحلية لتحديد وتقييم السياسات العامة. لكن سرعان ما اختلفت الرؤى والمواقف في إمكانية قدرة المجتمع المدني على تعزيز الديمقراطية التشاركية، رغم دوره المهم في تعبئة وتوعية الأفراد والنخب وقدرته على التدخل وقت الأزمات، وفي الرخاء، باعتراف السياسيين والمسؤولين أنفسهم، لاسيما في المواعيد الانتخابية، حيث يتحول إلى سند يُشد به العضد، ليُعينهم على حشد الجماهير وملء القاعات المخصصة لتنشيط التجمعات الشعبية، وإقناع الناخبين بالتصويت لصالح مرشحيهم، وغيرها من الاحتياجات المعبر عنها والتي تختلف حسب المناسبات. لكن خارج هذه المواعيد يصبح «كطفل قاصر» لا يحسن اللعبة السياسية، وغير مؤهل لأداء أي دور سياسي، مثلما أبانت عليه تصريحات لشخصيات سياسية وقانونية في آخر تجمع لها لإطلاق مبادرة القوى الوطنية للإصلاح وجعلها تطالب برفع القيود عن نشاط الأحزاب ودعمها بدل تحويل مهامها إلى تنظيمات أخرى لا يمكنها أن تكون بديلا لها. رخيلة: الحركة الجمعوية ليست بديلا للأحزاب في نظر المختص في القانون الدستوري عامر رخيلة، يجب التمييز بين صنفين من الجمعيات فهناك الجمعيات المدنية والأهلية أو ما يُعرف ب»المجتمع المدني»، وهناك ما يسمى «الحركة الجمعوية» والتي بلغ عددها في الجزائر مئات الآلاف منها محلية، ولائية ووطنية، ولا يمكن لها بأي شكل من الأشكال أن تكون بديلا عن الجمعيات السياسية، فهناك فرق بين الحزب السياسي الذي يسعى للوصول إلى السلطة، ويقوم على هيكلة محلية ووطنية، ويعقد مؤتمراته بانتظام ولديه مشروع مجتمع يسعى إلى تحقيقه.. وبين الحركة الجمعوية الفئوية التي تقدم خدمات لفئات محددة تدخل في إطار اختصاصاتها، وهناك جمعيات ثقافية وأسرية وأخرى خاصة بالمرضى. وشدّد على ضرورة التمييز بين المنظمات الجماهيرية، الاتحادات المهنية والجمعيات، التي لا هي منظمات جماهيرية ولا اتحادات مهنية، بل جمعيات خدماتية تُقدم خدمات للمجتمع في قطاعات متعددة، وهي بمثابة روافد مساعدة لتجسيد وتنفيذ ما تقره السلطة التشريعية والسلطة السياسية بصفة عامة. وحتى تساهم الحركة الجمعوية في تعزيز الديمقراطية التشاركية، أوضح رخيلة في حديث ل»الشعب»، أنه يتعين عليها أن تكون فاعلة وليس مطلبية، ومتبنية لقضايا المجتمع في العديد من مناحي النشاط الوطني، وأن تكون داعما لما تقوم به السلطات السياسية والإدارية في المجال التنموي. وتأسف المتحدث لحال الحركة الجمعوية التي وصلت إليه اليوم، لأنها تشوهت بالاستغلال السياسي في فترة الحكم السابق، وأصبحت جمعيات مطلبية وبمثابة طفيليات على المجتمع. وذهب رخيلة إلى أبعد من ذلك حينما قال إن الجمعيات تحولت إلى قوة ضغط على الجماعات المحلية ليس لتحقيق مشروع التنمية، بل لمصالح ذاتية، ولا تتدخل لإقرار الحق والتوزيع العادل للسكن أو تكون في لجنة لتمثيل المجتمع، بل تبدأ بأعضائها والمقربين منها، وهو ما كان سببا في خلق مشاكل على المستوى المحلي، وخلق توترات، لأن المسؤول الإداري يجد نفسه أمام ضغط هذه الجمعية ويضطر للتنازل حتى على صلاحياته لها، وهذا النوع من الجمعيات وظف من طرف قوى سياسية في إطار التنافس على السلطة. ولعل ما ينقص في مجتمعنا -يضيف رخيلة- تكوين جمعيات ذات طابع مدني، عناصرها المكونة لها قادرة على العطاء، موضحا أنه حان الوقت لتطهير الفضاء الجمعوي وتشجيع تأسيس مجتمع مدني خدماتي، ويمكن الأطباء إنشاء جمعيات للساكنة، والمهندسين يمكنهم تقديم مشاريع أو التنبيه لتجاوزات واقعة، ويمكن للأساتذة تنظيم لقاءات وندوات محددة لتبادل الرأي، وهذا النوع من المجتمع المدني أو مجتمع النخب الذي ينبغي أن يكون لأنه يقدم خدمات دون أن ينتظر المقابل. انحراف عن النصوص التنظيمية يقول الدكتور رخيلة إن المشكل ليس قانونيا، فالنصوص المنظمة للحركة الجمعوية واضحة ودقيقة، بل في انحراف الجمعيات وعدم تقيدها بهذه النصوص، حتى من المسؤولين الذين أصبحوا في صراعات محلية ويلجؤون إلى توظيف هذه الجمعيات لضرب بعضهم البعض، وإثارة نزاعات داخل مؤسسات معينة لتصفية حسابات بين أشخاص، لذلك لابد من تنقية هذه الساحة وإعادة النظر في اعتماد الجمعيات بناء على مشروع عمل يقدم من طرفها وتتقيد به، ويكون تطوعيا. ولعل أهم قرار ينبغي إعادة النظر فيه شكل الدعم المقدم للجمعيات، إذ لا يجب صرف الأموال للجمعيات مباشرة أو للأشخاص، بل تمويل نشاطات معينة لها، فالتنافس بلغ مداه من أجل الاستفادة من الريع، إلى درجة أن بعض أعضاء الجمعيات دخلوا أروقة العدالة، لتقسيم ما قاموا بجمعه من هبات ومساعدات وهذا يفسد الطباع ولا يقدم أي شيء للمجتمع، والخطر أن تلجأ السلطة مهما كانت الدولة إلى وضع الجمعيات كبديل للطبقة السياسية، لأنه لن يكون هناك أي نشاط فعال وسيكون الصراع كبيرا على الريع، لأن أعضاء الجمعية غير مؤهلين للعمل السياسي فدورهم تعبوي خيري، وتقديم خدمات للمجتمع في تخصصات كل جمعية، على حد قوله. وحتى تخدم الجمعيات الرأي العام لا يجب أن تكون امتدادا لأحزاب سياسية كي لا تستغل لفائدة حزب على حساب الآخر، ولا رافعة لراية من راياته لمواجهة تشكيلات وتنظيمات أخرى أو تكون جزءا من اللعبة السياسية، فقد لاحظنا في سنوات الحكم السابقة – يقول رخيلة- أن أغلب الجمعيات الموجودة متحزبة وتعمل لصالح التشكيلات السياسية وعليه المراهنة على الحركة الجمعوية لن تؤدي إلى نتيجة لذلك لابد من غربلتها من خلال تطبيق قانون اعتماد الجمعيات وفتح المجال أمام الجميع لتشكيلها بأصولها وتحديد دورها، بعيدا عن النفعية والطمع. لا يجب للمال - حسب المتحدث - أن يعطى نقدا أوشيكا للجمعيات، بل ينبغي تمويلها بناء على نشاط معين، وحينها لن يبقى في الساحة سوى الأعضاء الفاعلين. أما منح الشيكات والأموال نقدا فيصبح من يدفع أكثر يكسب الجمعيات أكثر، ومن يوجد في السجون واستطاع تحويل ملايير الدولارات للخارج بإمكانه شراء هذه الجمعيات وهو ما يفرض محاربة هذا الريع. عبدلي: الجمعيات تصقل المشاركة في العمل السياسي يختلف أمقران عبدلي، الاستشاري في التنمية والمشاريع الإنسانية والمكون الجمعوي، مع الدكتور عامر رخيلة في نظرته للمجتمع المدني. يرى عبدلي أن هذا الأخير بكل أطيافه، من جمعيات، مجموعات تطوعية، وحتى مبادرات فردية، له دور في التنشئة السياسية والدور المنوط به، هو توعية المواطن بالمفاهيم الأساسية والمنطلقات حتى يكتسب الوعي. السياسة لا يجب أن تكون محصورة على عمل مؤسسات الجمهورية أو الأحزاب السياسية، حسب المتحدث، والمتعارف عليه أن السياسة هي كل متكامل. وبالتالي، دور الجمعيات والمجتمع المدني هو صقل مشاركة المواطن في العمل السياسي كالمشاركة غير المباشرة في الاستراتيجيات المحلية أوفي مساعدة المشرع أو الدارس أو الاستشاري في صياغة القرار النهائي الذي يخدم الديمقراطية التشاركية. وتبدأ الديمقراطية التشاركية – يقول عبدلي ل»الشعب»- من أبسط فعل للمواطنة الإيجابية يمارسها المواطن، مثل المبادرات التي قام بها مجموعة من الشباب لمساعدة الطواقم الطبية من حيث الوسائل لمواجهة وباء كورونا، أو من خلال تكفل مجموعة من المواطنين بضحايا زلزال ميلة. هذا هو الحس الأول للمواطن، يتم صقله من طرف المجتمع المدني عن طريق التنظيم والتوعية، ثم بالشراكة الإستراتيجية مع الجماعة المحلية كالبلدية والولاية ومؤسسات الجمهورية، أو مؤسسات جهوية، عن طريق التوعية والتكوين كذلك. ولكن من الجهة التنظيمية، يجب أن تكون القوانين التي يسنّها المشرع الجزائري ملائمة للسياق الاجتماعي والثقافي للمجتمع وحتى للمتطلبات الأخرى، فكما نعرف تتغير المتطلبات الاجتماعية بين فترة وأخرى، فمثلا في هذه الفترة ظهر المطلب الاجتماعي، الاقتصادي، الصحي، الوقائي بقوة، وربما في الفترة المقبلة يبرز المطلب السياسي أكثر مثل التغيير، التداول على السلطة، المشاركة السياسية، والمطلوب من المجتمع المدني أن يوائم تدخله حسب المتطلبات الاجتماعية، وهذا لا يتأتى إلا عن طريق الاستشراف، وممارسة المسح الاجتماعي لفترات متقاربة خاصة في فترة الأزمات، وهذه من النقاط الأساسية التي يجب على المجتمع المدني أن يشتغل عليها بواقعية وعقلانية حتى يكون في مستوى تطلعات الجماهير والمطالب الاجتماعية. ومن أجل خفض درجة الملل والاحتقان الشعبي، يجب التركيز على التوعية والتكوين والتدخل المباشر للمجتمع وفهم السياق الاجتماعي والثقافي والسياسي، حتى يزداد إقبال الشباب على العمل السياسي وبالتالي ظهور بوادر ممارسة الديمقراطية التشاركية التي قد تتضح آثارها الأولى في إقبال المواطنين على المؤسسات المحلية، مثل البلدية، تحسن علاقة الإدارة بالمواطن، فحتى الجمعيات تعاني من شبه نفور للشباب لأن عملها يتعرض لعدة عراقيل تجعلها تعيش أزمة أداء أو مرحلة انتقالية. لا قرارات فوقية للمجتمع المدني ولتصحيح هذا الوضع، يقول عبدلي، يجب على المشرع والمنتخب المحلي أن يعرف أن المجتمع المدني حركة اجتماعية تلقائية، لا يمكن للرجل السياسي أو المنتخب أو البرلماني أن يضع شروطا معينة لتأسيس الجمعيات، ولا يجب أن تكون فيه قرارات فوقية للمجتمع المدني، فهو شريك ولديه الطاقة التي تمكنه من الإبداع وصياغة المبادرات. ومن جهة الإجراءات القانونية المنظمة لهذا النشاط، ينبغي أن نفهم أول شيء السياق الذي برزت فيه الجمعيات في الجزائر والمجموعات التطوعية، وعلى المشرع الجزائري أن يدرج عند سنّ القوانين المسيرة لتسيير الجمعيات والفاعليات الاجتماعية غير المذكورة، مثل المجموعات التطوعية والمبادرات الفردية، لأن الأفراد هم عنصر أساسي لقيام مبادرات. لاحظنا في تجارب عالمية كيف أصبحت مبادرة فرد معلما من معالم النضال المجتمعي، كما عليه صياغة القوانين بسلاسة تجعل الإطار القانوني يحتضن الكل بدون إقصاء، ويضع آلية لتحديد دور الجمعيات وتحديد العراقيل التي تواجهها، فكما هو معروف تقنية التقييم تؤدي إلى تقويم وتحسين الأداء وهذا ما ينقص الجمعيات الجزائرية. ويتعين على الجمعيات الاهتمام بالتكوين الذي يفي بالغرض، فما هو معتمد اليوم لا يتناسب مع الاحتياجات والبيئة الثقافية والاجتماعية الجزائرية، إذ لا يجب استيراد أو استنساخ برامج تكوينية كلاسيكية مطبقة في دول أجنبية، مقترحا أن تنشط الجمعيات في إطار شبكات تعمل على عقلنة التكوين وتضع برامج بناء على دراسات دقيقة للبيئة الاجتماعية والمحلية لكل منطقة، حتى يتم تحديد احتياجاتها. ويضيف عبدلي، بإمكان المكون الجزائري أن يمارس نوعا من الإبداع في التكوين، ولا يتقيد بالقالب المستورد أو بدليل وضعته جمعيات أجنبية، ولكن الجمعيات حاليا لا تسمح له بذلك. عطية: قطاع ثالث بامتياز من جهته، أكد إدريس عطية، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة الجزائر 3، أن المجتمع المدني اليوم أصبح قطاعا ثالثا بامتياز، إلى جانب القطاع العام والخاص، حيث أصبح يلعب دورا في غاية من الأهمية سواء من حيث الدعم أو التجنيد أو المساعدة أو التوجيه. وأضاف أن المقاربات المعاصرة للمجتمع المدني تنظر له على أنه مجتمع مدني غائي أي له أهداف وغايات ومجتمع مدني مستقل ويتمتع بكامل الحرية، ومجتمع مدني مؤسس له هياكل وإطار عمل ومجتمع مدني طوعي يستقطب كل فاعليه بشكل وبدون مقابل. وأضاف المتحدث أنه بعد الأزمة الصحية تبين أن المجتمع المدني الجزائري يقترب من مرحلة النضج، حيث أبان عن تضامن كبير مع الحكومة والمجتمع في إطار نموذج جديد للتضامن المجتمعي الحكومي في الجزائر. وأمام الفراغ الرهيب الذي تركته الأحزاب في الجزائر أصبح المجتمع المدني المحلي مؤهلا للمساعدة في تفعيل الديمقراطية التشاركية في المجالس المنتخبة المحلية ومن خلال تدبير الشأن العام في الإطار المحلي. وعليه ينبغي أن يجعل من المجتمع المدني أحد عوامل استدامة المشاركة السياسية في المجتمع الجزائري، خاصة وأننا نتجه لإعلان جزائر جديدة قائمة على إشراك المجتمع المدني في الحكامة المحلية والوطنية.