بقلم: خضير بوقايلة: kbougaila@gmail.com بكيت كثيراً وأنا أستمع إلى خطاب صاحب الفخامة بمناسبة ذكرى عيد الاستقلال، ومنذ ذلك اليوم وأنا أعيد الاستماع إلى الخطاب وأبكي. لم أبك لأنّ فخامته ذكّرنا بفضائل ثورة التحرير التي كانت محطة استثنائية كتب الشعب الجزائري من خلالها صفحات من ألمع الصفحات. ولم أبك لأنه حدثنا عن الوعي المشترك بين أبناء الجزائر وبناتها بأنهم جميعاً سواسية في الحق في هذا البلد وسواسية في الحقوق داخله. ولم تبكني كلماته عن كرامات المصالحة الوطنية التي جعلتنا نتجاوز تبعات الآثار الوخيمة لعشرية مأساوية. ولم أبك لحثه أبناء هذا البلد على توسيع المشروع الديمقراطي ومواصلة تعميقه. ولم أبك وأنا أستمع إلى فخامته وهو يذكّرنا بالخطوات التي اتخذتها القيادة الحكيمة من أجل عودة الاستقرار إلى البلد، وبفضل هذا الاستقرار عاد السلم المدني تدريجيا إلى ربوع وطننا، وبعودة السلم تمكنت بلادنا من استعادة مكانتها في المحافل الوطنية والدولية وبفضل السلم المنتشر في البلد تسنت إعادة التوازنات الاقتصادية وسجل النمو الاقتصادي انتعاشا لا مثيل له وتم تنفيذ برامج جسام في مجال التنمية والمنشآت القاعدية وتحسين الإطار المعيشي للمواطنين، وهي فعلاً نتائج لا يمكن أن ينكرها إلا جاحد أو حاقد أعمى. لم أبك لأن فخامته ذكّرنا مرة أخرى أنه القائد الأعلى للقوات المسلحة وأنه بصفته هذه يأمر بضرورة تكثيف الجهود لمحاربة بقايا الإرهاب. الذي أبكاني في الحقيقة كانت فقرة أو لعلهما فقرتان من 94 كلمة. ولا تتبعوا أنفسكم في إعادة البحث عنهما في نص الخطاب الذي وزعته وكالة الأنباء الرسمية، فقد كانت كلمات خارج النص أسوقها مكتوبة للقارئ الكريم بعد أن حفظتها عن ظهر قلب من كثرة إعادة سماعي لهذا الخطاب التاريخي. قال صاحب الفخامة وهو يدعو الشباب الجزائري إلى ضرورة إدراك كم هو غال الحق في الوطن وكم هو غال الحق في الكرامة الذي انتزع غلابا من نظام استعماري جبار وعنصري، إنه (لا بد أن أقول لكم إنني أشعر بأسى وحزن عميق وأنا أخاطب شباب الجزائر أن أجد منهم، وهم كثيرون، من لا يعرفون شيئا عن الثورة الجزائرية بل لا يسمعون بها وكأنك تكلمهم عن ليلياد إي لوديسي. لا يسمعون بها، وإذا سمعوا بها يعتبرونها حدثاً كباقي الأحداث لا يفقهون محلّها من الإعراب في تاريخ البلاد. وكم أنا حزين –والكلام دائما لفخامته- وأنا أرى أن مستقبل الجزائر بين هؤلاء الشباب. أراهم لا ينتمون إلى ضوابط واضحة بالنسبة لهويتهم وبالنسبة لثوابتهم الوطنية، ومن ثوابتهم الوطنية أول نوفمبر 54، ومن ثوابتهم الوطنية أول نوفمبر 54، ومن ثوابتهم الوطنية أول نوفمبر 54). وقبل أن أواصل تعليقي أوضح أن ليلياد إي لوديسي هما ترجمة فرنسية لكلمتي إلياذة وأوديسية الشاعر هوميروس. هل بكيتم أنتم أيضا أيها الشباب وحزنتم لحزن رئيسكم على جهلكم بعظمة تاريخكم وعظمة صانعيه وبعجزكم عن الارتقاء إلى مستوى المسؤوليات التاريخية الملقاة على عاتقكم؟ أما أنا فأعترف أنني بكيت ولا أزال أبكي، ولا أفعل ذلك لأن فخامته فضح جهلنا بتفاصيل ليلياد إي لوديسي، فهذا أمر لا يدركه إلا ذوو الثقافة الواسعة، بل أنا أبكي لأن صاحب الفخامة غير راض عن شباب بلاده الجاهل بمحل الثورة الجزائرية من الإعراب والمقصر وغير المدرك لأهمية ما هو مقبل عليه. لكن أصدقكم القول أن بكائي على هذا الواقع المرير لم يمنعني من إطلاق العنان لشعلة التفاؤل والرضا المطلقة من أعماقي. تفاؤل لأن قيادة البلد الحكيمة تدرك كم أن شباب الجزائر جاهل وغير جدير بمسؤولية تولي مصيرهم بأنفسهم ولأنها أيضا قررت أن تواصل تضحياتها وتسخير حياتها من أجل هذا البلد. هل فهمتم الآن يا شباب الجزائر لماذا يصر جيل الثورة المظفرة على التمسك بمقاليد السلطة وبحصر التداول على السلطة في نفس الأسماء؟ هل فهمتم لماذا لا يزال رجل مثل بوعلام بسايح على رأس المجلس الدستوري وقد كان قبلها سفيراً للجزائر في المغرب، وهل علمتم الآن لماذا يختار فخامته رجلا من وزن العربي بلخير ليعينه سفيرا في الرباط، وهل أدركتم الآن لماذا تشعرون وكأن الجزائر متوقفة في الستينيات والسبعينيات؟ وهل تبينتم الآن لماذا أنتم الشباب تشيخون وتموتون بينما تلك الوجوه التي تعودتم على رؤيتها منذ صغركم لا تزال نضرة ضاحكة مستبشرة وهي نفس الوجوه التي سيتعود عليها أبناؤكم وأحفادكم وأحفاد أحفادكم رغما عنكم. وهنا لا بد أن أعترف كم كنت جاهلاً وغير واعٍ عندما سألني قبل الفقيد امحمد يزيد قبل ثمان سنوات عن عمري فأجبته أنني في السادسة والثلاثين، حينها أطلق تنهيدة وقال لي (عندما كنا في سنّك كنا شبعنا العمل في مناصب الوزارة والمسؤوليات الكبيرة)، وأنا لم أكن حينها سوى نائب رئيس تحرير في صحيفة الخبر. أجبته وقتها قائلاً (لكنكم منذ ذلك الوقت وأنتم متشبثون بالمسؤولية ولم تتركوا لنا أي مجال لنكون مثلكم). لكنني الآن مضطر، بعد أن سمعت ما قاله فخامته في خطاب عيد الاستقلال، لسحب ما قلته لمحمد يزيد والاعتذار لذاكرته. وأزيد على ذلك دعوتي لقيادتنا الحكيمة بمواصلة الكفاح الذي نذروا حياتهم من أجله ودعواتنا لهم نحن جيل شباب الاستقلال بالسلامة وطول العمر حتى يرزق الله هذا البلد بجيل يحظى برضا جيل الثورة ويتسلم منه المشعل. والحقر أننا عندما نتمعّن في تلك الكلمات القاتلة التي قالها فخامته بكل حزن ندرك أن جيل الشباب هو فعلاً دون المستوى ولا يصلحون إلا لما هم عليه الآن. ولعل شباب الجزائر أدرك هو الآخر كم هو ثقيل على بلده وكم هو مضر بمحيطه فقرر أن يبقى على الهامش وأن لا يقترب من أية وظيفة مفيدة لأنه يعلم مسبقا أنه لا يصلح لها. والذين كانوا أكثر وعيا بهذه الحقيقة المرة قرروا الهروب من البلد والموت انتحارا أو غرقا في البحار، ومن لم يستطع فهو يحاول جاهدا تحقيق هروب افتراضي عبر الانخراط في نادي المدمنين على المخدرات والغراء والانحراف. والذين لا تسعهم أوروبا وأعماق البحار والشوارع يبحثون لهم عن مكان في سجون البلد المكتظة. نداء مُلح وأخير لقيادتنا الحكيمة، رجاء لا تتركوا مصير البلد بين أيدي الفاشلين وواصلوا تضحياتكم من أجل مصلحة البلد فأنتم أهل لذلك، وإذا قدّر الله وأصاب جيلكم الانقراض فلا ينس آخركم أن يدفن معه البلد فذلك أفضل من أن تتركوها بين أيدٍ جاهلة وغير واعية. خذوا البلد معكم ولكم من جيل الاستقلال كامل الامتنان!