هذا مقال حرَّرته منذ أمد ليس بالبعيد على صفحات مجلَّة "الإصلاح" الَّتي أتولَّى فيها رئاسة التَّحرير منذ نشأتها، تحت عنوان "حقيقة حبِّ الوطن"، وكانَ ردًّا على محتكري مفهوم "الوطنية"، الَّذين تولَّوا بأنفسهم ودون تفويض من أحد وَضْعَ مقاييسَ الانتماء للوطن، وتحديدَ الشُّروط الَّتي يكون بها المرء وطنيًّا، وضبطَ القائمة النِّهائيَّة لمحبِّي الوطن، وجعلَ مَنْ لم يوافقْهم في مشربٍ أو رأي أو سياسة في خانة (خائني الوطن). وتتوالى الأيَّام وتشرق شمس (الشُّروق) بمقالٍ ظالمٍ، حُبِكَ في ليل مظلم، بإمضاء برلمانيٍّ سابق، لم يرعَ فيه حرمة عالم ولا ميِّت ولا حيٍّ، حَكَمَ فيه بالإعدام على نخبة من مواطني هذا البلد الحبيب، يتولَّون أسمى الوظائف وأشرفها؛ من دعوة النَّاس وتعليمهم وإرشادهم، ورماهم بالتَّخلُّف، ووسمهم بنعوت يُنزَّه عنها مَنْ هو دونهم، وسطَّر بقلمٍ جائر هذه المقولة الظَّالمة والكلمة الآثمة الَّتي مفادها أنَّ (السَّلفيِّين لا يحبُّون وطنهم)، وهي بالحرف الواحد قوله : (لا يمكن لنا إلَّا أن نقرَّ بأنَّ السَّلفيِّين هم إخواننا في الدِّين، ولكن يجب عليهم أن يثبتوا لنا أنَّهم فعلاً إخواننا في الوطن) [الشروق اليومي] (ص21 في تاريخ 21/01/2012). وأنا لا أريد أن أدخلَ مع صاحب المقال ولا مع غيره في مهاترات ونزالات، قد نكون في غنًى عنها، لا سيَّما ونحن في ظرف أحوجُ ما نكون إلى جمع الكلمة ورصِّ الصَّفِّ وخدمة الأمَّة ورعاية مصالحها الكبرى؛ للوقوف ضدَّ المؤامرة الَّتي تستهدف وحدة تراب بلدنا الحبيب، بإيعازٍ وتخطيط من أعداء الجزائر، تُمَرَّر برواسب أفكار تتقمَّص زيًّا شرعيًّا، وتأصيلاً دينيًّا، يدفع الجهلة المتحمِّسين إلى إعادة إحياء فكر الخوارج من جديد، وإذكاء ما خمد من الفتن الَّتي أهلكت الحرث والنَّسل، إنَّنا لا نريد أن نئِدَ مرَّةً أخرى بلدنا بمعاول هدمٍ تحملها سواعد أبنائنا، ولعلَّك تعلم يا أخي أكثر من غيرك أنَّ الفكر يُحارَبُ بفكر مثله، والشُّبهة تُزال بالدَّليل القاطع والبرهان السَّاطع، ولا أراك تختلف معي أنَّ السَّلفيِّين أقدر من غيرهم للتَّصدِّي والوقوف في وجه هذا الفكر المنحرف، ومحاربته بسلاح العلم الشَّرعي الَّذي يدكُّ معاقل الخارجين الفكريَّة. أفلا تُستثمر جهودُ أبناء الوطن لإخماد فتيل الفتن، وإحباط كيد هذه المؤامرات، بدل تبديدها والسَّعي في تنفير أصحابها والتَّهوين من عزائمهم، ونبيُّنا صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: (المسلمون تتكافأٌ دماؤهم، يسعى بذمَّتهم أدناهم، ويُجير عليهم أقصاهم، وهم يدٌ على من سواهم، يردُّ مشدُّهم على مُضْعِفِهم، ومسرعُهم على قاعدهم). وختامًا؛ نعود لنقرِّر ونقول دون خجل: إنَّ السَّلفيَّة ليست ثوبًا يتقمَّصه النَّاس أو طعامًا تبتلعه الأفواه وتستسيغه البطون حتَّى يكون على مزاج أو لون معيَّنين، كما في مقال (السَّلفيَّة الَّتي نريد)، فالسَّلفيَّة لا تتَّبع أهواء نفوس ولا آراء بشرٍ حتَّى تخضع لألوان التَّغيير السِّياسي أو التَّقلُّب الاجتماعي والفكري، وإنَّما هي وحي يُتبع وشرعٌ يدان به وفق أصول وقواعد هي محلُّ إجماع المسلمين قديمًا وحديثًا (كتاب الله وسنَّة رسوله صلَّى الله عليه وسلم على فهم سلف الأمَّة)، فأنَّى لأحد أن يُزاحمها أو يُزعزعها بإرادته أو إدارته، وهذا الَّذي سطَّرته على عُجالة هو شيء من ردِّي على صاحب المقال: (السَّلفية الَّتي نريد) في واحدة من خرجاته. وأمَّا كيف ينظر السَّلفيُّون إلى الوطن، وهل هم فعلاً يحبُّون وطنهم الجزائر أم لا؟ فأنا أحيل المنصفين إلى قراءة هذا المقال ثمَّ الحكم على مضمونه والَّذي هو تحت عنوان: (حقيقة حب الوطن). . حقيقة حب الوطن كثيرٌ أولئك الَّذين سوَّدوا الصُّحف بوابل التُّهم والأراجيف، وصوَّبوا سهامهم الممزوجة بالسُّمِّ إلى نُحورِ من اصطلحوا على تسميتهم ب"الوهَّابيِّين" أو "السَّلفيِّين"، يجرِّدونهم من أدنى ما اتَّفقت المخلوقات على حبِّه والحنين إليه والارتباط به، وهو الوطن بأرضه وسمائه وساكنيه ، ويجعلونهم في خانة أعداء الأمَّة ومبغضي الوطن، وقليلٌ أولئك المنصفون الَّذين لا تستفزُّهم التُّهم الملفَّقة، ولا تُغير على عقولهم الأحكامُ المسبقة، إلّاَ بعد النَّظر في الدَّعوى وما بُنيت عليه من دلائل وحجج، وما حوته من حقائق أو أباطيل، ومع هذا القليل يستعذب الحديث، ويُثار النِّقاش، وتستبين الحقائق، ويزال الغمط. إنَّ غاية ما يرمي به الظَّالمون الأدعياء المظلومين الأبرياء، قولهم المرجف: "هؤلاء لا يحبُّون وطنهم"، وهي عبارة لو روعي فيها مجرَّد اللَّفظ لاستوجب إنزال العقاب الزَّاجر على من قال ذلك، لكن العاقل يبحث ما وراء الألفاظ من المعاني والمدلولات؛ إذ هي الحاكمة على المقاصد والنِّيَّات. وسرُّ الادِّعاء الآثم يرجع إلى مقولة يظنُّ الزَّاعمون المبطلون أنَّهم أحقُّ النَّاس بها، وبفهم معناها، وتجسيد مقتضاها، وأنَّ غيرهم ممَّن يتَّهمونهم بالعمالة أو الخيانة عازفون عن التَّرنُّم بها، زاهدون في الحديث عنها، بل يزعمون أنَّهم يُجهِّلون أو يبدِّعون أو يؤثِّمون كلَّ من نطق بها لسانُه أو خطَّها يراعُه مستشهدًا ومستدلّا بها، أو متحاكمًا إليها ومؤسِّسًا عليها حديثًا أو خطابًا، تلكم هي المقولة الشَّهيرة المنسوبة كما قيل لبعض السَّلف ي: "حبُّ الوطن من الإيمان". وهذا الزَّعم في غاية التَّهافت والبطلان، وهو شبيه بما نسبه "العلِيوِيُّون" للمصلحين من "جمعيَّة العلماء" حين نشروا مقالا في جريدتهم تحت عنوان: "المصلحون يحاربون لا إله إلَّا الله"، وذلك لمَّا تصدَّى علماءُ الجمعيَّة لبدعةِ القوم في رفع أصواتهم بالتَّهليل في تشييع الجنازة، فكان أن أنكروا عليهم فعلتهم المخالفة للسُّنَّة وما يُناسب جلال الموت ورهبته، وهو الخشوع والتَّذكُّر والاعتبار بمن حملوا على الأعناق. والخشوع معروف هو غير الصُّراخ والعويل والضَّجيج والتَّهويل، وقد كتب يومها العلاّمة البشير الإبراهيمي: مقاله الرَّائع بعنوان: "إمَّا سُنَّة وإمَّا بدعة"، وكان ممَّا سطَّره يراعه الجريء النَّاطق بالحقِّ: "إنَّ لا إله إلَّا الله لا توضع في غير مواضعها يا قوم! فمالكم إذا قيل لكم: لا تضعوها في غير محلِّها، ومنه الجهر بها في التَّشييع، قلتم متجرِّئين: إنَّنا نحارب لا إله إلَّا الله، كَبُرَت كلمة تخرج من أفواهكم" ["الآثار" (1/290)]. والحقيقةُ الَّتي ينشدها أهل الإنصاف، ويأباها أهل الإرجاف، ولا يرضونها إلَّا نقيصة يذمُّون بها من لا يريدون إشراكه في حبِّ الوطن، ولو كان من أبنائه، هي أنَّ مقولة: "حبُّ الوطن من الإيمان" ليست حديثًا عن النَّبيِّ، يتواصى المسلمون بذيعه في مجالس الوعظ والتَّذكير، وتسطيره في كتب العلم مع التَّسليم بصحَّة نسبته إلى النَّبيِّ المعصوم؛ لأنَّ المرجع في قبول الأحاديث أو ردِّها هي الأصول المعتمدة عند أهل الصِّناعة الحديثيَّة، وقد حَكَمُوا بوَضْعِه، فلا نُخالف ما قالوه وهم العلماء، وغيرهم تَبَع لهم وآخذ منهم وعنهم. بيد أنَّهم مع اعتقادهم عدم صحَّة الحديث يؤمنون بمعناها، ويرون من أدلة الشَّرع ما يخدم مبناها. فهناك قدرٌ مشترك بين المسلم والكافر في حبِّ الوطن مَهْد النَّشأة والولادة فكلٌّ يحبُّ وطنه كحبِّه لنفسه وماله وأهله، وهذا لا يمكن أن يكون من لوازم الإيمان؛ لأنَّه غريزيٌّ في الإنسان، وقد فطر الله عليه جميع المخلوقات، فالإبل تحنُّ إلى أوطانها والطُّيور تحنُّ إلى أوكارها وهكذا كلُّ نفس مخلوقة، يقول شيخ الإسلام: "والنَّفس تحنُّ إلى الوطن إذا لم تعتقد أنَّ المقام به محرَّم أو به مضرَّة أو ضياع دنيا" ["المجموع" (27/463)]. وهناك ما يتميَّز به المسلم عن الكافر وعن الحيوان وهذا سرُّ الحديث وهو أنَّه يجتمع في المسلم الحبُّ الفطريُّ الغريزيُّ والحبُّ الشَّرعيُّ، باعتبار أنَّ حبَّه لوطنه نابعٌ من أنَّ أرضه موطنٌ لإقامة أكثر الشَّعائر كالجمعة والجماعات والأذان وغير ذلك، ومن حبِّ العلم وإن كان ضئيلا الَّذي يكتسبه المسلم فيه، ومن حبِّ اجتماع المسلمين وتنظيم أمورهم لعمارة الأرض على ترابه، ومن حبِّ الأهل والأقارب والجيران وما يتولَّد من ذلك من الطَّاعات والقربات؛ كَبرِّ الوالدين وصلة الأرحام وكفالة الأيتام والإحسان إلى الجيران ونحو ذلك. فحبُّ الوطن الإسلاميِّ مشروع، ولا يجوز لمسلم أن يتنكَّر له بحجَّة عدم ثبوت ما يفيد ذلك باللَّفظ الصَّريح أو المعنى الصَّحيح، فقد جاء من نصوص الشَّرع ما يدلُّ على أنَّ حبَّ الوطن مشروع، ومحبُّه مأجور غير مأزور إذا احتفت بهذا الحبِّ عوامل القيام بطاعة الله وعبادته وعمارة أرضه والإحسان إلى خلقه. فهذا الحافظ ابن حجر: يقول عند حديث أنس بن مالك: "كان رسول الله إذا قدم من سفر فأبصر درجات المدينة أَوْضَعَ ناقته أي أسرع بها وإن كانت دابَّة حرَّكها من حبِّها" [البخاري (1802)]. قال: "فيه دلالة على مشروعيَّة حبِّ الوطن والحنين إليه" ["الفتح" (3/782)]. وأشار العلامة المناوي في لَفْتَةٍ بديعة إلى حبِّ الأوطان عند شرحه لقول النَّبيِّ: "إِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ حَجَّهُ فَلْيُعَجِّلِ الرُّجُوعَ إِلَى أَهْلِهِ؛ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لأَجْرِهِ"، "صحيح الجامع" (734)]. قال: "فليعجِّل" أي فليسرع ندبًا، "الرُّجوع إلى أهله" أي وطنه وإن لم يكن له أهل، "فإنَّه أعظم لأجره" لِما يدخله على أهله وأصحابه من السُّرور بقدومه؛ "لأنَّ الإقامة بالوطن يسهل معها القيام بوظائف العبادات أكثر من غيرها، وإذا كان هذا في الحجِّ الَّذي هو أحد دعائم الإسلام، فطلب ذلك في غيره من الأسفار المندوبة والمباحة أولى... وفيه ترجيح الإقامة على السَّفر غير الواجب" اه من "فيض القدير" (1/418). وقد نبَّه الحافظ ابن كثير وغيره في "سيرته" على "أنَّ دعاءه أنْ يحبِّب اللهُ إليهم المدينة كحبِّهم مكَّةَ أو أشَّدّ، إنَّما هو لِما جبلت عليه النُّفوس من حبِّ الوطن والحنين إليه، وفي قصَّة الوحي وهي في "الصَّحيح" أنَّ ورقة بنَ نَوْفَل لمَّا قال للنَّبيِّ: لَيْتَنِي أكونُ حيًّا إذْ يُخرجك قومك! قال: أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟! قال: نعم، قال السُّهيلي: "ففي هذا دليل على حبِّ الوطن، وشدَّة مفارقته على النَّفس" ["الرّوض الأنف" (1/413)]. فحبُّ الوطن ليس نشيدًا تستعذبه الألحانُ، وليس لافتة تَزْيين تعلَّق على الجدران، ولا وقفة تخشع لها الصُّور والأبدان، فالحبُّ رخيصٌ حين يكون زعمًا وكلامًا، ولكنَّه غالٍ وثقيلٌ حين يكون عملا وتضحيةً وإقدامًا. وإنَّما حبُّ الوطن المفعم بالإيمان والمشبَع بالتَّفاخر به والاعتزاز به حقًّا وصدقًا إنَّما يكون بالحفاظ على أَمْنِه وسلامته، والابتعاد عن ترويع أهله وإشاعة القتل والنَّهب والفوضى وجميع صور الإفساد في رُبُوعِه تحت أيِّ غطاء كان، ويكون بنبذ العصبيَّات والنَّعَرَات والتَّحزُّبات الَّتي تسعى إلى تَفْرِقَتِه وتشتيته، وتَحُول دون اجتماعه ووحدته، ويكون بلزوم جماعة المسلمين المنتظمة تحت لواء وليِّ الأمر، والانضمام في سِلْكِها والاجتماع على كلمتها وعدم التَّشجيع على مفارقتها وشقِّ عصاها ومخالفة سبيلها والافْتِيَاتِ عليها، ويكون بطاعة من أوكل له تسيير شؤون الأمَّة وإعانته على ما حمل القيام به وجمع الكلمة عليه، وردِّ القلوب النَّافرة إليه، والدُّعاء له ولأعوانه بالصَّلاح والتَّوفيق والسَّداد، كما يكون حبُّ الوطن باستغلال خيراته وثرواته وصيانتها من عبث المفسدين وخدمة أرضه ومن عليها من العباد والممتلكات والمكاسب والإنجازات؛ ليستغني عن غيره، ويعظم في عين أعدائه الطَّامعين فيه، والسَّعي به نحو الأكمل والعيش الأفضل، إذ ليس من شرط الوطن أن يكون كاملا لا نقصَ فيه، هذا أمر مستحيل، لكن حسبنا القرب من الكمال والتَّقدُّم نحو الأحسن. فهذه وطنيَّة أهل الإسلام، ليس فيها تدليس ولا إيهام، بل هي وطنيَّة تحفظ الثَّوابت وتقوِّي الارتباط بشرع الله تعالى، إذ هو المخرج من جميع الفتن والمصائب الَّتي تحلُّ بالأمَّة. واللهَ نسأل أن يحفظ أوطان المسلمين عامَّة ووطننا خاصَّة من كيد الكائدين وتربُّص المعتدين، وأن يعين ولاة أمورنا على استتباب الأمن وإقامة العدل ونشر الخير، وأن يهدي من ضلَّ عن سواء السَّبيل ويوفِّقه للتَّوبة والرُّجوع إلى الله، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين. . (*) إمام مسجد عقبة بن نافع الجزائر العاصمة