عابد شارف: abed_charef@hotmail.com إنه مدير عام. أو رئيس جمعية ذات نفوذ واسع. أو وزير. إنه الآمر الناهي. إنه الرجل الذي يصنع القرار، ويقسم الثروة والسلطة. إنه يرأس الاجتماعات، ويعطي التوجيهات، ويحدد الاستراتيجية. إنه يتحكم في مصير المئات، بل الآلاف من المواطنين، وله الصلاحيات أن يحطم مستقبل مواطن بقرار بسيط، بالقانون أو بدون قانون. إنه المسئول الذي "يكرازي' (يدوس) كل من هو أدنى منه في سلم السلطة، ويقول "نعم سيدي" لمن هو أعلى منه. وبعبارة أخرى، إنه المسئول الجزائري، الذي لا يعرف حدودا لسلطته إلا الحدود التي سطرها أهل القمم. لكن هذا المسئول أصبح اليوم عاريا، يباع ويشترى في الشارع مثلما تباع الأقمشة القديمة. إنه أصبح مدللا في الأسواق بعد أن تم بيع كرامته في المحاكم. وقد ضيع هذا المسئول كل ما يعطيه عادة نوعا من الهيبة والاحترام، بعد أن فضحت قضية الخليفة جزء من المستور. فهذا السيد محمد روراوة الذي عاش في أوساط السلطة لمدة سنوات طوال. فقد ترأس سنة الجزائر في فرنسا، والكل يعلم أهمية هذه التظاهرة في مرحلة شهر العسل بين الجزائروفرنسا. وترأس قبلها فدرالية كرة القدم لما حاولت أجهزة الأمن أن تتسلط على كل ما يمشي ويجري في البلاد. وقبلها، ترأس الرجل ندوة للصحافة الجزائرية في جانفي 1992، لما كانت السلطة تعمل للحصول على مساندة الصحافة قبل وضع حد للانتخابات التي فاز فيها الفيس. ومن المفروض أن هذا الماضي أعطى الحاج محمد روراوة حجما لا مثيل له. لكن، وبعد مدة طويلة، اتضح أن كل ذلك لم يكن إلا رمادا... وجاءت الفضيحة مع التصريحات التي تم تسجيلها خلال محاكمة عبد المؤمن خليفة ورفقائه، وعلم العامة والخاصة أن تعيين محمد روراوة لرئاسة اتحادية كرة القدم تم في مكتب عبد المؤمن خليفة، وأن العملية الانتخابية لم تأت إلا لتعطي طابعا رسميا لقرار تم اتخاذه من طرف أكبر مهرب للأموال في تاريخ الجزائر. وحقيقة الأمر أن الإهانة، بل "التبهديلة"، بلغت حدا لم يكن ينتظره أحد. فهذا عبد المجيد سيدي سعيد الذي قيل أنه يتزعم أكبر تنظيم عمالي في إفريقيا يدخل رافعا رأسه إلى المحكمة –أقول المحكمة لا دار العدالة- ليشرح كيف أهدى أموال العمال إلى أكبر مهرب في تاريخ الجزائر. ولا مجال لذكر الوزراء لأن هؤلاء قد ضيعوا شرفهم يوم قال رئيس الجمهورية لأحدهم أنه يكذب، دون أن يطرده ودون أن يحس الرجل أن من واجبه أن ينسحب و"يستحي على عرضه". وذهب هؤلاء إلى المحكمة، ولم يخطر في بال أحدهم أن يستقيل، سواء كان مديرا أو وزيرا. إنهم يدخلون المحكمة كمدراء ووزراء، ويستنطقهم القاضي بعد استنطاق لص وقبل الاستماع إلى مجرم، ثم يعودون إلى مناصبهم، ويترأسون اجتماعات يعطون يعطون خلالها الأوامر ويتخذون القرارات التي تصنع مستقبل الجزائر. ولا يمكن هنا إلا أن نستعمل العبارة المفضلة لقائد الثورة الليبية معمر القذافي: طز. ولا يمكن أن نتهرب من الواقع: هذا النوع من الكلام هو الذي ينطبق على الوضع السياسي في البلاد، مع القوم الذين قرروا رفض القيم التي تصنع الأمم والأمجاد، مثل النزاهة والعمل والصدق والصداقة والوفاء والأمانة، ليتحولوا إلى محتالين تجمعهم السفاهة ويفرقهم الشرف. إنه كلام يتلاءم مع سلوك قوم ضيعوا أخلاقهم ليذهبوا طوابير إلى مكاتب عبد المؤمن خليفة لعلهم يحصلون على تذكرة طائرة أو بطاقة تسمح له بالحصول على "المصروف" بالعملة الصعبة. وإذا كانت الأموال التي ضاعت في قضية الخليفة هائلة، فإن الخسارة الكبرى تتمثل في الزلزال الذي أصاب المؤسسات والقيم. فرغم الأموال التي كان يتم تهريبها بحجم خيالي لمدة سنوات، لم يوجد في البلاد مسئول يحتج، ولا مؤسسة بنكية أو قضائية تدق ناقوس الخطر، ولا سلطة مراقبة تضع حدا للجريمة، ولا صحافة تبدي شكها في مغامرة إجرامية، ولا حتى جهاز أمني أو مخابراتي يحمي البلاد من عمل تخريبي بهذا الحجم. وأكبر خطر يتمثل في ما ينتظرنا، لأن الجريمة مازالت متواصلة. فالبلاد تواصل العمل بنفس الطريقة التي أفرزت قضية الخليفة، بنفس الأشخاص في نفس المناصب تقريبا. وأقيمت محاكمة لا تتم خلالها محاكمة المسئولين الحقيقيين عن الجريمة، ولا أهل الظل الذين فتحوا الباب لعصابة استطاعت أن تقوم بعملية سطو لم تعرفها الجزائر. هذا ما يدفعنا إلى النظر إلى محاكمة قضية الخليفة بطريقة أخرى. إنها ليست محاكمة الخليقة، إنما محاكمة الجزائر.