هذه السطور أخترق بها حاجز صمت التزمت به أسابيع طويلة لأسجل مرور ثلاثين سنة على اليوم الأسود الذي انتقل فيه الرئيس هواري بو مدين إلى رحاب الله، وكان وداعه ، بتعبير الرئيس الشهيد محمد بو ضياف، استفتاء على مشروع المجتمع الذي قدمه للشعب الجزائري وقضى نحبه وهو يسعى لتحقيقه ولن أتوقف عند التساؤلات المتواصلة وراء وفاة شاب في منتصف الخمسينات من العمر، لم يُعرف عنه مرض أقعده أو داء تمكن منه، قبل أن يصاب بما أصيب به وأنهى حياته بشكل صاعق. ولقد تعرض بو مدين إلى عملية اغتيال تاريخي جعلت البعض يتفادى الترحم عليه أو الاستشهاد بمقولاته أو رفع صورته، وراحت "القطط المبللة" كما أسميتها يوما تتقول عليه وتخترع بطولات وهمية على حسابه، ثم راحت تطارد كل من يحاولون اختراق الحصار حول شخصه وإنجازاته مسلطين عليهم الاتهام بالارتزاق، ولست أدري أي ارتزاق يحرص عليه من لم يعرف طوال حياة الراحل إلا عرق الجهد وسهر الليالي. وعَقد من كان تألقهم على الساحة السياسية بفضل وجودهم إلى جانبه ألسنتهم وربطوا أفواههم، ولدرجة أن بعض المستفيدين من الثورة الزراعية مثلا لم يقولوا كلمة خير واحدة عنها منذ وفاته. أما الوطن العربي الذي أعطاه بو مدين كل اهتمامه فلم يحفظ للرجل مواقفه، التي عبرت عن الثورة الجزائرية المنادية بنظام عالمي اقتصادي جديد، فهم العالم ضرورته بعد أكثر من ثلاثين عاما على خطاب بو مدين في الأممالمتحدة، ولم يتذكر الأشقاء مواقفه التي جسدت إرادة الشعب الجزائري في التضامن مع الأمة خلال محنها، وفي دعم حركات التحرير إلى أن آتت أكُلها. وبفضل القيادة الواعية الرشيدة لم تستعمل الجزائر ذلك التضامن أبدا للمنّ على الأشقاء أو للمتاجرة بالمبادئ أو لزرع شوفينية مقيتة في نفوس أبناء الشعب الجزائري، على عكس بعض الأشقاء الذين كادوا يجعلوننا نكرهُ استقلالنا من كثرة اجترارهم لأفضالهم علينا وعلى ثورتنا، وبدعمهم لنا ولبلادنا، وبما بذلوه في سبيل استقلالنا. ولعلي أقول هنا لكل من يريد أن يسمع بأن الجزائر دفعت غاليا ثمن حريتها منذ "يوغورطا"، ودفعت ثمن عروبتها وإسلامها منذ "شارلكان" ثم عبر ثلاثمائة سنة من جهاد البحر ضد الغزاة، وخصوصا الأسبان الذين حاولوا الانتقام لأنفسهم من فتح الأندلس، وبغض النظر عن أنه فتح أدخل أوربا إلى مجال الحضارة الحديثة. واستعمِرت الجزائر بعد أن تحطم أسطولها البحري في نوارين عام 1827 عندما هب لنصرة الأسطول المصري، وهكذا أصبح الباب مفتوحا أمام استعمار فرنسي استيطاني رهيب دفعت فيه الجزائر ما لا يقل عن خمسة ملايين شهيد، ماتوا بالرصاص وبالنيران وبالمجاعات وبالأوبئة. واستقلت الجزائر بفضل جهاد أبنائها أولا وقبل كل شيئ، وقامت ببناء استقلالها بفضل جهود أبنائها أولا وقبل كل شيئ، وهو ما يجب أن يسمعه منا ابتداء من اليوم بعض الأشقاء خصوصا في المغرب الشقيق، الذي حملنا لشعبه دائما كل الحب والتقدير، ولدرجة أن الشخصيتين العربيتين اللتان تحمل شوارعنا أسماءهما هما عبد الكريم الخطابي ومحمد الخامس، فقط ..لا غير. وراح بعض المسؤولين المغاربة يلوكون أسطوانة الدعم المغربي للشعب الجزائري، وكأننا أنكرنا يوما أن الشعب المغربي كان بالنسبة لنا الحضن الدافئ والملاذ الأمين، رغم أننا نعرف جيدا أن المواقف الرسمية للنظام المغربي، تماما كبعض المواقف الرسمية لآخرين، كانت تسير في اتجاه توسعي معاكس لإرادة الجماهير العربية والإسلامية، التي أعطتها ثورتنا أول نصر عربي إسلامي شعبي في العصور الحديثة. وراحت قيادات مغربية حسودة وحاقدة تؤلب الأقلام وتستنفر الأبواق المرتزقة لخلق وحدة وطنية زائفة تستقطب انتباه الشعب المغربي بعيدا عن معاناته اليومية، خصوصا تجاه طبقة حاكمة يتكامل في مرجعيتها إسلام محلي الولاء ورأسمالية شرسة التعامل وبورجوازية مغرقة في التعالي. ومع ذلك حرصنا دائما على ألا نتناول الأوضاع عند الأشقاء بما يُمكن أن يُقدم هناك على أنه جحود جزائري يعضّ يدا أحسنت له. لكنني اليوم أقول ... تبت يدٌ تتغنى بأنها تصدقت علينا بفرنك أو بزاورة أو بطبق حساء، فالعالم كله يشهد أن كفاحنا هو الذي فتح للأشقاء باب الاستقلال، وكان دعمهم لنا دينا لا ينكره إلا جاحد. وتبت يدٌ تتصور أنها صاحبة الفضل الأول في خروج الاستعمار من الجزائر، فقد دفع شعبنا دفع دماءه وأشلاءه ثمنا استقلال لم نكن الوحيدين الذين استفادوا منه. وتبت يدٌ تتصور أنها هي التي رفعت العلم الوطني في ربوع الجزائر، فقد رفع العلم على تلال من الأجساد الطاهرة عبر العقود والسنين. ولقد اتهمتُ كل من لم يحاول توضيح الأمور للشعب المغربي ليقول بكل وضوح أن ما نحمله له من حب وتقدير هو الذي جعلنا نتستر على الجرائم التي ارتكبها بعض قادته ضدنا، عندما كنا في حاجة لوقفة رجولة أو لكلمة خير. ونحن نعرف التاريخ، ولا ننسى كيف ألقت روما القبض على "يوغرطة" بفضل تواطؤ جارنا "بوكوس"، ولم ننس مواقف سلطان مغربي تجاه الأمير عبد القادر، حيث، كما يقول الدكتور الزبيري، تواطأ السلطان المولى عبد الرحمن بن المولى هشام في 1846 مع الفرنسيين ونكث بالعهد الذي قطعه للأمير، وجند الجيوش لمحاربة جيشه، وأصدر ظهيرا جاء فيه: "أمرنا خالنا الأمجد الشيخ بو زيان بالقيام على ساق الجد في إخراج عبد القادر ودائرته من إيالتنا السعيدة طوعا أو كرها، وحسم مادة فتنتهم وضلالهم، فكونوا معه يدا واحدة وشدوا عضده على ذلك حتى يقضي الغرض إن شاء الله تعالى، واعلموا أن من قاطع عبد القادر فقد أحاط نفسه ودينه، ومن تبعه وشد عضده فقد تعرض لسخط الله ورسوله وسخطنا، وقد أعذر من أنذر، وإن من تبعه فقد باء بالضلال والردى وحاد عن شريعة الهدى "تحفة الزائر ج 1 ص 317 وص .318 وتوجه الأمير إلى مشيخة الفتوى بالقاهرة فأجابه الشيخ محمد عليش:" ما كان يخطر ببالنا أن يصدر من السلطان مثل هذه الأمور مع مثلكم، فإنا لله وإنا إليه راجعون". وكانت واقعة "تافرسيت"، وتماما كما حدث بعد ذلك في ,1963 كان الجيش المغربي هو المهاجم وكان قائده العام هو الباشا هشام بن الأحمر سابقا بذلك الجنرال أو فقير بعدة عقود ورغم محاولة الأمير تجنب القتال والجنوح إلى السلم فإن الاصطدام وقع واحتدمت المعركة بين الطرفين على كُرْه من الأمير، كما أورد ذلك شيخ الإسلام التونسي محمد بيرم الخامس في كتابه "صفوة الاعتبار" . وأسفرت الحرب عن انهزام المعتدين، وقتل هشام بن الأحمر وجُزّ رأسه وحُمل مع حرمه وأبنائه إلى الأمير، فأمر بردهم محروسين إلى مدينة فاس". ونحن نعرف قصة اتفاقية "طنجة" بين السلطان والفرنسيين، والتي جاء فيها بأنه إذا ألقت السلطات الفرنسية القبض على الأمير عبد القادر فإنها تعامله بكل احترام وإذا ألقت قوات السلطان القبض عليه فإنه يُنفى في قلعة معزولة. ذلك ما حُجب عن الشعب المغربي الذي لا يعرف أيضا تفاصيل اختطاف طائرة الزعماء الأربعة في أكتوبر ,1956 والتي حاولنا دائما أن نتناسى شكوكنا حولها، بالرغم من الملابسات التي أحاطت بها وأشار لها هيكل في حوار متلفز لم يُكذب وقائعه أحد، ولم تنجح الغضبة المفتعلة في التعتيم على معطياته، ولم نحاول نحن، عفة واحتراما للجار، الاستفادة منه . وعلى نفس المنوال، وإكراما لذكرى الملك محمد الخامس ولأياديه البيضاء، تجاهلنا كل الضغوط التي مورست على عباس فرحات في 1958 لتفرض عليه، والجنرال دو غول يناور لإجهاض الثورة، إعادة النظر في الحدود الجزائرية المغربية، ولم يجد الرجل إلا أن يعطي وعدا ببحث الأمر بعد استرجاع الجزائر لاستقلالها، وهو ما كان محور اللقاء الذي جمع الرئيس أحمد بن بله مع السيد عبد اللطيف الفيلالي في العام التالي للاستقلال، حيث حمل له رسالة من ملك المغرب تطالب بتنفيذ ما كان في أحسن الأحوال وَعْدَ إذعان أعطيَ تحت الضغط في جو متوتر، قيل فيه لرئيس الحكومة المؤقتة بأن هناك طائرة تنتظر في المطار لتحمل وفدا مغربيا سيتفاهم مع الرئيس الفرنسي حول فكرته الخبيثة باعتبار الصحراء الكبرى بحرا يشترك في السيادة عليه كل من يحيط به من البلدان. وتواصل قيادات مغربية حملة شرسة لتجريم الجزائر، ولتقديمها للشعب هناك كمسؤولة عن سوء التخطيط المغربي تجاه القضايا الحيوية في المنطقة، خصوصا منذ قرار الملك الحسن الثاني اقتسام الصحراء الغربية مع موريطانيا خلسة وتواطؤا، بل وإنكارا لجميل وقوف بو مدين مع الملك خلال الصخيرات، حيث لم تشر صحيفة جزائرية واحدة، أدبا، إلى المكان الذي كان الملك مختبئا فيه. ومواقف أخرى مؤسفة أتجاوزها اليوم، سواء خدعة ما سمي المسيرة الخضراء، أو التلاعب بالألفاظ في نيروبي أو "مقلب" زيرالدا. أكتفي بأن أقول للأشقاء ... كفى. أنتم تبصقون في بئر ستضطرون، إن آجلا أو عاجلا إلى الشرب منه، عندما تجف كل المياه. وستظل حدودنا البرية مغلقة أمام مهربيكم وأمام مخدراتكم إلى أن تدركوا بأن تهريجكم لن ينجح في ليّ ذراعنا، وبأن إدعاءاتكم لن تفت في عضدنا، وبأن استعانتكم بواشنطون أو باريس لن ترهبنا. وسيظل الشعب المغربي دائما شعبا شقيقا لأنه شعب كريم أبيّ نتحمل مسؤولية كبيرة فيما تعرض له من تضليل، ولأن النبي أوصى بسابع جار، ولأن هواري بو مدين قال، ما دونه "كيسنغر"، بأن استقرار المغرب استقرارٌ للجزائر، ولأن عبد العزيز بو تفليقة التزم بذلك أمام نعش الحسن الثاني ------------------------------------------------------------------------