الحلقة والاخيرة عقدان من الزمن مرا على رحيل أستاذنا الدكتور الطاهر حليس رحمه الله، كان رحيلا مفاجئا ومفجعا، فالرجل لم يكن قد تجاوز الحادية والخمسين من العمر، ولم يكن يكل أو يمل من العمل والنشاط والحركة، فمن إدارة معهد جامعي، إلى تدريس الطلاب، إلى الخطابة في المساجد، إلى المشاركة في الأنشطة الاجتماعية المختلفة، كل ذلك توقف في لحظة ما من مساء يوم الجمعة الحادي والعشرين من شهر أكتوبر من سنة 1994، حين امتدت الأيادي الآثمة لتغتال هذا الرجل عندما كان عائدا إلى بيته بعد أدائه لصلاة المغرب في المسجد القريب من مقر سكناه.. واليوم، وبعد مرور عشرين سنة على رحيل أستاذنا، من حقه علينا أن نذكره ونُذَكِّرَ بمآثره، ونبرز خصاله ومناقبه. وهذه هي الحلقة الثانية من هذا المقال الذي نكتبه عنه بمناسبة هذه الذكرى. فرحة لم تدم وإن نسيت فلست أنسى تلك الفرحة الغامرة التي ملأت نفس أستاذنا الشيخ الطاهر حليس، وظهرت جلية على محياه، وعبر عنها بلسانه عدة مرات. وهي الفرحة نفسها التي ظهرت على وجه الرجل الكريم المجاهد العقيد الحاج لخضر رحمه الله، الذي حضر المناقشتين، وظل جالسا مستمعا ومتابعا لما يقوله الأساتذة المناقشون، منذ الصباح إلى آخر المساء. أيام قليلة بعد ذلك، وافق المجلس العلمي على ترقيتي وزميلي صالح بوبشيش إلى منصب أستاذ مساعد، وبذلك اكتملت فرحتنا وفرحة أستاذنا الدكتور الطاهر حليس رحمه الله. لكن هذه الفرحة لم تدم طويلا، إذ بعد ثلاثة أشهر، امتدت أيادي الغدر والإجرام لتغتال أستاذنا الكريم. ففي مساء يوم الجمعة (21 أكتوبر 1994)، وبعد أن صلى المغرب في مسجد علي بن أبي طالب بحي كموني، وهو أقرب المساجد إلى بيته، ولما خرج منه وكان في طريق عودته إلى بيته، اعترض طريقه من أطلق عليه النار فأصابه برصاصة أو بضع رصاصات في رأسه، سقط إثرها شهيدا مضرجا بدمه. وفي اليوم الموالي، تم تشييع جنازة أستاذنا بعد أن صُلي عليه في مسجد أول نوفمبر، وقد سار خلف نعشه الآلاف من أهل باتنة الذين كانوا يعرفون فضله وأعمال الخير التي كان يشارك فيها. وبعد كلمة التأبين التي ألقاها الدكتور أحمد رحماني، تم دفن الفقيد إلى جوار أمه رحمها الله والتي كانت قد توفيت قبله بشهر أو أكثر قليلا. وأذكر أن العقيد الحاج لخضر رحمه الله دعانا نحن أساتذة الكلية إلى الاجتماع، حينئذ، وحدثنا عن خصال الفقيد وعلاقته به، وكان مما قاله في تصوير خسارته وفاجعته هو شخصيا بفقده: (إن الذين قتلوا هذا الرجل، كأنما قطعوا يديَّ الاثنيتن). وفعلا، فقد كان رحمه الله يعتمد عليه في أمور كثيرة، ويستشيره في كبير الأمور وصغيرها، ولم يكن يبرم أمرا حتى يرجع إليه، وذلك ما شاهدته بنفسي، حيث كان الحاج لخضر كثيرا ما يأتي إلى الشيخ الطاهر في مكتبه أو يدعوه إلى أن يحضر إليه في مكتب الجمعية الدينية للمسجد، وكانا متجاورين تقريبا. وقد ترك الفقيد تراثا فكريا تمثل في رسالة الماجستير التي نشرت بعد وفاته، ورسالة الدكتوراه، وعددا كبيرا من الخطب المنبرية والمحاضرات العلمية والثقافية المكتوبة.
قصيدة الدكتور حسيب السامرائي في رثائه كان الأستاذ الدكتور الشيخ حسيب حسن حسب الله السامرائي العراقي، أحد الأساتذة المدرسين بالمعهد الوطني للتعليم العالي للعلوم الإسلامية بباتنة سنة 1994، وقد تأثر كثيرا لاغتيال مدير المعهد حينئذ أستاذنا الشيخ الطاهر حليس رحمه الله، فنَظَمَ قصيدة رثى فيها الفقيد، وأبرز خصاله ومكارمه، وقد سلمني صورة منها بخط يده، وكنت أحتفظ بها طيلة السنوات الماضية، ولعل هذه الفرصة مناسبة لنشرها.. يقول فيها: «خواطر مؤلمة وسانحة فاضت بها القريحة المجروحة بفقد أعز حبيب وأصدق صديق: طاهر النسب» فَوْقَ الْبَيَانِ وَفَوْقَ الشِّعْرِ وَالْكُتُبِ فَجِيعَتِي بِكَ يَا طَاهِرَ النَّسَبِ أَبْكِي بُكَاءَ غَرِيبٍ غِيلَ وَالِدُهُ بُكَاءَ طِفْلٍ فَقِيدِ الأُمِّ مُنْتَحِبِ أَرْبَعُونَ فِي خِدْمَةِ الإِسْلاَمِ مَا بَرِحَتْ حُقُولُ غَرْسِكَ فِي خَصْبٍ وَفِي دَأَبِ وَتَبْعَثُ الْعِلْمَ وَالأَخْلاقَ فِي زَمَنٍ سَادَ الظَّلامُ بِهِ بَحْرًا مِنَ الشَّغَبِ يَا حَسْرَتَى قَدْ جَزَاكَ الْغَدْرُ طَعْنَتَهُ كَمَا جَزَى عُمَرَ الفَارُوقَ طَعْنُ غَبِي فَكَيْفَ فَكَّرَ إِنْسَانٌ بِطَعْنَتِهِ مَاذَا يُرِيدُ وَمَاذَا دَافِعُ الرَّغَبِ يَا عَارَ غَدْرِ الْوَرَى فِي قَتْلِ مُرْشِدِهَا لِلَهِ لِلْخَيْرِ يَا كَرْبِي وَيَا عَجَبِي وَجَاءَ نَعْيُكَ لِي كَالْحِرْبَةِ انْغَرَسَتْ فِي الْقَلْبِ تُدْمِي الْحَشَا بِالْحُزْنِ وَالْغَضَبِ أَبَا تَوْفِيقَ أَلَسْتَ الْيَوْمَ تَرَى حُزْنَ الْجُمُوعِ لَبَحْرٌ جِدُّ مُصْطَخِبِ نَشْكُو إِلَى اللهِ مِنْ نَجْلاَءَ نَافِذَةٍ فِي قَلْبِ كُلِّ أَسِيفٍ مُسْلِمٍ أَبِي تَبْكِي الْمَنَابِرُ مَنْ كَانَتْ خَطَابَتُهُ تُرْوِي الْجُمُوعَ كَجَيْشِ الْمُصْطَفَى اللَّجِبِ أَهَكَذَا يَا بَنِي الدُّنْيَا جَزَاءُ الهُدَى جَزَاءُ كَاشِفِ لَيْلِ الْجَهْلِ وَالْحُجُبِ يَا نَائِحِينَ عَلَى الْمَاضِينَ مِنْ رُسلٍ قَتَلْتُمُوهُمْ بِأَكْبَادٍ مِنَ الْخَشَبِ أَلْحَقْتُمُ الْيَوْمَ طَاهِرًا بِرَكْبِهِمُ طَبْعٌ مِنَ الشَّرِّ فِيكُمْ دُونَمَا عَجَبِ كَمْ مُرْسَلٌ كَمْ وَلِيٌّ كَمْ فَلاَسِفَةٌ كَمْ مُصْلِحٌ قَتَلُوهُ طَاهِرَ الأَرَبِ صَعْبٌ عَلَى النَّفْسِ تَصْدِيقٌ بِمَصْرَعِهِ أَيَقْتُلُ النَّاسُ هَادِيهِمْ بِلاَ سَبَبِ مَا زَاحَمَ النَّاسَ فِي دُنْيَاهُمُ أَبَدًا مَطْلُوبُهُ اللهُ وَالأُخْرَى مُنَى الطَّلَبِ فَصَاحَةٌ مِنْ سَنَا الْقُرْآنِ نَبْعَتُهَا تَبْكِي وَتَهْدِي وَتَشْفِي الْقَلْبَ مِنْ وَصَبِ لِلَهِ مِنْ وَاعِظٍ تَسْرِي بَلاَغَتُهُ فِي الرُّوحِ لِلرُّوحِ فِي التَّحْدِيثِ وَالْخُطَبِ اخْتَارَكَ اللهُ مِنْ دُنْيَا مُلَطَّخَةٍ بِالْعَارِ مَمْسُوخَةٍ بِالظُّلْمِ وَالْعَطَبِ شَهَادَةُ الرُّسْلِ وَالصِّحَابِ نِلْتَ بِها عِنْدَ الإِلَهِ مَقَامًا عَالِيَ الرُّتَبِ خصاله النادرة واليوم، وبعد مضي عشرين عاما على رحيل أستاذنا رحمه الله، نذكره بخصاله الكريمة وأخلاقه العالية التي كان يتمتع بها ويتميز بها عن كثير من الناس. لقد كان يتميز بتواضع مثالي لا نظير له، فما عاملنا يوما على أننا تلاميذه أو مرؤوسوه، وإنما كان يعاملنا كإخوة وأصدقاء، فكان لا يَمَلُّ جلوسَنا معه في مكتبه، وإذا غاب أحدُنا أو تأخر قليلا في الحضور سأل عنه ولامه على عدم المجيئ إليه. وكنت شخصيا أجلس معه في مكتبه كثيرا، وعندما نكون لوحدنا، كان يخرج من محفظته مبحثا أو فصلا من رسالته، ويناولنيه ويخاطبني قائلا: اقرأه وانظر ما يحتاج منه إلى تقويم فقومه، رغم أني تلميذه وفي عمر أكبر أبنائه. وفعلا كنت أقرأ العمل وإذا وجدت فيه خطأ من أي نوع أشَّرت عليه، وعندما أجلس معه من جديد أذكر له ما وجدته من أخطاء، وهي في العادة أخطاء بسيطة جدا، نتيجة السرعة في الكتابة أو السهو في النقل، فيأمرني قائلا: وماذا تنتظر لكي تصححه، صحح في الورقة نفسها وسأعمل بالتصحيح عند رقن البحث. وإضافة إلى التواضع؛ كان الرجل بسيطا كل البساطة، في كلامه وسلامه، في حديثه وصمته، في ملبسه ومركبه ومسكنه، في جلوسه ووقوفه ومشيته، كان يأتي كلَّ ذلك على سجيته، دون تكلف أو افتعال، يعامل الكبير والصغير، والرئيس والمرؤوس، والمشهور والمغمور، معاملة واحدة لا تبديل فيها ولا تغيير. ومن عجائب بساطته؛ أنه كان في بعض الأحيان لا يعود إلى بيته عند الظهر، فإذا شعر بالتعب أو غلبه النعاس، افترش على الأرض قطعة من الكرتون أو سجادة صلاة، واستسلم للنوم، بعد أن يوصي أحدنا بإيقاظه إذا لزم الأمر. كما تميز رحمه الله بالكرم المنقطع النظير، فلم يكن يبخل على أحد بشيء، وكان يحرص على دعوتنا إلى بيته وتناول طعامه، وخاصة في المناسبات. بل أذكر أنه دعاني أكثر من مرة دون أي مناسبة. وقد انفرد رحمه الله بالتفاني في خدمة المصالح العامة بشكل يجعله في أحيان كثيرة ينسى حقوق أسرته وأولاده. وأذكر أني رأيته أكثر من مرة يوم الجمعة في المعهد، إذ بعد أن ينتهي من إلقاء الخطبة وأداء صلاة الجمعة في مسجد «فسديس» في الضاحية الشمالية من مدينة باتنة، كان يمر بالمعهد أولا، حيث يقضي وقتا يطول أو يقصر، قبل أن يعود إلى بيته. وكان إذا قصده أحد في مصلحة ما، يبذل كل ما يمكنه من جهد، في سبيل تحقيق تلك المصلحة، كائنا من كان ذلك الشخص، وربما عرَّضَ نفسه للإحراج بسبب ذلك، دون أن يبالي. لقد عشنا مع الشيخ الطاهر رحمه الله سبع سنوات متتالية، ما رأينا منه خلالها إلا كل خير، وما عرفنا عنه إلا الصلاح والتقوى والسعي في نفع المجتمع والناس. والحق أني ما رأيت في حياتي مثله فيمن عرفت وعايشت من الناس. ومهما قلت فيه، فإنني لن أستطيع الوفاء بحقه. وما شهدت للرجل إلا بما علمت، ولا أزكي على الله أحدا. نسأل الله عز وجل أن يتغمد أستاذنا برحمته الواسعة، ويحشره في زمرة الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، آمين. «انتهى»