قال هيكل في إطار المقارنة أنه (..) إذا كان هناك شبه بين الرئيس السادات وبين أي حاكم سابق فقد كان بينه وبين الخديوي إسماعيل (..) كلاهما جاء إلى الحكم بعد فترة من الرواج المالي، وفي حالة الخديوي فقد كان سبب الرواج هو الارتفاع الهائل الذي طرأ على أسعار القطن المصري (..) وفي حالة السادات فقد كان السبب هو طوفان أموال البترول (..) وكانت مشكلة إسماعيل أن غواية أوربا له كانت غواية لا تقاوم (..) وكان السادات أيضا مقتنعا بأن مصر تنتمي إلى الغرب المتقدم وليس إلى الشرق المتخلف، وبرغم أن عاداته الشخصية لم تكن في البداية محاطة بمظاهر الترف الزائد فإنه كان مُحاطا بكثيرين على استعداد للانغماس في هذا الترف (..) ثم لم يلبث أن ذهب معهم في نفس الطريق (..) وعندما رأى طائرة الرئيس نيكسون، سلاح الطيران الأمريكي رقم 001، بدأ يريد لنفسه طائرة مثلها، وكان ثمنها خرافيا، إذا كان نحو 12 مليون دولار (..) ولم يكن يريدها تابعة للخطوط الوطنية المصرية ولا للسلاح الجوي الوطني، كطائرة نيكسون (..) واختصر الطريق فطلب من السعودية أن تدفع له ثمن هذه الطائرة لتكون هدية شخصية له. ولعلي أذكر هنا بأنه لم يكن للرئيس هواري بو مدين طائرة خاصة، ففي البداية كان يستعمل في الرحلات الرسمية طائرة ((إليوشين 18)) كانت هدية للرئيس أحمد بن بله من الاتحاد السوفيتي، ثم أصبح يستعمل طائرة للخطوط الجوية الجزائرية عند رحلاته البعيدة، يعاد ترتيب مقاعدها الأمامية، ثم وضعت سوناتراك طائرتين من طراز ((مستير 20)) تحت تصرف الرئاسة للرحلات القصيرة، وفيما بعد اشتريت طائرة ((غرومان)) عندما أصبح استعمال طائرات الخطوط الجوية الجزائرية يثير اضطرابا في الرحلات التجارية للشركة، ولم يكن استعمال الطائرات الرئاسية مقصورا على الرئيس بل كانت توضع تحت تصرف كبار المسؤولين في قيامهم بالمهام العاجلة. وفي المرحلة التي شهدت تداعيات كامب دافيد، وما نتج عنها من تجميد لعضوية مصر في الجامعة العربية التي نقل مقرها إلى تونس، سقط نظام الشاه وعاد آية الله الخميني إلى طهران في فبراير 1979، وأدرك العالم كله أن ما حدث ستكون له نتائجه المستقبلية بعيدة المدى وواسعة التأثير. وقبل أن أستأنف الحديث عن إيران، وخوفا من عثرات الذاكرة، أحب أن أذكر هنا بواحدة من المثالب التي أتصور أنها حُسبت في مصر على النظام السياسي في الجزائر، وهو احتضانها لسكرتير جمال عبد الناصر السيد عبد المجيد فريد، بطلب خاص من الرئيس بو مدين، وكذلك استقبالها لبطل حرب أكتوبر الفريق سعد الدين الشاذلي، الذي اتخذ قرارا شخصيا بالوقوف في صف المعارضة للرئيس السادات، وتخلي عن منصبه كسفير في البرتغال بعد فترة قضاها في لندن سفيرا للقاهرة هناك، وقرر الفريق أن يستقر في الجزائر رافضا عروضا من بلدان عربية أخرى، ربما كان من بينها العراق، وواصل، بمبادرة شخصية، نشاطه الفكري في كشف كثير من خلفيات حرب أكتوبر وأسرارها، وأكد بذلك ما كنا نحس ببعض جوانبه، ثم تعرفنا على الكثير منها عندما أصدر الفريق كتابه عن حرب أكتوبر، وبالطبع فقد اتهم النظامُ المصريُّ الفريقَ بأنه كشف أسرارا عسكرية مصرية، وهو ما ابتلعه الكثيرون هناك، ممن لا يعرفون أن معظم ما قاله الفريق معروف في الدوائر المعنية، وأصبح فيما بعد، بفضل الإنترنت، في متناول كل من يملك حاسوبا متواضعا. لكن القضاء العسكري جرّم الفريق وحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات، وهو ما كان في الثمانينيات كابوسا بعيدا، إلى أن حدث أمر لا أملك، للأمانة التاريخية، إلا أن أرويه هنا، لأنه يرتبط إلى حدّ ما بصلب الحديث. كان الفريق قد استقر في فيلا بشارع البشير الإبراهيمي، كانت أساسا تابعة لأحد وزراء الرئيس بومدين، وعندما اكتشف الرئيس أنه تم تجهيزها على أحسن طراز بأموال الدولة أصدر أمره بأن تنتزع لتكون من أملاك رئاسة الجمهورية ومقرا لضيوفها، ومن هنا وضعت تحت تصرف الفريق الذي أصبح ضيفا مبجلا على الجزائر منذ 1978، وخلال عهد كل من الرئيس هواري بو مدين والرئيس الشاذلي بن جديد، وكان يقوم على حراسته عناصر من الحرس الجمهوري، ةزرته مرارا مع بعض الأصدقاء، وظل الأمر كذلك إلى أن *استقيل* الرئيس الشاذلي واستقدم الشهيد محمد بو ضياف لرئاسة مجلس الدولة. وفي الأسابيع الأولى توجه إلى الفريق من قدموا أنفسهم على أنهم من عائلة الرئيس، ووجهوا له طلبا عاجلا بالخروج من الفيلا لحاجتهم لها، وأبلغوه بأنه ستوضع تحت تصرفه إحدى فيلات نادي الصنوبر، وغضب الضيف لهذا الأسلوب في التعامل فأبلغ السلطات الجزائرية بأنه قرر العودة إلى مصر، وللأمانة، فقد استدعاه الرئيس عندما سمع بالأمر، وألحّ عليه في البقاء، ولكن الرجل أدرك أن بقاءه قد يجعله عرضة لوضعية لا يقبلها فقرر العودة فعلا، ولم يكن في وداعه في مطار هواري بو مدين إلا عدد محدود من الأصدقاء، وكنت أنا آنذاك في باكستان، وألقي عليه القبض حال وصوله إلى مطار القاهرة، ونفذ ضده حكم السجن. وللأمانة أيضا، ظل الفريق يحمل للجزائر أطيب الذكريات ويعبر دائما عن احترامها لشعبها ولقيادتها، وهو ما سمعته منه في كل مرة زرته فيها في منزله بالقاهرة بعد إطلاق سراحه. وأعود لإيران معتذرا عن الاستطراد. فقد كان واضحا أن الشعب الإيراني قد لفظ الشاه نهائيا، وكان احتضان الرئيس السادات له كفيلا بتردي العلاقات بين مصر وشعب من أكبر شعوب المنطقة وبلد من أهم بلدان العالم الإسلامي، وللتذكير فإن شاه إيران كان من أهم من حرّضوا الرئيس المصري على القيام بزيارته المشؤومة، ويقول هيكل (حرب الخليج ص 105) بأن المستجدات الطارئة في الشرق الأوسط (في السبعينيات) كان يُمكن أن تصنع محورا جديدا يضم طهرانوالقاهرة وتل أبيب، ولم يكن الشاه بأي حال من الأحوال صديقا لمصر، ثم يقول (خريف الغضب ص 374) بأنه : ))طوال كل المعارك مع إسرائيل، سنة 1956/1967 وخلال حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر 1973 كان هو المُصدّر الرئيس للبترول الذي تحركت به كل دبابات إيران على الأرض وحلقت به طائراتها في الجو ومخرت به قطع أسطولها عباب البحرين الأبيض والأحمر(( وأدى تهافت زعم الرئيس المصري تبريرا لموقفه بأنه ردّ على دعم الشاه لمصر، إلى تصور أسباب أخرى في مقدمتها الضغوط الأمريكية لدفعه إلى عداء الثورة الوليدة، ووصل سوء الظن إلى درجة ادعاء البعض بأن السادات سال لعابه عندما عرف حجم أرصدة الشاه في البنوك الأمريكية، وهكذا استقبل بهلوي في القاهرة في مارس 1979، وظل هناك إلى أن توفي في يوليو 1980، فأحيطت جنازته بتظاهرة رسمية حُمل فيها التابوت على عربة مدفع كما يحدث مع كبار القادة، وأشرف الرئيس بنفسه على دفنه في مراقد الأسرة المالكة المصرية بمسجد الرفاعي، وكلها تصرفات جسدت بوضوح الموقف من الثورة الإسلامية الإيرانية من جانب ومن التقارب مع الأمريكيين من جانب آخر. وجاء الموقف الجزائري من الثورة الإيرانية بعد فترة من الصمت النسبي نتيجة للظروف التي مرت بها الجزائر في نهايات 1978 وبدايات 1979 إثر مرض الرئيس ثم وفاته، وكان مما قيل يومها أن الأمام الخميني كان يأمل في اللجوء السياسي إلى الجزائر ولم يتلق مباركة لذلك نتيجة للوضعية التي عرفتها البلاد، وهكذا لجأ بعد طرده من العراق إلى ضاحية باريسية، انتقل منها في فبراير 1979 إلى طهران بعد سقوط الشاه. وعلى عكس النظام في مصر، رحّبت الجزائر بقيام الثورة الإيرانية، وحياها الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد بقوله ما معناه بأنه يكفينا أن الثورة طردت سفارة إسرائيل وأعطت مقرها لسفارة فلسطين، وكان هذا بالتالي واحدا من أهم عناصر الاستياء المصرية من الجزائر. فقد أثارت الثورة قلقا شديدا لدى السادات، حيث كشفت موقف أمريكا المتخاذل من الشاه، أهم حلفائها في الشرق الأوسط، وهو ما سيُضعف من الخط الذي رسمه لسياسته الخارجية، قبل وبعد كامب ديفيد، أي خط الالتزام الكامل بالسياسة الأمريكية، لذلك، سارع بإعلان هجومه على الثورة، وأوحى إلى وسائل إعلامه، بإبراز قيامها بإعدام الآلاف من الإيرانيين !! )والمقصود بهم أساس مخابرات السافاك، التي أعدم قائدها نعمة الله ناصري في 16 فبراير 1979( وحاول السادات تجريد الثورة الوطنية والتشكيك في مرجعية إسلامها، بالتخويف من مبدأ ولاية الفقيه الشيعي المعروف، وسخر المرجعية السنية المصرية، والأزهر بوجه خاص، في التبرير الديني لسياسته المعادية لإيران الثورة، وصدرت التعليمات إلى المؤسسة الدينية، التي تغيّر موقفها 180 درجة من الحض على قتال إسرائيل إلى إصدار الفتاوى تبريرا للصلح معها، استنادا مبتورا للآية الكريمة »وإن جنحوا للسلم فاجنح لها« (سورة الأنفال – 61) وهكذا دخل الأزهر في معركة عداء مع الخميني لا تبررها إلا إرادة السلطان، ثم استنفرت قضية سلمان رشدي فأدينت فتوى الخميني في قضيته بعد أن شوه مضمونها وحيثياتها. وبدأنا نقرأ كلاما لرجال دين في مصر يدافعون ضمنيا عن تجاوزات سلمان رشدي، طبقا للتعليمات بالطبع، تعريضا بالمرجع الشيعي في إيران (هيكل ص 111) ويتحدثون عن ))حق المؤلف في الخيال وفي الإبداع، وأن الخميني رجل ضيق الأفق ومتخلف عن العصر (..) وكان هذا يحدث في مصر بينما يصدرُ قاضٍ بريطانيٌّ حكما في قضية سلمان رشدي يُطالب بقانون خاص يحمي الأديان من الإهانة((.