بعد نصف قرن من الاستقلال لازالت اللغة الفرنسية الأكثر استعمالا وحضورا في الخطابات الرسمية والمحاضرات والملتقيات والجامعات، وحتى في الشارع الذي بات يتحدث لغة تلجأ القنوات الفضائية العربية إلى ترجمتها، بسبب المصطلحات المفرنسة والهجينة التي لا يفهمها إلا الجزائريون، في حين لازالت اللغة العربية حبيسة المساجد والمدارس يستحي الناس من التحدث بها، ومن يتجرأ على ذلك يدعى بالمعرّب الذي يرمز في مجتمعنا إلى الرجعية والتخلف، في وقت تحولت فيه الفرنسية عندنا إلى رمز للحضارة والثقافة والعصرنة . استعمال اللغة العربية في حديثنا اليومي بات مصدرا للسخرية والاستخفاف أمام زحف وهيمنة اللغة الفرنسية على لسان السياسيين والنخبة والطلبة وحتى العوام، هذا الواقع يهدد حسب الكثير من المختصين بطمس الهوية اللغوية للمجتمع الجزائري الذي قال فيه عبد الحميد بن باديس يوما وهو تحت الاستعمار "شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب"، فمن يتحمل مسؤولية دفن هذه العروبة في المساجد والمدارس واستئصالها من الجامعات والشوارع والمؤسسات والمصانع..؟ حتى المؤسسات الأجنبية الناشطة في الجزائر باتت تكتب ملصقاتها الإشهارية بلغة عربية دارجة مكسرة حيث كتب أحد البنوك عبارة "يد وحدة ماتسفقش"، وكتب آخر "رقم للكرية"وفرضت بعض البنوك على زبائنها ملء الصكوك بالفرنسية، وحتى المؤسسات الصينية باتت تجتهد في استعمال لغتها في الإعلانات والمشاريع ولسان حال هذه المؤسسات يقول "هانت العربية علينا يوم هانت عليكم".
جزائريون يلجأون إلى الفرنسية لإخفاء لهجتهم العرقية أكد الأستاذ الهادي سعدي، مختص في علم الاجتماع، أن علاقة الجزائريين مع اللغة الفرنسية هي علاقة تاريخية استعمارية بالدرجة الأولى، فإن 130 سنة من الاستعمار أضعفت صلت الناس بحضارتهم ولغتهم، وبعد الاستقلال وجد الجزائريون صعوبة بالغة بالعودة إلى أصولهم بسبب ضعف العمل القاعدي للدولة والمجتمع في هذا المجال، وأضاف أن الكثير من الجزائريين يلجؤون إلى الحديث بالفرنسية بهدف إخفاء انتمائهم العرقي، لأن المجتمع الجزائري لا زال يعاني من آفة التفاخر بعرق دون الآخر، وهذا ما شكل عقدة نقص لدى البعض بانتسابهم إلى جهة معينة، وبما أن اللهجة تفضع الانتماء يلجأ الكثيرون إلى اعتماد الفرنسية كلغة رئيسية في كلامه، وبالنسبة إلى تغليب استعمال الفرنسية على حساب العربية في الحديث العام وحتى الأكاديمي بيّن محدثنا أن ذلك يرجع إلى الفراغ الثقافي والتكنولوجي والأكاديمي للغة العربية والتي اكتسحتها مصطلحات غربية فرضت نفسها على لسان الجزائريين، فعلى سبيل المثال جهاز الإعلام الآلي عوضه مصطلح "الميكرو" والفأرة "لاسوري" ولوحة الفاتيح "كلافيي" كل هذه المصطلحات وأخرى تنطق باللغة الفرنسية لأنها اللغة الأصل لهذا الاختراع الغربي، وحتى في الجامعات هناك هيمنة اللغة الفرنسية على المصطلحات العلمية، لأننا لم نقدم بدائل باللغة العربية التي تبقى محصورة في بعض العلوم الإنسانية فقط، وقال الهادي إن سقوط الحدود وظهور الانترنت خلق فضاءات مفتوحة للتواصل والتعبير وربط صداقات، وبما أن المواطن الجزائري ينطلق من موقع ضعف أمام الإنسان الغربي الذي ينظر إليه بنظرة المتقدم والمتحضر فإنه مرغم على التعاطي معه بلغته الأجنبية بصفتها لغة العلم والعصر، وحتى الثقافة الاستهلاكية للجزائريين صارت متفرنسة بسبب اكتساء المنتوجات الغربية للسوق المحلية.
النخبة السياسية والثقافية في الجزائر معقدة من اللغة العربية أكد الأستاذ حنطابلي يوسف من جامعة البليدة أن النخبة من المثقفين والسياسيين في الجزائر معقدون من اللغة العربية، مما يدفعهم إلى اللجوء في خطاباتهم ومحاضراتهم إلى اللغة الفرنسية التي يعتبرونها لغة الحضارة والعلم، فهم يعتقدون أن العربية وحدها ليست مقياسا لإظهار مستواهم العلمي ولو كانوا دكاترة، مما يدفعهم إلى اللجوء للفرنسية بهدف الظهور بمظهر المثقف المعاصر، مضيفا أن الجزائري عندما يستعمل اللغة الفرنسية في حديثه اليومي فهو يعطي إشارة للآخر بأنه متقدم وعصري، وهو ما بات متداولا ومعتمدا في الواقع، وحتى في الجامعة باتت كل العلوم التي ترمز للتكنولوجيا والعصرنة تدرس بالفرنسية، بينما تدرس العلوم الإنسانية التي وضعت في الدرجة الثانية بالعربية ويرسل إليها التلاميذ المتحصلون على معدلات منخفضة، وهذا ما يدل على أن الجامعة الجزائرية عاجزة عن إعطاء بديل علمي مستقل بالعربية، وأضاف الأستاذ حنطابلي أن الكثير من الجزائريين مقتنعون أنه لا ثقافة إلا بالفرنسية، والمشكل في النهاية أنه حتى من يتقن الفرنسية تجده يجهل اللغة العربية، في حين نجد المشارقة متحكمين في لغتهم العربية ويتقنون لغات أخرى على غرار الإنجليزية.
اللغة العربية هانت على أهلها فهانت على الناس انتقد رئيس المجلس الوطني لتطوير اللغة العربية السيد رشيد بن مالك عقدة الرسميين والسياسيين بالحديث والخطاب باللغة العربية، مؤكدا أن رواد اللغة العربية في الجزائر من مثقفين وأساتذة وكتاب هجروا العربية فهجرها العوام قائلا "لما هانت على أهلها هانت على الناس"، وأضاف أن جهود تطوير اللغة العربية في الجزائر لا زالت مدفونة في الرفوف رغم مايميزها من تقدم وتطور للكثير من الباحثين الشباب الذين تحصلوا على براءات اختراع في تقنيات تطبيق واستعمال العربية في جميع المجالات، مبيّنا أن وسائل الإعلام هي الأخرى متواطئة في دفع هذه الجهود وتلميع كل ما له علاقة باللغة الفرنسية، وأضاف السيد رشيد بن مالك أن بعث اللغة العربية في الشارع والجامعة والمصنع يتطلب إرادة سياسية قوية وقرارات شجاعة لدعم جميع الجهود التي ترمي إلى الرقي بلغة الضاد التي هي بحاجة إلى ثورة تكنلوجية لمواكبة العصر والتماشي مع متطلبات الواقع.