بعكس جولتنا الأولى في أكتوبر الماضي إلى مخيمات الرّوهينغا القريبة من مدينة كوكس بازار البنغالية، والتي لم تدم لأكثر من يومين، اخترنا هذه المرة أن تكون زيارتنا مطولة لغرض إنجاز وثائقي عن مأساة الروهينغا سيبث بعد بضعة أسابيع على قنوات الشروق، ولأجل هذا الهدف، سافرنا قبل وفد هيئة الإغاثة التابعة لجمعية العلماء بخمسة أيام رغم التحذيرات الكثيرة، لأن الصّحفيين غير مرحب بهم في هذا البلد، ونحن لم نحصل على التأشيرة إلا لأننا نرافق وفد جمعية العلماء، وهذا بعد انتظار طويل وإلحاح من جمعية العلماء التي أصرت على مرافقة بعثة الشروق لقافلتها الإنسانية إلى المخيمات. سفر نحو المجهول تجاهلنا كل التحذيرات وغادرنا الجزائر باتجاه العاصمة البنغالية دكا مرورا على اسطنبول في رحلة مريحة، لكنها طويلة استغرقت يوما وليلة، وصلنا مطار دكا فجر الفاتح من مارس الجاري، عبر رحلة للخطوط التركية، وكنا نتوقع بعض الصعوبات على مستوى التفتيش كما حدث في المرة السابقة، لكن الأمر كان معاكسا تماما لتوقعاتنا، إذُ تغيرت ملامح الشّرطي الذي كان يراقب الجوازات لما رأى أن نوع الفيزا التي حصلت عليها هي "J" وهي التي تسلّم للصحفيين، حيث غادر الشرطي مكتبه وطلب منا مرافقته، ومعه جوازي وجواز زميلي عبد الحليم معمر، وأخذنا إلى مسؤوله المباشر الذي طلب منا الانتظار إلى غاية النظر في قضيتكما مع مسؤوله الأعلى درجة، فقلنا له: أية قضية؟ وهل تشتبهون في أمرنا؟ فلم يرد واكتفى بطلب الانتظار، وبعد قرابة 20 دقيقة طلب منا هو الآخر مرافقته إلى مكتب يقع في الطابق الثاني، وهناك شاهدنا العجائب، واتضح أن كل شيء يمر على هذا المكتب، حيث مرت أمامنا مئات الجوازات التي يسحبونها من أصحابها للتدقيق الأمني، وفي غالب الأحيان يأتي أصحابها لاستلامها بعد الخضوع لتحقيق قاس من قبل رجال الشرطة الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة. 11 ساعة من الاحتجاز داخل مكتب للشرطة! لم نكن نعلم أننا محتجزون إلا بعد مرور نصف ساعة في مكتب الشرطة، إذ اعتقدنا في البداية أن الأمر يتعلق بإجراء روتيني للتدقيق في هوياتنا كما يفعلون مع كل الأشخاص الذين كانوا يدخلون المكتب ويخرجون بجوازات سفرهم، بعدها سألت الضابط: هل ترحبون عادة بضيوفكم بهذه الطريقة؟ نحن معنا تأشيرات موقعة من سفير بنغلادش بالجزائر، فلماذا تحتجزوننا؟ فلم يكن جوابه إلا أن قال أن الأمر ليس من صلاحياته، وأنه ينتظر ضوءا أخضر من مسؤوله، ومرت السّاعات ونحن في ذلك المكتب بلا أكل ولا شرب، وبعد كل ساعة يأتينا ضابط ويطرح نفس الأسئلة بلغة انجليزية ركيكة، ثم يذهب، وبعد مدة طلبنا منهم التحرك بحرية دخل أروقة الطابق الثاني، ما دام الأمر قد طال، وهنا لاحظت شابا يقف على مسافة قريبة ويراقب تحركاتنا فسألته، هل أنت شرطي؟ فقال أنا من المخابرات، وكان هذا الشاب هو خلاصنا بعد أن طلبت منه استعارة الانترنت لاستخراج دعوة من جمعية العلامة فضل الله البنغالية لعلها تقنع الشّرطة بضرورة السماح بالمرور، وسلمناهم الوثيقة، لكنهم طلبوا منا الانتظار مرة أخرى، وبعد ساعة جاءنا ضابط آخر وطلب منا رقم هاتف للشخص الذي ينتظركم في المطار، ويتعلق الأمر بناشط روهينغي يسمى عبد الله كنا ننسق معه عندما كنا في الجزائر لاستقبالنا في دكا، واعتقدنا أن الأمر انتهى وأعطيناهم الاسم والهاتف، وبعد مدة اتصل عبد الله وقال: ما كان لكم أن تعطوهم هاتفي، لأنهم اتصلوا بي وسألوني أسئلة كثيرة تتعلق بكم وبمهمتكم، ومن يقف خلفكم، وما هي نواياكم؟ وأضاف عبد الله: قد أقع في المشاكل بسبب استقبالكم… وهنا تأكد لنا أننا مشبته بنا، فنحن في أحد بلدان العالم الثالث الأكثر انغلاقا. دخولنا تطلّب قرارا على أعلى مستوى وبعد اتصالات مطولة مع المسؤولين في جمعية العلامة فضل الله جاء الفرج على السّاعة الخامسة مساء، واستعدنا جوازات سفرنا، واستعدنا أمتعتنا، وقيل لنا أن قرار السّماح لنا بدخول بنغلادش اتخذ على أعلى مستوى، وذلك واضح من الاتصالات الطويلة التي قام بها الضباط، كما أن إبلاغنا بقرار القبول كان من قبل المسؤول الأول على الأمن في المطار، وهي امرأة تحمل رتبة عالية أبلغتنا شخصيا بالسماح لنا بدخول بنغلادش، وهنا تساءلنا عن جدوى التأشيرة التي حصلنا عليها من السفارة البنغالية في الجزائر ما دامت لا تعني شيئا لسلطات الأمن بمطار دكا. خرجنا من المطار في حالة يرثى لها، ولا ندري إلى أين نذهب، لأن الطائرة المتوجهة نحو مدينة كوكس بازار غادرت منذ ساعات، فاستأجرنا سيارات طاكسي وانطلقنا في رحلة ليلية طويلة إلى كوكس بازار عبر طريق ضيق ومهترئ ولم نتوقف إلا لتناول وجبة العشاء في مطعم يتوفر فيه الحد الأدنى من النظافة، ولم يكن الأمر يهمنا كثيرا، لأننا لم نتاول شيئا منذ 24 ساعة. كوكس بازار… مدينة المتناقضات وصلنا إلى مدينة كوكس بازار في صباح اليوم الثاني من مارس، وهي مدينة فقيرة رغم أنها سياحية تتواجد فيها أرقى الفنادق، لكن شوارعها غير نظيفة، حيث المستنقعات تحبس مياه راكدة منذ سنوات، ومياه الصرف الصحي تجري في الشوارع وتصب في تلك المستنقعات المخصصة أصلا لتربية الأسماك بكل أنواعها، وفي هذه المدينة يوجد نوعان من البشر يعيشون في عالمين منفصلين، الأول يعيش حياة الرفاهية داخل الفنادق الفخمة، ويتنقل بالسارات الفارهة، والنوع الثاني يعيش في الأحياء الفقيرة المنتشرة بكثرة في المدينة وسط المستنقعات، ويتنقل بعربات "التوكتوك" والدراجات الهوائية، وهؤلاء هم الذين يعيشون بأقل من دولار واحد في اليوم، ولا يتناولون سوى الأرز والسمك المجفف المعروف برائحته الكريهة… هذه المدينة ستكون مقرا لنا طيلة مهمتنا لتغطية الأوضاع في المخيمات التي استمرت عشرين يوما كاملة. مصنع ل"الآلهة" في قلب كوكس بازار كانت مدينة "كوكس بازار" عالم جديد نكتشفه، حيث الفقر المدقع والغنى الفاحش، في صورة للتناقض الموجود في كل شيء، حتى في التدين، إذ يعرف على البنغاليين التزامهم الشديد بالإسلام سواء في طريقة اللباس واللحية أو في الحياة اليومية، إذ أن الارتباط بالمسجد قوي، ومع ذلك يتميز هذا الشّعب بالتّسامح الديني ويقبلون بالأديان الأخرى بما فيها الأديان الوثنية، ودليل على ذلك انتشار المعابد الهندوسية والبوذية، ففي قلب مدينة كوكس بازار يوجد مصنع كبير لصنع الأوثان بكل أنواعها، وقد دخلنا المصنع وتحدثنا إلى النحاتين، وكانت سعادتهم كبيرة بسبب الاهتمام الذي أبديناه بصناعتهم، حيث قالوا لنا إننا نصنع كل الأوثان الموجودة في معابد كوكس بازار. هؤلاء يعيشون في بنغلاش ويمارسون طقوسهم الدينية بكل حرية ولا يتعرضون لأية مضايقات من قبل البنغاليين الذي لهم قدرة عجيبة على التعايش مع غيرهم، في الوقت الذي عجز المسلمون عير العالم على التعايش فيما بينهم! هنا يوجد أطول شاطئ في العالم ب130 كلم لم تكن مدينة كوكس بازار التي يوجد بها أطول شاطئ في العالم ضمن اهتماماتنا، وكان كل همنا الوصول إلى مخيمات اللاجئين الروهينغا المتواجدين على بعد قرابة 40 كلم من كوكس بازار، لذلك استأجرنا سيارة خاصة مع مترجم بالتنسيق مع جمعية العلامة فضل الله البنغالية، وفي صباح اليوم الموالي لوصولنا انطلقنا باتجاه المخيمات، عبر طريق ضيق ومهترئ، ومررنا بالعديد من القرى والأسواق، حيث ينتشر الكثير من صغار التجار الذين يبيعون "التنبول" وهو حشيش منعش توضع داخله ثمرة تسمى "الفوفل"، لونها أحمر يستهلكها البنغاليون بكثرة، وهي التي تسبب احمرارا في الفم وتآكلا في الأسنان وتشكل طبقة داكنة حولها تغطي بياض الأسنان كليا، ويتم تناول التنبول بنفس الطريقة التي يتناول بها اليمنيون القات، ويقولون إنهم يشعرون بالنشاط والانتعاش عندما يتناولون هذه الحشائش المدمرة للصّحة، ولم يتردد زميلي عبد الحليم معمر في تناول التنبول لمرة واحدة، وقال بعدها إنه يشعر ببعض الراحة والانتعاش!! في هذه الأسواق يمكنك أن ترى لحوم العجول تباع دون احترام أدنى شروط النظافة وبسبب الحرارة والرطوبة يتحول لون هذه اللحوم إلى الأسود بعد ساعات من عرضه، ومع ذلك يقبل البنغاليون على شرائه ولا يتقززون إطلاقا من الذباب الملتصق باللحم، والذي غالبا ما يعيش في المستنقعات. الفقر هنا يمشي على رجليه ويرد السلام على الناس، ووضع السكان كارثي، كما أن آثار التسونامي الذي ضرب المنطقة قبل سنوات لا زالت ظاهرة، بل إن البنغاليين على طول الشّريط الساحلي المطل على المحيط الهندي لا زالوا في خيام شبيهة بخيام اللاجئين الروهينغا/ حيث دمر التسونامي مساكنهم، ولم يتلقوا مساعدات من أية جهة محلية أو دولية، وفي الواقع فإن حال البنغاليين لا يختلف كثيرا عن حال الروهينغا، ولو أنّ الضمير العالمي لا زال حيا، لتنادى الجميع إلى هبة تضامنية مع هذا الشعب المسحوق، والنافذة الوحيدة أمام هؤلاء هي العمل في دول الخليج في وظائف ترتبط بمفهوم العبودية، فنساؤهم يتم تشغيلهن كخادمات في البيوت، بينما الرجال يعملون في الفنادق، والمصانع، وحقول تربية الحيونات الأليفة، ويعمل كل هؤلاء تحت رحمة الوكيل الذي يسحب منهم جوازات السفر فور وصولهم إلى السعودية، ويطالب الوكيل براتب شهري مقابل منحه حق الإقامة والعمل للمهاجر، ولا يعود هؤلاء إلى بنغلادش إلا ببعض الفتات المتبقى، وقد بدأ الآلاف بمغادرة السعودية بسبب الرسوم الجديدة المفروضة على الوافدين. وصلنا إلى المخيمات، وكان المشهد مخالفا لما كان عليه الحال خلال زيارتنا الأولى، إذ أن الموسم هو موسم حرارة شبيه بالصيف عندنا، لذلك فإن الأوضاع باتت كارثية، فقد تضاعفت أعداد اللاجئين التي تقول الإحصائيات الرسمية بأن عددهم بلغ مليون ومائتي ألف لاجئ، فيما تشير التقديرات غير الرسمية إلى أن عددهم يصل إلى 2 مليون لاجئ، يقابل ذلك تراجع في جهود الإغاثة الدولية بسبب التجاهل الذي يبديه المجتمع الدولي لقضية الروهينغا، حيث أوقفت العديد من المنظمات الإنسانية برامجها في المخيمات، كما يكتفي برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة بتوزيع الأرز والعدس على اللاجئين، وهو ما وقفنا عليه داخل الخيم، إذ لم نجد غير هاتين المادتين فيها، وفيما يواصل الأتراك جهود الإغاثة عبر إقامة الكثير من المستشفيات الميدانية والنقاط الصحية ومراكز توزيع الوجبات، فإن الوجود العربي يكاد يكون منعدما، لدرجة أن منظمة كويتية سطرت في البداية برنامجا إغاثيا بغلاف مالي قدره أربعة ملايين دولار ليتقلص المبلغ إلى 300 ألف دولار، ثم ألغيت العملية من أساسها، وقد بدت مظاهر المجاعة في المخيمات، بالإضافة إلى الأمراض الناتجة عن نقص التغذية، كما تنتشر الأمراض المعدية كالملاريا وحتى السّيدا نتيجة غياب التكفل الصحي بالرّوهينغا سواء داخل المخيمات، أو قبل هروبهم من إقليم أركان. كارثة إنسانية في الأفق وتوقعات بعشرات آلاف الضحايا أجمع كل ممثلي المنظمات الإنسانية الذين التقيناهم في المخيمات أن كارثة طبيعة منتظرة خلال الأسابيع المقبلة بسبب الطريقة التي نصبت بها الخيام، خصوصا بالنسبة للأفواج التي التحقت مؤخرا بالمخيمات، حيث تم نصبها على مجاري المياه، وقد أعدت منظمة الأممالمتحدة خريطة توضح المناطق التي ستكون عرضة للفيضانات وتوقع هؤلاء هلاك عشرات الآلاف من اللاجئين الرّوهينغا خلال موسم الأمطار الذي سيبدأ في أفريل المقبل، وقد دعت ذات المنظمة إلى ضرورة التعجيل بتغيير آلاف الخيم الواقعة على مجاري المياه، كما أن عشرات الآلاف من الخيم التي نصبت على المرتفعات مهددة بالتطاير مع أول إعصار يضرب المنطقة المعروفة بقوة الأعاصير، وقد منعت السلطات البنغالية استخدام صفائح الزنك في بناء البيوت والمساجد والمدارس داخل المخيمات؛ لأنها ستكون خطرا كبيرا على سلامة اللاجئين بسبب قوة الرياح. ولا زالت أفواج اللاجئين تلتحق بالمخيمات إلى الآن، وهو ما عقّد وضعية المخيمات، حيث أقامت لهم السلطات البنغالية مركزا مؤقتا لاستقبالهم وإعطائهم المساعدات الغذائية، فيما تعمل منظمات إنسانية على نصب خيم جديدة وفق شروط معينة فرضتها السلطات البنغالية حتى لا تشكل خطرا على اللاجئين مستقبلا. …..يتبع