يعود نوفمبر اليوم في شموخ وكبرياء محمّلا بالذكريات بعد 60 سنة من الإعلان في غرته المباركة عن ثورة حرّرت شعبا من براثن الاستعمار وقيود عبودية دامت 130 سنة. ذكريات... مآثر وملاحم وقّعها رجال عظماء بالحديد والنار وانهار من الدماء والدموع، وبضريبة بلغت مليونا ونصف المليون من الشهداء والآلاف من الأرامل واليتامى، لتنعم بعدها أجيال هذا الوطن تحت ظلال الحرية والأمن والاستقرار. لقد كان لنداء بيان أول نوفمبر 1954، الذي وجهته الكتابة العامة لجبهة التحرير الوطني إلى الشعب الجزائري، على أن جبهة التحرير هي جبهته وانتصارها هو انتصاره، وأن هذه المجموعة من خيرة الشباب الجزائري المسؤول، المناضل الواعي العازم على مواصلة الكفاح، سوف يقدم للوطن أعز ما يملك، حتى كان لهذا النداء أكبر وقع على قلوب الوطنيين الأحرار بعد أن بث فيهم اليقين على أن ما اغتصب بالقوة لن يسترد إلا بالقوة، فتحولت بذلك ليلة الفاتح من نوفمبر، ليلة قدر شاءت لها الحكمة الإلهية أن تنير سماء الجزائر بعد ظلام دامس فرضه المستعبد على شعب حر كان ولا يزال دوما يعشق التحرر وفضاء الحرية. وقد اختزل شاعر الثورة الجزائرية هذا "القدر النوفمبري" في أبيات شعرية أزلية دوّت بها حنجرته الجهورية فضاءات ربوع الوطن، مثلما دوّى صفير رصاص سلاح المجاهدين الأحرار على كل شبر من هذه الأرض المباركة والتي روتها دماء الشهداء الزكية الطاهرة، فهو القائل: نوفمبر جل جلالك فينا ألست الذي بث فينا اليقينا سبحنا على لجج من دمانا وللنصر رحنا نسوق السفينا ولولا التحام الصفوف وقانا لكنا سماسرة مجرمينا ويكرر نفس الصورة في إلياذته، إذ يقول: تأذن ربك ليلة قدر وألقى الستار على ألف شهر وقال له الشعب: أمرَك ربي وقال له الرب: أمرُك أمري نوفمبر غيّرت فجر الحياة وكنت نوفمبر مطلع فجر وذكرتنا في الجزائر بدرا فقمنا نضاهي صحابة بدر. يعود إذاً شهر نوفمبر هذه المرة وفي كل مرة شهرا قدريا، بعد أن غيّر فجر الحياة وكان مطلع فجر جديد على شعب أراد التحرر والانعتاق، حيث أبت الأقدار إلا أن تلين لإرادته مادام حب الوطن والذود عنه من الإيمان، وأن إرادة الشعوب لا تقهر وهي تناشد الحق ولن ترضى إلا بالحق والعدالة والحرية التي تأسست عليها كل دساتير العالم. وإذا كنا اليوم في الجزائر نعيش في كنف الاستقلال والحرية، فإنه بفضل "موروثنا النوفمبري"، هذا الموروث الذي يجب أن نسعى دائما توريثه للأجيال القادمة وأن يبقى لصيقا بشخصيتنا الوطنية مثله مثل رموز الثورة التحريرية المجيدة وكل الرموز التاريخية الأخرى والتي من دونها لن يكون لنا وجود بين دول وأمم هذه المعمورة.