في جزائر تستبد بها ظلمة فكرية، وظلامية إيديولوجية، فهي تعيش على ضوء الشموع في عصر النور الكهربائي، وفي جامعة، رواسيها جبال معرفية على قلتها، فهي تقوم على الهضاب، والروابي المنسية، في هذا الفضاء الوطني الخافت، وفي هذا المعلم المعرفي الباهت، تنطفئ شمعة معرفية أخرى لتضاعف من حلكة الظلام والظلامية، ويسقط جبل فكري آخر من جبال البحث الجامعي··· ذلك هو أستاذنا وأستاذ الأجيال، الدكتور عبد الله شريط· إنه رجل غيّبه الموتُ، فلفَّهُ الصمتُ، وهو من تعوّد على الحراك العقلي والحركة العلمية، فترك في دنيانا، صمتَ الحزنِ، وذهولَ الأسى، وذهال الاغتراب· وتزداد فاجعتنا فيه أنه يرحل عقب انطفاء باقة من الشموع المعرفية، سواء على الصعيد الوطني أو العربي· فقد انطفأت من قبله شموع معرفية مضيئة في فضائنا الجامعي مثل الدكتور موسى لقبال، والدكتور مولاي بلحميسي، والدكتور مياسي، والدكتور لكواغط، والدكتور محمد الطاهر عدواني، والدكتور حمودة سعيدي، والدكتور أحمد الأمين، وما منهم إلا بلبل صدّاح يغردُ في مدرجات الجامعة الجزائرية، فإذا ربطنا هذا الرحيل برحيل شموع أخرى كانت مصابيح مضيئة في ثقافتنا العربية الإسلامية، من أمثال الدكتور عبد الوهاب المسيري، والدكتور توفيق الشاوي، والدكتور عبد الحميد الذيب، والدكتور محمد عابد الجابري، والدكتور محمد حسين فضل الله، وأخيرا الدكتور نصر حامد أبو زيد، فإذا ربطنا رحيل مثقفينا الجزائريين برحيل إخوانهم من المفكرين العرب، أدركنا أية داهية أصيبت بها ثقافتنا الحضارية· فلو كان سهما واحدا لاتقيته ولكنه سهم وثان وثالث ولحكمة يعلمها الله، ارتبط رحيل الدكتور عبد الله شريط، وهو الفيلسوف المفكر العقلاني، برحيل الدكتور نصر حامد أبو زيد، وهو الفيلسوف المفكر العقلاني أيضا، ليكون الأول آخر الراحلين في المغرب العربي، وليكون الثاني خاتمة قافلة الراحلين في المشرق العربي· وما دمنا نخصص هذا الفضاء لمفكرنا الجزائري عبد الله شريط، فإن بعض الوفاء له، ونحن طلبته أن نذكر للأجيال الناشئة بعض مآثر هذا الفيلسوف، والبصمات المتميزة التي تركها في مقوّمات الثقافة العربية في الجزائر المعاصرة· أتصوره، في الستينات، عندما أستعرِض شريط أيام دراستي الجامعية، فيتراءى لي الأستاذ شريط في أناقته الفكرية، واستقامته العقلية، ومهابته الشخصية، يفرضُ علينا النقاش في المواضيع التي كان يطرحها، فيقدم لنا، لوحات فنية وأخلاقية، من ''علم الجمال'' كما صوّره، الفيلسوف الإيطالي ''بنديتو كروتشي'' أو صورا من القيم الإنسانية، كما وضعها أبو حامد الغزالي، أو أبو عثمان الجاحظ، ولكن أستاذنا عبد الله شريط كان يسقط كل تلك اللوحات، والصور على واقعنا الجزائري، أو واقعنا العربي، في انتمائه الديني، فيستنبط بعض المعاني والأحكام، التي تنمّ عن عقلانيته التي كانت جديدة على فكرنا، فقد كان يستند إلى مقولة الفيلسوف الطبيب أبي بكر الرازي، الذي يذهب فيها إلى القول، بأن الفلاسفة قد أفادوا الإنسانية أكثر مما أفادها الأنبياء· كان من الطبيعي، أن تثير أفكار كهذه، جديدة على عقولنا، ونحن في بداية التأمل الفلسفي، ردود فعل متباينة، فيسود النقاش ويطول، في محاضرته، وبالرغم من ذلك يجعلنا نتعلق بحصته، على ما فيها من اختلاف معه، كان هذا داخل المدرج الجامعي، أما خارج الجامعة، وفي الفضاء الثقافي الوطني، فقد كان أستاذنا الفقيد رجل إعلام بامتياز، لا تكاد تخلو من قلمه صحافة ذلك العهد، وخاصة جريدة الشعب اليومية، والمجاهد الأسبوعية، إلى غيرها من الدوريات والمجلات· لقد ملأها، ضجيجا وحوارا، لما كان يثير من قضايا مصيرية، كقضية اللغة العربية مع المفكر الجزائري الأستاذ مصطفى الأشرف، وقضية الصحراء الغربية مع المفكر المغربي عبد الله العروي، وغير ذلك من القضايا التي كان يثيرها في الإذاعة، خصوصا مع أستاذنا الفقيد عبد المجيد مزيان· كان أستاذنا عبد الله شريط، الجامعي الذي يفرض على مخاطبه احترامه، مهما اختلف معه، يعلم بذلك طلابه الجرأة على نقد ما لا يقتنعون به من فكر، حتى ولو أدى ذلك إلى زعزعة بعض المفاهيم، لإيقاظ النائمين في عصر الصحوة، وهو صاحب كتاب معركة المفاهيم· وإلى جانب الجدة والصرامة في العمل الجامعي تدريسا ومناقشة، كان يتسم بخاصية هامة تطبع شخصيته، وهي الدعابة في مجالسه، وكثيرة هي المزح التي كان يحلي بها مجالسنا، في قسم الفلسفة· وأذكر على سبيل المثال أن طالبا اشتكى منه ذات يوم لرئيس القسم، الذي كان هو أستاذنا الشيخ أبو عمران متّعه الله بالصحة، قال الطالب إن الأستاذ عبد الله شريط قد ظلمه -على حد زعمه - فأعطاه نقطة أقلّ مما يستحق، فطلب الأستاذ أبو عمران من أستاذنا عبد الله شريط أن يعيد قراءة ورقة الامتحان، ففعل الأستاذ، وبعد الانتهاء من إعادة قراءتها، تنهد وقال إن الطالب محق لقد ظلمته فعلا· فقال له الأستاذ الدكتور أبو عمران صحّحْ العلامة وكفى! فرد الدكتور عبد الله شريط، لقد ظلمته بأن أعطيته أكثر مما يستحق، ولكم أن تقرأوا أنتم ورقة الطالب لتتأكدوا من ذلك· وفي واقعة أخرى، اشتكى طالب أيضا من نقطة مادة الأخلاق للدكتور عبد الله شريط، وهي النقطة التي يتوقف عليها نجاح الطالب في السنة كلها، فطلب الدكتور أبو عمران من الدكتور شريط أن يعيد قراءة ورقة الامتحان، وكان قد أخذ فيها (9) تسعة، ليرى إذا كان بالإمكان إنقاذه بإضافة نقطة واحدة، وكعادته قرأ الأستاذ الورقة من جديد، ثم قال لنا سأعطيه النقطة، ولكن يأخذها ''بلا سماح'' وضحكنا جميعا··· ودعابة ثقافية أخرى، لا أعلم إذا كان قد اصطنعها أو سمعها، رحمة الله عليه، قال لنا، في جنوبتونس، يلاحظ ضعف اللغة الفرنسية، كما في جنوبناالجزائري أيضا، فعملت الأكاديمية الفرنسية على وضع منهجية خاصة بتعلم اللغة الفرنسية في الجنوبالتونسي، واختارت مدرسة معينة لتكون نموذجية في كيفية التعامل مع الفرنسية، وتحسينها في ألسنة أطفال المنطقة، وبعد مدة، قالت الأكاديمية الفرنسية إن المنهجية قد نجحت، فبعثت بمفتش اللغة الفرنسية إلى تلك المدرسة، ليتأكد من صحة النجاح· ذهب المفتش الفرنسي إلى تلك المدرسة النموذجية، مصحوبا بمساعديه ومسؤولي المدرسة، وجلس التلاميذ يستمعون إلى المفتش الفرنسي الذي قال لهم: سأعطيكم جملة بالفرنسية وأطلب أن يقوم أحدكم بإكمال الجملة بالفرنسية، والجملة هي: ''les enfants jouent'' (الأطفال يلعبون) فرفع تلميذ ذكي أصبعه، فأذن له بالإجابة، فقال ... les enfants jouent ومشوا· وضحك الجميع· هذا هو أستاذنا الدكتور عبد الله شريط في جِدِّهِ ومزحه، يعلمنا بالجرأة، ويعلمنا بالدعابة ··· إنه رجل تعددت مواهب فكره وتنوعت معالم موسوعيته، فهو الفيلسوف، والأديب، والشاعر، وعالم الاجتماع، وعالم الأخلاق، والإعلامي، والمترجم، والمؤرخ··· ومهما منحنا من فضاء فلن نستطيع ملأه، ومهما أوتينا من موهبة، فلن نفيه حقّه في هذا الفضاء المحدود، أمام إبداعه الممدود· إن الجزائر المجاهدة، والجزائر الثقافية العلمية، مدينة لعبد الله شريط، بأن تخلد اسمه، وتحدث قسمه، وتنشر إبداعه ورسمه· ورحم الله الأستاذ الدكتور عبد الله شريط، فقد كان من المجاهدين بالقلم، والكلمة، وهو أعظم جهاد· فيا أيها الراحل العزيز! لئن حيل بيني وبين أن أبكي جثمانك الغالي أمام القبر، فلا أقل من أن أرثى ذكرك العالي، بدمع الحبر، وإنا لفراقك لمحزونون·