عُمق فجوة التواصل العاطفي الأبوي يحوّل المراهقة إلى دراما من منّا لم يلتق يوما في محيطه الاجتماعي مراهقا قرر في سنّ مبكرة ترك مقاعد الدراسة دون الالتفات لآثار ونتائج تلك الخطوة على حياته ليكتشف فيما بعد مرارتها متأخرا، إنّ الواقع يخبرنا أنّ غالبا ما يتبنى فيها الطفل المراهق «الرجل الكبير الصغير» قبل الوقت أفكارا من محيطه الاجتماعي تدعوه إلى خيار الاستغناء عن تعليمه والتوجّه للعمل لجمع المال بدل جمع العلم، لا لشيء سوى لدفع ثمن «رحلة اللاعودة» نحو المجهول عبر القارب أو «البوطي» كما يسميه العامة وهو يسلب حياة كثيرين منهم بدل أن يقربهم من مرفأ النجاة كأقصى تقدير، حينها يبدأ الأولياء في مصارعة الوقت والأحداث لانتشال طفلهم من بحر تسحبه كل تياراته نحو «دراما» نفسية اجتماعية، محاولة منهم فهم ما يدور في عقل المراهق أو المراهقة والبحث عن وسيلة إنقاذ من فخّ التسرب المدرسي، مشكل اعتبرته الأخصائية النفسية شيماء مزغيش في لقاء مع جريدة «الشعب» مؤخرا، يطفو إلى السطح خاصة مع كلّ دخول مدرسي وتؤكد على إمكانية علاجه، لا سيّما بالعودة إلى التدقيق في كيفية إصلاح طبيعة الروابط الأسرية العاطفية الخاصة بالمراهق عبر تحليل ومحاولة فهم الوضعية النفسية للأبناء المراهقين حتى يتمكن الجميع من الاتفاق على خطة علاجية نفسية تعتمد أساسا ويتجاوب معها كلّ أفراد الأسرة لكي تحقق فعاليتها بحسب كلّ حالة.
«الشعب»: ما الأسباب الكامنة وراء مشكل التسرّب المدرسي من منظور مجال اختصاصكم العلاجي؟ الأخصائية النفسية شيماء مزغيش: أولا، قبل التحدث عن مشكل التسرّب المدرسي أريد الإشارة إلى نقطة مهمة جدا، بحسب رأيي قبل حدوث هذا الأمر، على الأولياء التوجّه نحو الوقاية، لأنها أول مرحلة يجب الاعتماد عليها في التربية الأسرية، حيث تعتبر خيرا من العلاج، وهي تخصهم بالضرورة، فمعرفتهم بأهمية بناء علاقة والدية وأسرية مع أبنائهم منذ نعومة أظافرهم يمكّنهم من فهم ما يحدث مع ابنهم المراهق لأنّ مشكل التسرّب المدرسي في الأصل راجع لضعف الروابط العاطفية التي ينسجها الأولياء مع أبنائهم، خاصة من جهة الأب في مرحلة الطفولة المبكرة قبل أن يبلغ الإبن أو البنت مرحلة المراهقة، فاحتياجات المراهق ليست مادية فقط، بل تبنى في المجال العاطفي النفسي قبل احتياجهم لأيّ شيء ولا يتحقق إلا بإشباع العواطف الأسرية خاصة الأبوية، هكذا توجّه يجنّب الأسرة حدوث فجوة تواصلية عاطفية عميقة مُحكمة الغلق في هذه الفترة العمرية الحرجة يصعب إيجاد حلول لها من طرف أفراد الأسرة، لذلك على الأغلب يكون علاجها عن طريق متابعة ومرافقة نفسية من أهل الاختصاص تعالج المشكل من جذوره تجنبا لانفلات الوضع. كيف يتعامل الأولياء مع الوضع، هل له علاقة مباشرة مع مرحلة المراهقة؟ في أغلب الأوقات عندما تعرض علينا حالة نفسية شبيهة، عند التقرب من المراهق أو المراهقة نكتشف وجود انقطاع في الرباط العاطفي الأبوي بين الإبن أو الإبنة مع أحد الوالدين أو كلاهما مع بعض، وذلك منذ مرحلة الطفولة المبكرة فبعد التمعن في خلفيات المشكل نحاول تفكيكه لفهم أسبابه، حيث يتبين لنا انعدام رابط إيجابي بين الطفل ووالديه، فالطفل عندما يدخل فترة المراهقة تظهر عليه تغييرات هرمونية وجسمية ويبدأ أثناءها في ممارسة الانطوائية، علما أنه على العكس في حالة تمكن الأولياء من صنع علاقة جيدة بين الآباء وأبنائهم يمكن أن تنقص درجة الانطوائية لديهم، حيث يخفض من نسبتها بصفة كبيرة، لأنّ الطفل كائن اجتماعي فنجده في حالات عديدة لا ينطوي فيها بنسبة كلية، حيث يقوم بمخالطة أشخاص آخرين من المحيط الاجتماعي الخارجي لاسيما الأصحاب والرفاق في الشارع والمدرسة، حيث يبتعد حينها عن علاقته العاطفية والتواصلية مع أسرته، وبالتالي ينغلق على روابط أسرته وينفتح على غيره خارج محيط بيته، ما يجعله يتبنى أفكارا جديدة، ومع الوقت تتشكل فجوة في العلاقة الأسرية. حيث تتوسع وتكبر ويصبح فيها عدم توازن كبير يمكنه أن يهدم العلاقات الأسرية، خاصة مع أقرب الناس إليه لذا يتوجب البحث عن الأمور الخفية التي معظمها لا محالة يكون من بين أسبابها الرئيسة تسجيل خلل أو غياب جزئي أو كلّي لهذه العلاقة الأسرية تقريبا. لماذا لا يوفق الأولياء في احتواء ابنهم أو ابنتهم عاطفيا في عدة حالات؟ هنا يمكننا التأكيد على أنه في بعض الحالات قد يتحول غياب دور الوالدين في التربية العاطفية خاصة الأب غيابا يكاد يكون منعدما خاصة في مرحلة المراهقة، وهي تشكل حلقة مهمة بالنسبة للعلاقة التي تربط الإبن أو الإبنة مع والديهما، علما أنّ عدم توفرها يوصلهما إلى فجوة تواصلية عميقة كما سبق وأن شرحت وهذا ما يخبرنا عنه المراهقين في الحصص العلاجية، حيث نكتشفه لدى المراهق كعينة مجهرية تتكرر أيضا من خلال ما يسرد في الجلسات التي تجمعنا مع هؤلاء، عندما نجدهم يبوحون بكل ما يجعلهم في حالة انطواء أو تمرد. وتختلف ردود أفعالهم في كلّ مرة باختلاف حالاتهم النفسية ووضعياتهم وعلاقاتهم العاطفية مع أسرهم. أنصح دائما الأولياء إلى إصلاح علاقاتهم العاطفية بالعودة إلى البداية. فعندما يكون الطفل لديه روابط جيدة مع أمه أو أبيه تنقص الانطوائية كما سبق وأن ذكرت، التواصل مع الأبناء في سنّ مبكرة خاصة من جهة الأب المعروف في الغالب بأنه قد لا يهتم بالتواصل مع ابنه أو ابنته في مرحلة مبكرة، سواء لانشغاله مع العمل أو لعدم اهتمامه بهذا الجانب المهم الذي يمثل مفتاح العلاقة التي تربطه مع أولاده ويتخلى عنها جزئيا أو كليا. حيث نجد أنّ الأم هي من تعوض حضور الأب العاطفي، حيث تغرق أطفالها بكم هائل من العطف والحنان وتعبر عنه بالاهتمام في معظم الحالات تقريبا، أما الأب فبالكاد يكون حاضرا على المستوى العاطفي، وهذا ما يكشفه لنا المراهقون حيث يذكرون أنّّ لبّ مشكلتهم هو نتيجة تركيز اهتمام والدهم بتوفير الجانب المادي لهم وإهمال الجانب العاطفي من حيث التواصل، لذلك نجد الكثير منهم لا يقبلون الانفتاح ومناقشة مشاكلهم النفسية مع آبائهم ويفضلون الانطواء أو الهروب نحو حلول يقترحها عليهم محيطهم الخارجي، مثل اقتراح عدم إتمام الدراسة فالفتى المراهق يسعى إلى ذلك دون قبول أيّ مناقشة مع والديه ولا يسمح بفتح المجال أمام أبيه، لأنه لا يعتبره مهتما بأموره، مبررا ذلك بقوله أنه كان منذ صغره غائبا عنه لا يمكنه اليوم أن يأخذ أي قرار في مكانه، وكذلك الفتاة فنجد فتاة مراهقة صغيرة في السنّ تختار التوقف عن الدراسة ليس للذهاب للشارع أو للبقاء في البيت، بل من أجل الزواج برجل يكبرها بعشرات السنوات، بحسب التحليل للمعطيات الخاصة بها، إنّها وجدت فيه ما يعوضها عن احتياجاتها العاطفية التي لم يمنحها إياها والدها في صغرها، لذلك نجدها تأخذ قرارات متهورة وتهدّد بترك البيت، وذلك في الأصل يحدث لجلب الانتباه، وهذا التهديد العاطفي يمارسه لاسيما المراهق أو المراهقة على كل من أبويهما وهناك من يقوم بممارسة ابتزاز في الأول مادي ويتحول إلى مساومة عاطفية، سواء بوضع خطة درامية للانتحار أو الاختفاء لأيام وهناك من أصبح يفكر في «الحرقة» وغيره من الحلول غير المنطقية لتبرير توقفهم عن الدراسة، لذلك أنصح الأولياء بوضع واقتراح حلول بسيطة دون إظهار رضوخ لتهديد وابتزاز ابنهم أو ابنتهم وترك حرية الاختيار قابلة للتشاور والنقاش في ما يريده المراهق مع توجيه اختياراته بأسلوب مرن وذكي يقلل من حدة التوتر في العلاقة الأسرية.