من قلب الريف التابع لعاصمة الشرق الجزائري وتحديدا بمنطقة أولاد رحمون بقسنطينة، نستلهم من تجربة المهندسة في التغذية مريم برّاق، التي برعت في رسم صورة مكتملة عن المرأة الريفية الجزائرية المشبعة بالعلوم الحديثة في المجال الفلاحي، فاستطاعت أن تجمع بين العلم الحديث والتجارب المتوارثة عن الأجداد في مجال صناعة الأجبان ذات الجودة العالية. مطلع سنة 2023 كانت عائلة برّاق تنتج عددا محدودا من الأجبان، اعتمادا على حليب الأبقار المنتج من قبل الأهل في المنطقة، قبل أن تخوض تحدّي ولوج عالم صناعة الأجبان بسواعد وآلات محليّة بسيطة، تقول مريم: "أنا ممتنّة كثيرا لتوصيات رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، فبفضلها وجدنا تسهيلات إدارية قبل انطلاق مشروعنا المتواضع". وتروي مريم ل "الشعب" كيف بدأت حكاية عائلتها في صناعة الأجبان باستعمال قوالب يديوية، وبأيدي أفراد عائلتها سهرت مريم وأهلها على تحضير الجبن محليّا وتسويقه بصفة مجانية من أجل كسب ثقة الزبائن، قبل الشروع في صناعة حقيقية شارك فيها جميع أفراد عائلة برّاق. اليوم، تروي مريم وبثقة وافتخار كيف استطاعت عائلتها تلبية الطلب على المستوى المحلي لبلدية أولاد رحمون، وتحقيق اكتفاء محلّي في الجبن البرّي "كاممبير"، لتنتقل بعدها لتسويق المنتج للبلديات المجاورة وحتى خارج ولاية قسنطينة وتصل إلى مدن كبرى كالعاصمة، سطيف، البليدة وغيرها. وتطمح مريم وعائلتها في توسعة مشروعها الفلاحي وإيصال منتوجها لمختلف ولايات الوطن، ولمَ لا تصديره خارج البلد؟، مشيرة إلى أن جودة الحليب الذي توفره العائلات الفلاحية في المنطقة ساهمت بشكل كبير في إنتاج الأجبان بجودة عالية. الفلاحة العائلية أساس الأمن الغذائي يرى الخبير الفلاحي والمستشار السابق بوزارة الفلاحة والتنمية الرّيفية الدكتور أحمد مالحة، أنّ الفلاحة العائلية والفلاحين الصغار هم أساس الأمن الغذائي لأي دولة، فمجموع إنتاج هؤلاء يفوق إنتاج الفلاحين الكبار وأصحاب المساحات الزراعية الشاسعة، وحتى أصحاب المستثمرات الفلاحية الكبيرة، ضاربا المثل في تربية الدواجن وإنتاج اللحوم البيضاء، إذ يعتبر المربّون الصغار أهم مورّد للسوق، لذا تسهر الحكومة على توفير جميع متطلبات الإنتاج لهؤلاء، من أجل ضمان الاستقرار في المنتجات الفلاحية في الأسواق المحلية على وجه الخصوص. وأضاف الخبير أحمد مالحة، أن الأمثلة كثيرة وعديدة للفلاحة الأسرية التي استطاعت المساهمة في تحقيق الاكتفاء الغذائي لمنطقة معينة واستقرار الأسواق، لذا تدرك الحكومة جيّدا أن عليها الحفاظ على هؤلاء، مشيرا إلى التفاتة الرئيس عبد المجيد تبّون لمناطق الظل والتي تحوي على العديد من العائلات التي تمتهن الفلاحة وتتخذ منها مصدر رزق وحيد. ودعا الدكتور مالحة إلى عدم الاكتفاء بتوفير متطلبات التنمية، كتعبيد الطرق وتوفير الكهرباء الريفية، والتوجه نحو دعم الأسر الفلاحية بقروض مصغرّة، مقترحا استحداث آليات للتمويل تعفي الراغبين في الاستثمار الفلاحي مع عائلاتهم من تقديم ضمانات لا يمكن توفيرها من قِبلهم، وإنشاء بنك فلاحي متخصص في تمويل المشاريع الفلاحية المصغرة، كآلية تدعم التفاتة الرئيس لمناطق الظل والتي معظمها مناطق فلاحية بامتياز. وأشار محدثنا، إلى أن الرّيف هو أساس الأمن الغذائي والتعويل عليه سيسمح بتوفير العديد من المنتجات، مشيرا إلى الأسر الفلاحية التي تقدّم منتجات، بالرغم من حالة الجفاف التي تسود العالم اليوم. كما دعا لمرافقة هذه الأسر التي تشكل استثناء مادّيا ومعنويا من أجل النهوض بالفلاحة على مستوى الريف، باستغلال الحيازات الصغيرة والتي يبلغ حجمها مجتمعة آلاف آلاف الهكتارات. من مزايا الفلاحة العائلية أو الفلاحة الرّيفية، بحسب الدكتور أحمد مالحة، هو الإنتاج الوفير، فصغر المساحة يسمح للفلاح بالتحكم في جودة المنتج، كما بإمكان الفلاح الاعتماد على الطرق التقليدية في جميع مراحل حياة المنتج الفلاحي، أيّا كان نوعه. وذكر مالحة أن هذه الميزة تثبت أن الاعتماد على الفلاحة الأسرية بإمكانها تحقيق الأمن الغذائي وتثبيت الساكنة في الأرياف. في ذات السياق، يرى المستشار السابق لوزارة الفلاحة والتنمية الريفية، أن الفلاحة العائلية، مثلما تتميز بوفرة الإنتاج، تمتاز أيضا بتوفير منتج صحّي وذي جودة عالية، بفضل الأسمدة الطبيعية المشكلة من روث الحيوانات والخالية من أي مواد كيميائية، ناهيك عن صفاء المياه المستعملة وعذوبتها، وهي كلها عوامل تساعد على تقديم منتج وفير وآمن على صحة الإنسان. يرى الخبير الفلاحي أحمد مالحة، أن العائلات الفلاحية استطاعت الحفاظ على البذور القاعدية التي توارثتها على مدار عقود من الزمن ولا تزال تحافظ عليها في العديد من المنتجات، على غرار بذور القمح الجزائري الأصيل ك "العتبة، الزناتي، البليوني.." وبذور أخرى لمنتجات غذائية تعتبر أساسية في موائد الأسرة الجزائرية. ويعتبر الخبير مالحة، أن هذه الميزة تعتبر أساسية في الفلاحة العائلية؛ فتحقيق اكتفاء في البذور هو أساس جودة المنتج الذي تقدمه الفلاحة الريفية، على غرار ما تنتجه العائلات الفلاحية بولاية سوق أهراس، أقصى شرق البلاد، حيث أوضح محدثنا أن هناك من يوفر أكثر من 12 نوعا من البذور لفاكهة الكرز، وهو ما يوضح أن ذكاء أسلافنا في الفلاحة مكنّهم من توفير بنك جينات للبذور الأصيلة وطرق تخزينها، دون تلقي أي علوم في الفلاحة أو طرق التسيير الفلاحي الحديثة. وأكد الخبير الفلاحي، أنّ من بين أسباب التغير المناخي هي الأسمدة الآزوتية التي تؤثر على المناخ، وتعود بالضرر في نهاية دورة حياتها على الفلاحة، مشيرا إلى أن العالم يتجه اليوم نحو فلاحة بيولوجية خالية من المبيدات والأسمدة الكيميائية، واستغلال الحيازات الفلاحية الصغيرة للأسر، يمكّننا من أن نستغني عن الكثير من المواد الكيميائية في دورة حياة المنتج الفلاحي. الفلاحة العائلية حافظت على كل ما هو موروث جيني من جهته، يرى رئيس الغرفة الفلاحية لولاية سوق اهراس حمزة بشّيحي، أنه يمكن تقسيم الفلاحة العائلية إلى قسمين أساسيين، أولها الفلاحة الصغيرة والتي تعتمد على أدوات بسيطة وتستغل مساحات لا تتجاوز نصف هكتار، وهي تستغل في غذاء المواطن الريفي مع عائلته، وتوفر دخلا بسيطا، فيما توجد هناك فلاحة ريفية تشمل جميع الفلاحين الصغار وتشكل حوالي 80٪ من الفلاحة الجزائرية، وهي تشمل المساحات التي لا تتجاوز 7 هكتارات في مختلف الشعب الفلاحية، أغلبها تهتم بزراعة الحبوب وتعتبر مصدر رزق وحيد للعائلات الفلاحية. وأشار بشيحي ل "الشعب" أن سوق اهراس كأنموذج عن الفلاحة العائلية، فهي منطقة لها تقاليد ضاربة في القدم في الميدان الفلاحي، وتعمل على توفير غذائها من أرضها منذ عقود، مشيرا إلى أن طريقة الإنتاج المتوارثة لدى الأسر الريفية تعتبر جودة في حد ذاتها ومعيارا خاصا للتفريق بين المنتجات. وأشار رئيس الغرفة الفلاحية لولاية سوق اهراس، إلى عمل العائلات الفلاحية بالمنطقة على تطوير العديد من المنتجات الفلاحية المتوارثة عن أسلافهم، وتمكنت العائلات الريفية من توفير بذور محلية عرفت رواجا كبيرا عبر الوطن، بسبب تميزها بمقاومة جميع الظروف المناخية، كما أنها تملك مواصفات من الناحية العينية والذوق، وحتى من الناحية الكيميائية التي تسهل حفظها لأطول فترة ممكنة. ويرى حمزة بشّيحي أن الفلاحة العائلية بالجزائر عامّة، استطاعت الحفاظ على كل ما هو موروث جيني وكل ما هو خاص بطبيعة الفلاحة بالمنطقة، وهو ما سيسهم، لا محالة، في دعم مخططات الحكومة في تحدّي الأمن الغذائي، فهذا النوع من الفلاحة يستعمل أهله ما يدعى بالمصطلح التقني "بذور المزرعة"، وهو واحد من أوجه القوة لدى أي دولة لتحقيق الأمن الغذائي. وأشاد محدثنا، بقرارات رئيس الجمهورية خلال اجتماع مجلس الوزراء، مطلع هذا الشهر، والتي أثلجت صدور الفلاحين وعائلاتهم، فقرار منح البذور لهذا العام بشكل مجاني وتأجيل سداد الديون حتى الثلاث سنوات القادمة، ناهيك عن الخطوات التي اتخذتها الحكومة سابقا لفائدة الفلاحين بشكل عام، لهو خير دليل عن جهود الحكومة واهتمامها بالفلاحة والفلاحين. تربية المائيات بريف بسكرة تسهم في تعزيز الثروة السمكية لم تعد تربية المائيات حكرا على مدن الساحل الجزائري في الجزائر الجديدة، ولم تعد المناطق الريفية ب "عروس الزيبان" بسكرة حكرا على واحات النخيل والفلاحة فقط، فتربية المائيات عرفت رواجا لدى الشباب الراغب في خوض غمار تحدّي توفير هذه الثروة السمكية الغنية في غذائها. فؤاد، واحد من بين هؤلاء الشباب الذين اختار برفقة إخوته خوض تجربة استزراع سمك البلطي الأحمر في الأحواض التي شيّدها على أرض وهبها له أحد أفراد عائلته. فبالرغم من قِصر التجربة، إلاّ أن نتائجها اليوم مشجعة على توسعة المشروع الذي انطلق، بحسب فؤاد، ب10 أحواض، ليصل إلى أزيد من 40 حوضا يوفر أفراخ سمك البلطي الأحمر في السوق المحلية ببسكرة. ويرجع فؤاد الفضل في نجاح مشروعه للتكوين الذي تلقّاه في معهد التكوين المتخصص في تربية المائيات ببسكرة، حيث تلقى رفقة زملائه تكوينا في مجال تربية المائيات المدمجة مع الفلاحة، بالإضافة إلى الدعم الذي تلقاه في بداية نشاطه بتوفير الأسماك الموجهة للاستزراع، وبفضل هذا الدعم حوّل فؤاد صحراء عرفت بإنتاج التمور إلى فضاء منتج للثروة السمكية.