* تنسيق أمني أمريكي مع دول المغرب العربي وعلى رأسها الجزائر خلال القمّة الأمريكية الإفريقية المنعقدة الأسبوع الماضي في واشنطن أعلن الرئيس الأمريكي باراك أوباما أمام قادة إفريقيا عن استثمارات أمريكية ضخمة موجّهة إلى القارّة الإفريقية في قمّة غير مسبوقة تتمحور أساسا حول التعاون الاقتصادي في ظاهرها لكنها تنبع في الحقيقة من خلفيات أخرى غير معلنة، ولم تخف أمريكا خلال هذه القمّة رغبتها العارمة في توجيه دفّة سفينتها نحو إفريقيا في محاولة لإعادة الانتشار فيها يشهد التاريخ أن اليد العاملة الإفريقية التي تمّ استعبادها واستغلالها منذ قرون خلت كان لها أثر كبير بشكل أو بآخر في تراكم رأس المال الأمريكي وصولا إلى مرحلة الإمبريالية، ورغم أنه لم يكن لأمريكا حضور كبير في القارّة السمراء أثناء الاستعمار التقليدي في القارّة الذي مثّلته كلّ من فرنسا وبريطانيا، غير أن الحرب الباردة أدخلت القارّة الإفريقية في حسابات أمريكا بسبب صراع الاستقطاب الذي خاضته ضد الاتحاد السوفياتي في مختلف مناطق العالم، ولطالما اعتبرت الولايات المتّحدة الأمريكية الدول الإفريقية مناطق نفوذ خاصّة بحلفائها الأوروبيين حتى بدأ اهتمامها الجدّي بالقارّة مع نهاية الحرب الباردة لأسباب متعدّدة إغراءات وحوافز جاءت هذه القمّة على شكل إغراءات وحوافز اقتصادية يريدها أوباما أن تكون استثمارات مباشرة ومشاريع مشتركة تحاول أمريكا من خلالها فتح آفاق جديدة للاستثمار والتجارة في إفريقيا حتى تنعش اقتصادها الذي يعرف تعثّرا كبيرا منذ 2008 بسبب تأثيرات الأزمة الاقتصادية العالمية الخانقة جاءت فكرة القمّة بعد الجولة الإفريقية التي قام بها الرئيس الأمريكي باراك أوباما الصيف الماضي زار خلالها كلاّ من السنغال وجنوب إفريقيا وتنزانيا، تريد أمريكا التغلغل مجدّدا في قارّة إفريقيا التي يوجد بها من الثروات ما لا يوجد في غيرها، لذلك يعتبرها كثيرون قارّة المستقبل دون منازع، خاصّة مع توفّر الأخيرة على احتياطات هائلة من الثروات الطبيعية الخام على اختلاف أنواعها وتستورد أمريكا نحوى 17 بالمائة من احتياجاتها النفطية من إفريقيا، إضافة إلى وجود ما هو أهمّ من النفط في القارّة السمراء، وأنا أتكلّم هنا عن اليورانيوم الذي تعتبر دول النيجر وزيمبابوي وجنوب إفريقيا مصدرا غنيا به من جانبها الدول الإفريقية يسيل لعابها للاستفادة من التكنولوجيا الأمريكية خاصّة في القطاعات الفنّية، إذ أنها متأخّرة جدّا في هذا المجال، بل ما تزال تعتمد على الشركات الأجنبية في استكشاف ثرواتها كالتنقيب عن النفط مثلا زيادة على حاجة بعض هذه الدول إلى أمريكا في مجال الدفاع والشؤون العسكرية، فهناك إقبال إفريقي متزايد على إبرام صفقات تسلّح كبيرة مع مصانع السلاح الأمريكية إحدى الحقائق التي تخصّ العلاقات الأمريكية الإفريقية هي سيطرة المنظور الأمني عليها، فالكثير من الدول الإفريقية تشارك في البرنامج الأمريكي لمكافحة الإرهاب عبر الصحراء مثل الصومال وكينيا والكاميرون والنيجر وأوغندا وليبيريا ونيجيريا، وإضافة إلى التنسيق الأمني مع دول الساحل هناك تنسيق أمني أمريكي مع دول المغرب العربي وعلى رأسها الجزائر وتحاول أمريكا التضييق على الأقاليم النيجيرية التي تريد تطبيق الشريعة الإسلامية، وكذلك السودان خوفا من امتداد ذلك إلى بقية البلدان الإفريقية التي توجد بها قوى وحركات إسلامية كالسنغال ومالي وغينيا وترى الولايات المتّحدة الأمريكية أن الجماعات الإرهابية والحركات المتمرّدة تشكّل تهديدا لمصالحها ولاستثمارات شركاتها التي تبحث عن الاستقرار في القارة الإفريقية أكثر من أيّ شيء آخر، وهو ما دفع أمريكا إلى تنصيب قيادة الأفريكوم (القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا) التي تعتبر من ميراث السياسية الخارجية التي انتهجتها إدارة جورج بوش الابن دفاعا عن المصالح الأمريكية في القارّة الإفريقية إن الولايات المتّحدة الأمريكية بوصفها قوة عالمية مهيمنة تنزع إلى السيطرة والتغلغل تملك مصالح متداخلة ومتصادمة مع دول أخرى ومصالحها في إفريقيا تزعج بعض الدول الكبرى مثل فرنسا القوة الاستعمارية في المنطقة سابقا، والتي لطالما اعتبرت إفريقيا مجالها الحيوي الذي لا تسمح للآخرين بالاقتراب منه، بل تعتبر ذلك مساسا بأمنها القومي، خاصّة مع الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها حاليا ولا تجد لها مخرجا سوى عبر الأسواق الإفريقية وتسيطر فرنسا مع دول أوروبية أخرى إضافة إلى الصين على قطاعات مهمّة من الاقتصاد الإفريقي، وتحديدا مجال الطاقة والبِنية التحتية والتجارة، لكن السياسة الخارجية الأمريكية الحالية التي يغلب عليها طابع الهيمنة تحرص على التواجد في كلّ زاوية من زوايا العالم ومناطقه المختلفة صراع طاحن هذا الاهتمام من القوى العالمية الكبرى بالقارّة الإفريقية يعكس في جوهره صراعا طاحنا بينها للسيطرة على القارّة أكثر من رغبتها في المساعدة على تحقيق التنمية بها، وأبرز أوجه هذا الصراع هو التنافس الصيني-الأمريكي حول القارّة الإفريقية الذي بلغ أشدّه في السنوات الأخيرة بعد أن تفطّنت الولايات المتّحدة الأمريكية إلى أن إفريقيا هي أهمّ مناطق العالم باعتبارها بيئة خصبة للاستثمار في مختلف المجالات، لكن يأتي هذا التوجّه بعد أن حقّق العملاق الصيني عدّة نقاط لصالحه ثبّتت أقدامه في القارّة السمراء حيث تشير الإحصاءات إلى أن حجم التبادل التجاري الصيني-الإفريقي بلغ ضعف نظيره الأمريكي-الإفريقي، كما أن حجم الاستثمارات الصينية في القارّة أكبر بكثير وكذلك المساعدات المباشرة التي تخصصها الصين للأفارقة، والتي تنافس بها المساعدات الأمريكية الإنسانية والموجّهة للتنمية المستدامة بذات القارّة عبر الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية هناك اختلاف جوهري في طبيعة توجّهات السياسة الخارجية لكلّ من الصينوالولايات المتّحدة الأمريكية، فالعملاق الصيني يعتمد في انتشاره عالميا بالتركيز على المنظور الاقتصادي بعيدا عن التدخّل في الشؤون الداخلية والسياسية للدول على عكس توجّهات السياسة الخارجية الأمريكية التي لا تكفّ عن التدخّل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى والدول الإفريقية من ضمنها طبعا فخلال القمّة الأخيرة خاطب جون كيري ممثّلي المجتمع المدني الإفريقي قائلا إن أمريكا ستواصل الدفاع عن حقوق الإنسان وحرّية الصحافة، كما شدّد على حرص الولايات المتّحدة الأمريكية على ضرورة احترام القادة الأفارقة لمبدأ التداول السلمي على السلطة كان يفترض بإفريقيا أن تثبت نضوجها واستعدادها الكافي للتفاوض بشكل جيّد لحماية مصالحها وبناء علاقات تعاون وشراكة حقيقية مع بقية القوى الاقتصادية العالمية، لكن إفريقيا مازالت تسير على نهج التبعية، فالواقع يقول إن كثيرا من الدول الإفريقية تغرق في الفوضى والفشل ولا تستطيع البقاء بمعزل عن المساعدات الخارجية نظرا لحالة اقتصاداتها الهشّة وهو ما يفتح باب التدخّل الخارجي في شؤونها، ولعلّ صور قوارب المهاجرين غير الشرعيين الأفارقة التي تغزو شواطئ أوروبا والمساعدات التي تهاطلت على دول غرب إفريقيا مؤخّرا لمواجهة وباء (إيبولا) لهي أكبر دليل على وجود تلك التبعية التي تجعل إفريقيا بعيدة جدّا عن بناء علاقات تعاون وشراكة حقيقية مع بقية دول العالم الكبرى، وبهذا ستبقى الإمبريالية العالمية والشركات متعدّدة الجنسيات تمثّل شكلا من أشكال الاستعمار الجديد بالنّسبة للدول الإفريقية حتى بعد مرور وقت طويل منذ استقلال معظمها ياسر بودرع