قرارات صارمة أوقفت نزيف العملة الصعبة بالخزينة العمومية أظهر الاقتصاد الجزائري أداءً متميزاً في عام 2022، ونمواً سريعاً أفرزته الإصلاحات المالية والتشريعية التي أقرّها رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، أسهمت في إخراجه من بوتقة الاتكالية المحض على العائدات النفطية، وحرّرت قيوده ومبادراته في شتّى القطاعات الوطنية المنتجة. تسارع دينامية الاقتصاد الوطني وارتفاع معدلات نموّه، اعتبرها خبراء اقتصاديون ومتابعون للشأن مفاجأة غير متوقعة؛ لأنها جاءت في خضم أزمات سياسية واقتصادية دولية خانقة، وتنمّ عن وجود إرادة صارمة لدى القيادة العليا في البلاد لتحويلها إلى قطب صناعي واستثماري عالمي جذّاب في الأمد القريب. وتَشِير مؤشرات الاقتصاد الجزائري الإيجابية، ونقلته التصاعدية المتأتية عن إقرار الإصلاحات وتخليصه من التبعية للمحروقات، وحشد قدرات الإنتاج الوطني في كل القطاعات، بتحوّله إلى اقتصاد مستدام قادر على مواجهة التحدّيات وامتصاص الصدمات المستقبلية المتمخضة عن الأزمات الجيو-سياسية واضطرابات أسواق الطاقة العالمية. تحوّل تنموي اقتصادي أكّد الخبير الاقتصادي الدكتور مصطفاوي عمار، أنّ الجزائر استطاعت خلال سنة 2022، تحقيق تحوّل فعلي في التنمية الاقتصادية، بالرغم من صعوبة الظرف على المستويَيْن المحلي والدولي. وقال مصطفاوي في تصريح ل»الشعب»، إنّ التحوّل الجديد تؤكده عديد المؤشرات الاقتصادية الإيجابية المرصودة، سواءً في التقارير الرسمية أو تلك الصّادرة عن مؤسسات وهيئات دولية متخصّصة، أبانت عن ارتفاع مستويات النمو في هيكل الاقتصاد الجزائري. ولفت محدثنا النظر إلى تقرير صندوق النقد الدولي لشهر أكتوبر، حول الآفاق الاقتصادية في العالم، الصادر بمناسبة انعقاد الاجتماعات السنوية المشتركة مع البنك العالمي الذي توقّع نسبة نمو مرتفعة للاقتصاد الجزائري ب 2.3 %، مقارنة بنسب أفريل 2022، مضيفاً أنّ السنة القادمة 2023 يُتوقع بها نمو الناتج الداخلي الخام الحقيقي الجزائري بنسبة 2.6 % وفقاً للتوقعات الجديدة لمؤسسة بريتون وودز. مؤشرات واقعية دلائل تسارع النمو الاقتصادي، مثلما يقول الدكتور مصطفاوي، لم تأت من فراغ، بل هي نِتاج سياسة رشيدة، ومقاربة اقتصادية بنّاءة تبنتها الجزائر منذ تولي الرئيس عبد المجيد تبون سدّة الحكم، وساعد في تنفيذها منهجيةُ تقليص حجم الواردات من جهة، واستقرار أسعار المحروقات في الأسواق الدولية من جهة أخرى. كما شهدت سنة 2022 دراسة وصدور قانون الاستثمار الجديد، الذي يعتبر أهم وثيقة اقتصادية تسعى من خلالها الدولة إلى تحسين مناخ الاستثمار والأعمال الوطنيَيْن، بعد الانتهاء من مسار الإصلاحات السياسية والبناء المؤسساتي المَبنِي على الحكامة في القرارات والتنفيذ على أرض الواقع، مِمّا أعاد الثقة لمؤسسات الجُمهوريّة ومرافِقها العُموميّة. وتابع مصطفاوي قائلاً: «بلغة الأرقام، سجل الاقتصاد الجزائري زيادة في الصادرات خارج المحروقات من المتوقّع ارتفاعها من 4.5 إلى 7 مليار دولار في نهاية 2022، أمّا ميزان المدفوعات، سيسجّل فائضا عند 11.3 مليار دولار (6.3 % من الناتج الداخلي الخام) في مستوى لم يتحقّق منذ سنة 2014، مع توقّع صعود احتياطيات الصرف إلى 54.6 مليار دولار بنهاية العام بعد أنْ كانت في حدود 43 مليار دولار في شهر جويلية الماضي». سياسات حكيمة ويَرى الباحث المهتم بالشؤون الاقتصادية، مالكي فريد، أنّ الأزمة الاقتصادية والمالية التي ضربت الجزائر قبل تولّي الرئيس عبد المجيد تبون الحُكم، دفعته إلى البحث عن حلول آمنة تسمح بالحفاظ على احتياطي الصرف بالعملة الصعبة، وفي نفس الوقت، ضمان استمرار الدوران «الحذر» لعجلة التنمية الوطنية، ولعلّ ترشيد وعقلنة عمليات الاستيراد إحدى أهم الخطوات التي لجأ إليها رئيس الجمهورية. وقال الأستاذ مالكي في حديث مع «الشعب»، إنّ سياسة الرئيس عبد المجيد تبون في معالجة الملفات الوطنية حكيمة، غيّرت خارطة الاستيراد والتصدير في الجزائر بشكل جذري وغير مسبوق، في ظرف بضعة أشهر فقط، بعد سنّ قوانين تشريعية جديدة صارمة لتنظيم التجارة الخارجية، حقّقت طفرة في الاقتصاد، وأدّت إلى وقف نزيف العملة الأجنبية، مع مراجعة قوائم المستوردين وتطهيرها من 30 ألف مستورد، ليتراجع بذلك عدد أصحاب سجلات الاستيراد من 43 ألف سجل إلى 13 ألف ممارس للنشاط لا أكثر. ومن هذا المنطلق، توقّع تحسّنًا في المؤشرات المالية الكلية للاقتصاد الجزائري، بفعل واردات الطاقة المحتمل مداخيلها بين 55 إلى 60 مليار دولار بنهاية سنة 2022، والصادرات خارج المحروقات ستناهز 7 مليار دولار بنهاية شهر ديسمبر، في حين سيصل حجم احتياطي الصرف أكثر من 60 مليار دولار، مع فائض تجاري يقدّر بحوالي 16 مليار دولار منتظر نهاية العام الجاري. انتهاج الشفافية يُؤكد الباحث فريد مالكي، على أهمية النصوص التشريعية المستحدثة في تنظيم سير شتى القطاعات الوطنية، لاسيما قانون الاستثمار الذي حرص الرئيس عبد المجيد تبون على استحداثه، وانتهاج الشفافية في التعاملات، وتسهيل إجراءات دراسة ملفات المستثمرين إلى غاية تحويل الأرباح ورؤوس الأموال، وإزالة الضبابية التي كانت تلف نظرة المتعاملين الاقتصاديين تُجاه هذا القطاع في السّابق. علاوة على تمكين الإدارة من مرافقة ما جاء به في الميدان؛ لأنّه قانون يؤسس لمنظومة تشريعية ضامنة لحقوق المستثمرين، ويحمل في مضمونه أهدافا ورهانات من أجل تحقيق الإقلاع الاقتصادي، وبلوغ تنمية شاملة ومستدامة في البلاد. وأضاف: «جرى إعادة تنظيم الإطار المؤسساتي المتعلّق بالاستثمار الذي جاء به القانون الجديد، من خلال تركيز مهام المجلس الوطني للاستثمار، وتحويل الوكالة الوطنية لدعم الاستثمار إلى الوكالة الجزائرية لترقية الاستثمار، ووضعها تحت سلطة الوزير الأول، مع منحها دور المروّج والمُرافق للاستثمارات عبر استحداث شباك وحيد باختصاص وطني للمشاريع الكبرى والاستثمارات الأجنبية، وكذا استحداث شبابيك وحيدة غير ممركزة للاستثمار المحلي، وتعزيز صلاحياتها، مما سيسمح بتوفير الظروف المناسبة لتنويع الاقتصاد الوطني، والمساهمة في جذب الاستثمارات وخلق قيمة مضافة، ومناصب عمل كثيرة». «بريكس».. خطوة إستراتيجية أمّا فيما يتعلّق بالتحاق الجزائر المرتقب بمجموعة «بريكس» الاقتصادية، كشف مالكي، أنّ الحديث بدأ مؤخراً عن توسيع عضوية هذا التكتّل، لكي تصبح «بريكس بلس» على غرار «أوبك بلس»، عبر ضمّ دول جديدة لزيادة القوة والفاعلية، والجزائر من بين هذه الدول التي تقدّمت بطلب للانضمام، رحّبت به كل من روسيا والصين ودعموا عضويتها في هذه المجموعة الصّاعدة دوليا «بريكس». وبحسب محدّثنا، تنطوي دعوة الجزائر للانضمام إلى تجمّع «بريكس» العالمي، على العديد من الدلالات المهمة، أبرزها تزايد الاعتراف الدولي بأهمية ومكانة الجزائر وثقلها الاقتصادي والإستراتيجي إقليميا ودوليا، باعتبارها لاعبا رئيسيا في أسواق الطاقة العالمية، حيث تصل احتياطاتها من الغاز الصخري إلى 24 ألف مليار متر مكعب، وأكثر من 10 مليارات متر مكعب من الغاز الطبيعي، وحوالي 6 آلاف مليار برميل من البترول، ناهيك عن مقوّمات طبيعيّة وتنموية كُبرى وافرة، تمنح بلد الشهداء مهابة وتأثيرا على صيرورة الاقتصاد العالمي. كما تمنح عضوية الجزائر في تكتل «بريكس»، بعد استكمال مسار الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية، ومضاعفة حجم الصادرات خارج المحروقات، إمكانية رفع سقف طموحها للالتحاق بمجموعة العشرين G20 -جي20- في آفاق 2035، فالجزائر، بمقوماتها الضّخمة، تتوفر على جميع المؤهلات السياسية والاقتصادية والعسكرية التي تجعل منها دولة قوية ومحورية فعلاً وليس قولاً، وقد تكون المارد العربي والإفريقي الذي استيقظ من سباته العميق. ولادة من رحم الأزمات أبرز رئيس الإتحاد الوطني لأرباب العمل والمقاولين، محمد يزيد ملياني، أنّ مؤشر الاقتصاد الجزائري قفز تصاعدياً بشكل غير مسبوق، نتيجة السياسات الرشيدة التي انتهجها رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون. وأضاف ملياني في اتصال مع «الشعب»، أنّ إصلاحات الرئيس تبون انعكست جليا على انتعاش كل القطاعات الإنتاجية الوطنية، وتحقيق أرقام إيجابية على جميع الأصعدة، بالرغم من تَداعِي الأوضاع شديدة التعقيد الناتجة عن الأزمة الروسية الأوكرانية، المؤدية إلى ركود اقتصادي عالمي، تضخم متفاقم واضطرابات في سلاسل الإمداد والتوريد أرّق كثيرا من الدول. وتابع قائلاً: «في هذه الحقبة التاريخية من مسار بناء الجزائر الجديدة، نُثمِّن كل مجهودات رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون الذي تَحمّل المسؤوليات قبل ثلاث سنوات، وخاض غمار الإصلاحات الوطنية الشاملة مع بداية عهدته الرئاسية، في وقت كانت الجزائر تمرّ بوضع سياسي معقّد جداً، وهو ما جنّبَها السّقوط في مطبّات اللاشرعية الدستورية». رهانات ونجاحات يقول ملياني: إنّ الرّهان منذ البداية كان صعباً على ضوء التركة الاقتصادية الهشّة الموروثة عن المراحل السابقة، وتحلّى الرئيس تبون حينها - بالوطنية الصادقة في معالجة الأوضاع الداخلية، وترميم الاقتصاد الوطني واستنهاضه، حيث تُوّجت المساعي الدؤوبة بإخراج البلاد من خندق الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي لازمتها لسنوات. ومن جهة أخرى، ذكّر محدثنا، بفترة انكماش اقتصاديات دول العالم خلال مرحلة تفشي وباء كورونا كوفيد-19 الذي عطّل، في بادئ الأمر، انطلاق المسار التنموي الفعلي للجزائر الجديدة بعد رئاسيات 12 ديسمبر 2019، بَيْد أنّ تأزم الوضع الصّحي، لم يثن الإرادة الوطنية عن بعث برامج الإصلاح والإنعاش الاقتصادي، وفق رؤية استشرافية وحكيمة، أدّت إلى استقرار مؤسسات الدولة، وإعادة الثقة فيها لدى الجزائريين. ووفقاً لملياني، فإنّ تنفيذ الإصلاحات الشاملة وتسارع النمو الاقتصادي، حوّل الجزائر إلى قبلة لقادة الدول ورجال المال والأعمال من كل أنحاء العالم، وصيّرها مصدر ثقة وأمان للبلدان العربية والإفريقية، واعتبر ملياني أن الوضع الجديد يُؤسس فعلاً لنهضة جزائرية في كل المجالات بعد تحرير مبادرات الإنتاج الوطني وترقيته، والحدّ من التبعية الاقتصادية للدول الأجنبية. وعلى صعيد الإنجازات المتحقّقة، أشاد المتحدث بصدور قانون الاستثمار الجديد ونصوصه التطبيقية، وأضاف أنه يحتوي مضامين مدروسة وعالية الكفاءة، ضامنة لتطوّر الاقتصاد الوطني، ورفع ناتجه المحلي الخام خارج قطاع المحروقات، وأردف أنّ الامتيازات والتحفيزات المقدمة في هذا القانون، تمنح المستثمرين، المحليين أو الأجانب، حماية كافية من خلال استحداث هياكل تتبعية للمشاريع في الميدان، وهيئات تسيير ومرافقة، وإقرار باستقرار الإطار التشريعي لمدة 10 سنوات وغيرها من النصوص المشجّعة والمستقطبة للاستثمار في الجزائر. استرجاع الأموال أوضح الخبير الاقتصادي، البروفيسور محمد عجيلة، أنّ الأموال والممتلكات المسترجعة بالداخل والخارج، ستكون عنصر دعم جديد للاقتصاد الوطني، خصوصا ما تعلّق بالمصانع والعقارات ووضع الأموال داخل البنوك بالجزائر. وأفاد البروفيسور عجيلة في تحليل خصّ به «الشّعب»، أنّ عملية الاسترجاع تأخرت في الخارج بسبب تعقيدات الإجراءات القضائية، إذ يتعيّن اعتماد مسالك أخرى بانتهاج العلاقات والوسائل الدبلوماسية، تنفيذ اتفاقيات التعاون القضائي في هذا الجانب بين الجزائر وباقي الدول المعنية باستعادة الأموال. وأشار الخبير ذاته، إلى أن الاقتصاد الجزائري سجّل طفرة إيجابية في السنة الجارية 2022، رغم ما أفرزته أزمة وباء كورونا كوفيد-19 من متغيرات سلبية، اقتصادية ومالية، على بلدان العالم، منوهاً - في السياق - بأهمية نسب النمو المتوّقعة للاقتصاد الوطني من طرف صندوق النقد الدولي. إفريقيا.. توسّع بنكي ووصف البروفيسور عجيلة خطوة فتح فروع للبنوك الجزائرية في دول إفريقيا ب»المهمّة جدا»، كونها مُحفّزة ومُشجّعة على تصدير المنتوج الوطني إلى عمق القارة السمراء، وتجلب العملة الصعبة إلى الخزينة العمومية، خاصة مع استحداث مناطق تجارية حرّة على مستوى المعابر الحدودية في الجنوب، مؤكدا أنّ فتح الفروع البنكية المرتقب في بعض دول إفريقيا وأوروبا، جاء في إطار سعي السلطات العليا لتعزيز نمو الاقتصاد الوطني، وضمان كفاءته خلال السنوات القادمة، رفع حجم الصادرات إلى الأسواق الخارجية، ومرافقة المصدّرين الجزائريين والمتعاملين الاقتصاديين. تعافي الاقتصاد الوطني، وانفتاحه على الاستثمار المحلي والأجنبي، يفتح الأبواب أمام الجزائر للانضمام إلى تكتل «بريكس»، وتعزيز قدراتها ومقوماتها الداخلية في المرحلة القادمة؛ لتكون أكثر تهيؤاً للمتغيرات في الساحة الدولية، وبتأثير أعمق في محيطها الإقليمي المتوسطي وبُعدِها الإفريقي الإستراتيجي.