وقعت على رأسي تفاحة من شجرة اللغات.. فأحببت الترجمة أترجم حاليا كتابا عن الموروث الثقافي الجزائري عَمَّار قواسمية.. مترجم وأستاذ اللغة الإنكليزية، من مواليد 1992 بالشريعة ولاية تبسة، تَعامَلَ مع العديد من الهيئات والجهات التي تحتاج خدمات الترجمة والتدقيق اللغوي، كما يتعامل مع الأفراد الذي يرغبون في ترجمة الكتب والمقالات ومُلَخَّصات الدراسات والأبحاث.. ينشط عمَّار أيضا، في مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة فيسبوك ويوتيوب، حيث يُنتِج محتوى تعليميًّا بشأن الترجمة واللغات في شكل منشورات مكتوبة أو فيديوهات مصممة بطريقة ماتعة وبسيطة.. افتك عمَّار المَركَز الأوَّل في الثنائية اللغوية (عربية-إنكليزية)، في مُسابَقَة "تُرجُمَان العَرَب" 2022 التي تنظمها المدرسة العربية للترجمة بجمهورية مصر، كما فاز بجائزة رئيس الجمهورية للمبدعِين الشباب، في فئة النص المسرحي المكتوب، عن نصه "مَوتُ المترجِم".. ألَّف كُتُبًا، وَتَرجَم أُخرى، واهتَم بنقل موروثنا الثقافي إلى المتلقي الإنكليزي، أو نقل ما ألفه الإنكليزي عنا إلى العَرَبِيَّة إثراءً لمكتبتنا. - «الشعب": كيف ساقتك الأقدار إلى عالَم الترجمة؟ وماهي الأعمال التي قمت وتقوم بها؟ عمار قواسمية: أقُولُ دائِمًا: "عِندَما سَقَطَت علَى رأسي تُفاحةٌ مِن شَجَرَة اللُّغَات، اكتَشَفتُ جاذبية التَّرجَمَة!". وهذا يَعني أنَّ اختياري للترجمة مَبعَثُه شَغَفي بِاللُّغات؛ إذ إنَّني أحببت الإنكليزية مُذ دَرَستُها، مَعَ حُبِّي لِتَعَلُّم اللُّغَات الأُخرَى واكتشاف طرائق تَعبيرها وإدراكها لهذا العالَم.. أمَّا التفاحة التي نَبَّهَتني إلى هذا الشغف، فهي أستاذتي التي درَّسَتني مقياس "التَّرجَمَة" في السنة الثانية من طَور الليسانس، الأستاذة مسلوب دليلة من جامعة ورڤلة. ومازلت أذكرُ أوَّل دَرسٍ قَدَّمتهُ لَنا، وكُنَّا حِينَها ثُلَّةً من الطلبة، فخَرَجنا مِنَ الدَّرس مُنبَهِرين بِما عَرَفنا وَتَعَلَّمنا، ثُمَّ تَغَيَّرَ مَنظورنا لِلتَّرجَمَة تَمامًا. بَعدَها عَكَفتُ علَى تَطويرِ مَهاراتي في التَّرجَمَة، مِن خلال دُروس أساتذتي، وَالتَّكوين الذاتي من خلال القراءة والبحث والسؤال وتجميع الكتب والمقالات. أما ما قُمتُ به في الترجمة إلى غاية الآن، فقد ترجمتُ كُتُبًا من العربية إلى الإنكليزية وأخرى من الإنكليزية إلى العَرَبِيَّة، والأمر ذاته بالنسبة للمقالات العلمية وملخصات الدراسات والأبحاث. وقد نالت بعض ترجماتي دراسات أكاديمية في طور الماستر. أما الآن فأنا عاكِفٌ علَى تَرجَمَة كُتبٍ قَيِّمَة من الإنكليزية إلى العَرَبِيَّة ستَرَى النور قَريبًا، وستَكون - بِحَول اللَّٰه - إضافة إلى المَكتَبَة العَرَبِيَّة، وأخص بالذكر كتابًا عن موروثنا الجزائري سيكون إضافة حقيقية لمكتبتنا الوطنية، خاصة أن مؤلفه بريطاني الجنسية، عاش مدة في الجزائر فكتب عن عبقرية أهلها وحسن تصرفهم في أمور الحياة. - من الإنتاج الفكري لِعَمَّار كُتُب في مجال الترجمة، وقد أعلنتَ عن أحدها مؤخرا، وهو الكتاب المُعَنوَن بِ«قالوا عن الترجمة..". فماذا يقول عَمار عن الكتاب؟ نعم، هذا أحدَثُ كتاب أنهيتُ تأليفه. ويصبّ موضوعه في صميم مشروعي الثقافي: التأسيس لحركة ترجمة عربية تقتفي آثار حركة الترجمة في الدولة العباسية؛ على أمل أن نشهد نهضة حضارية في الجزائر والوطن العربي.. أما فِكرَة الكتاب فَلَطالَما رَاوَدَتني؛ إذْ كُنتُ أجمَعُ ما تَناثَر مِن مَقولَاتٍ عَن التَّرجَمَة وَنُقولَاتٍ بِشَأنِها. وَلَم أكتَفِ بِجَمعِهَا، بَل حَاوَلتُ أن أُتَرجِمَ العَرَبِيَّة مِنهَا إلى الإنكليزية وَالإنكليزية مِنهَا إلى العَرَبِيَّة، مُحتَفِظًا بِالمَخطوطِ في حَاسوبِي، عَلَى أمَلِ أن يَرَى النُّورَ يَومًا. وَحِينَ عَقَدتُ العَزمَ عَلَى إصدارِه، نَسَّقتُ مَا جَمَعتُ أوَّلًا، ثُمَّ أضَفتُ لِمَادَّتِهِ الكَثيرَ.. أمَّا الجَديد بِشَأنِه، فَقَد قَرَّرتُ ألَّا أكتَفي بِالجَمعِ وَالتَّرجَمَة، بَل أضَفتُ تَعليقاتي وَتَعقيبَاتي وَآرائي وَإضافاتي، إثراءً لِمَادَّتِه وَإضفاءً لِلَمسَتِي الخاصَّة، وَفَتحًا لِآفاقٍ جَديدَة في البَحثِ وَالتَّعَلُّم. وَإذْ نَضَعُ هذا المُؤَلَّفَ بَينَ أيديكُم، فَإنَّ رَجاءَنا أن يَجِدَ طَريقَهُ إلى العُقول فَيُلهِم طَالِبَ المَعرِفَة وَيُسهِم في إنتاجِها، وهذا واجبٌ نَسعَدُ بِتَأدِيَتِه، وَاللَّٰهُ مِن وَراءِ القَصد. - تقع الترجمة دائما بين مفهومين، يتعلق الأول بالنقل الحرفي، والثاني بإعادة صياغة النص، كيف ترى الترجمة المثالية بينهما؟ هذه الثنائية قديمة قِدَم ميدان دراسات الترجمة، وقد بَرَزَت أوَّلًا إبان بواكير ترجمة الكتاب المقدس؛ فتجادل المختصون بشأن النقل الحرفي أم الحُر للمعاني. أما أنصار النقل الحرفي، فحُجَّتهم كانت أن لا أحد له سلطة تقرير المعنى المقصود؛ لذلك فنقله حَرفيا أسلَم، كما حاجّوا بأن ترتيب الكلمات في هذه النصوص مُقَدَّس وَلَهُ خصوصيته. أما أنصار النقل الحُر، فيَرونَ أن فهم المقاصد وإعادة صياغتها بما يلائم المتلقي من شأنه أن يضمن إفهام المتلقي والإحاطة بكل جوانبه الدلالية، الظاهرة منها والخفية.. ثم تطورت نظرية الترجمة، وعرفت تيارات جديدة، منها المتشدّدة بشأن الأمانة للأصل، ومنها المتساهلة بشأن التصرف فيه وإعادة إنتاجه أو إبداعه. وبين هذا وذاك، ومن خلال ممارستي للفعل الترجمي، أقف وسَطًا، فلا ضَرَر ولا ضِرار. أقف أولا أمام عتبة النص، فأحدد نوعه أدبيًا كان أم عِلمِيًّا؛ فلكل نوع خصوصياته وإجراءات ترجمته.. والنص الأدبي يمنحني هامشا أكبر من التصرف والحرية والابتعاد عن الحَرفية. أما النص العِلمي فدقيق ويعج بالمصطلحات، ما يقلص هامش الحرية والتصرف. وأتحفظ جدا عن ترجمة النصوص المقدسة، فأستعين دائما بالترجمات الرسمية المعتمدة لها، والتي درجنا على قراءتها واستعمالها. فلا أسمح لنفسي بترجمتها كيفما كان الطلب أو العرض أو المقام أو السياق. وبعد عتبة نوع النص، أتشاور مع العميل أو الزبون فيما إذا كان يريد منهجا بعينه؛ وهذا ما نصطلح عليه في الميدان ب«تعليمات العميل" أو "الغاية من الترجمة". وبعد كل هذا أبدأ الترجمة، وأتحرى في مهمتي الدقة والإخلاص والإتقان. - ند ترجمة النصوص، ألا يخالجك أحيانا إحساس بِانفِلات الكلمات من بين يديك؟ يحدث هذا دائما أثناء الترجمة ولكل المترجمين، وهو أمر طبيعي. فالمترجم إنسان، عقل وقلب، وهذا يعني أن مشاعره تتداخل وأحاسيسه تتضارب، ما يُسفِر عن انفلات الكلمات التي يبحث عنها.. في حال كهذه، ما أفعله عادة هو أن أتوقف عن الترجمة فورا، وأتمشى قليلا؛ تصفيةً لذهني وتغييرًا لمزاجي وتجديدا لنَفَسي، ثم أعود إلى العمل فأجد الكلمات تطاوعني والذاكرة تستجيب لندائي، فأُنتِجُ المَرغوب وأُنَفِّذَ المطلوب. - ما الفرق بين ترجمة الأدب وترجمة الفكر؟ وهل يحتاج مترجم الأدب إلى أن يكون أديبا ومترجم الفكر أن يكون مفكرا؟ كما ذَكرتُ سابقًا، تفسح الآداب والفنون هامشا أوسع للترجمة منه في الأعمال الفكرية والعلمية؛ هذا لأن الأدب يقوم على الإبداع، والرسم، وَالتشكيل، والتصوير، والتخييل، واستهداف الشعور، وإعمال العقل، وإثارة الوجدان، وإلهام التأمل، وتحريك العاطفة واستدرار الدمعة، واستكثار الابتسامة، وغيرها من الجوانب الإنسانية.. أما الفكر والعِلم فجامدان، يستهدفان التعليم والتثقيف، ورفع الوعي، والارتقاء بالذائقة، وإحقاق الحق، والنقل والتدقيق والبحث والتعليق، وجمع المعلومات وطرحها أما القراء، وغيرها.. أما أن يَكون مترجِم الأدب أديبا ومترجِم الفكر مفكرا، فأستشهد هنا بقول الجاحظ: "ولا بُد للتَّرجُمان من أن يكون بيانه في نفس الترجمة، في وزن علمه في نفس المعرفة"، ويَقصد الجاحظ أن المترجِم الحَق لا يُقدِم علَى الترجمة في أدب أو فَنٍّ أو فِكر لا يُجيدُه، وأن الترجمة يجب أن تَكون علَى قَدر الأصلِ: دِقَّةً وَوُضوحًا وَبَيانًا. من هذا المنطلق، أقول إن الأفضل التخصص في نوع من النصوص، فيَبرع المترجِم فيه، بَدَل أن يَخوض غِمار كل الأنواع فيستبيح حِماها، ويَقَع في المحظور: أن يهرف بما لا يعرف، ويخطئ أخطاء فادحة تجعل الناس يشككون في سلامة عقله. وفي هذا الصَّدَد يَقول الجاحظ حسب ما جاء في معجم الأدباء: "عيوب المنطق التصحيفُ وسوءُ التأويل والخطأ في الترجمة"، فأبعدَ الله عنا الخطأ والزلل وَقَرَّبَ مِنَّا سَلامَةَ المنطق والسَّريرَة. - هل التواصل بين المترجم والمؤلف شرط أساسي من أجل الوصول إلى ترجمة أمينة؟ سؤال في الصميم! أشكرك على التطرّق إليه.. عن نفسي، عندما يَكون مؤلِّف العمل الذي أترجمه حَيًّا فتواصُلي معه لا ينقطع، بل إني أرَى أنه ضرورة. وفي بعض الأحيان ينزعجون مني لكثرة أسئلتي..! لكنهم سرعان ما يتفهمون طبيعة عملي.. أفعل هذا؛ لأني أحاول تقمص شخصية المؤلِّف أثناء الترجمة، وهذا من أجل إنتاج ترجمة بروح الأصل، ومن باب الأمانة في النقل والمحافظة على المظهر والجوهر. وفي هذا الصَّدَد، أسوق لكم تَجربةً بسيطة من تجاربي.. هممتُ مَرة بترجمة أبيات شعرية للدكتورة آمنة حزمون، تَقولُ فيها "تِشرينُ، أَقدَمُ عُنوانٍ لِغُربَتِنا". ونحن نَعلَم أن "تشرين" في العربية إمَّا "تشرين الأول" وهو أكتوبر، أو "تشرين الثاني" وهو نوفمبر. وهنا يحتار المترجِم!! أي الشَّهرَين تقصد الشاعرة؟ وهذا ما جعلني أتواصل مع الدكتورة؛ لمعرفة المقصود، ولما أخبَرتني أنها تقصد "نوفمبر" ظَهَر في تَرجَمَتي .November - تشكل الأعمال المترجَمة من اللّغات الأخرى إلى اللغة العربية نسبة ضئيلة، في حين ما يترجَم إلى اللغات الأخرى نسبة كَبيرة جِدًّا. فما سبب تلك القلة في رأيك؟ يُقال "عَمَل غَيرُ مُتَرجَم هو عَمَلٌ نِصفُ مَنشور"، وهذا يدل بصفة قاطعة على أهمية الترجمة في نقل الآداب والعلوم، وعلى أن الترجمة هي الوسيلة المُثلَى لإعطاء حياة جديدة للنصوص، وإيصالها إلى عدد أكبر من القراء. وقد تفطنت الشعوب منذ القِدَم إلى هذه الحقيقة، فشجعوا حركة الترجمة ورصدوا لها الغالي والنفيس. واليابان أحسن مثال، فعندما أدرَكَت في القَرن السابق أن السبق لأوروبا رصدت لدور النشر فيها أموالا طائلة من أجل أن تصدر ترجمة يابانية عن كل كتاب علمي يصدر بلغة أوروبية، ثم دَرَّسَت اليابان العلومَ لأبنائها بلغتها الوطنية، فقفزت قفزة نوعية في سُلَّم الحضارة والتطور والازدهار. وأذكر في هذا المقام بعض الإحصائيات بشأن الترجمة في العالم العربي مقارنة بالدول الغربية: - يؤكد شوقي جلال، الكاتب والمترجِم المصري أن الكتاب المترجَم في العالم العربي لا يصل إلى أكثر من 5% من إجمالي المنشور من الكتب على المستوى العربي!! - إنتاج العالم العربي من الترجمة يعادل إنتاج البرازيل. - يُترجم كتاب واحد تقريبا لكل مليون نسمة في العالم العربي، مقابل 250 كتاب تقريبا لكل مليون نسمة في إسبانيا. - يترجِم العالم العربي بأكمله 1⁄5 ما تترجمه اليونان. وهذه صراحة أرقام مُقلِقَة، وتدعو بإلحاح إلى تحريك عجلة الترجمة. - من الصعوبات التي تواجهنا في الترجمة مسألة الحصول على التصريح بالترجمة، حيث تعجز حتى دُورُ النشر على الوصول إلى الناشرين أو الحصول على التصريح. لذلك، فَلَو تتوسّط مؤسسات الدولة وأعلى هيئاتها كوزارة الثقافة مثلا، فإن المشكل سَيُحَل. - أعلنت السيدة صورية مولوجي مؤخرا عن النية في تأسيس "المركز الوطني للترجمة"، ونحن في انتظار تجسيده؛ لأنه سيخدمنا ويخدم الترجمة.