عرّف أحد النّقّاد البريطانيين المعاصرين (Raymond Williams ) الثقافة بأنها "الطريقةُ الشّاملة للحياة". وللثقافة جانب ديناميكي فاعل تزداد أهميته باطّراد، يتضمن دورها في توجيه سلوك الإنسان، ركز عليه بعض المفكرين ك"مالينوفسكي" (Malinowsky) الذي اعتبر "الثقافة جهازا فعّالا ينتقل بالإنسان إلى وضعٍ أفضل؛ وضع يواكبُ المشاكل التي تواجه الإنسانَ في هذا المجتمع أو ذاك، في بيئته، وفي سياق تلبيته لحاجاته الأساسية". فهي قدرةٌ خلاّقة تمكّن الإنسان من توسيع رِحابِ نفسه عن طريق النشاط الإبداعي الأصيل؛ باعتبار أنّه ليس مستهلكاً لتراثه الثقافي فحسب؛ بل إنه كذلك مستمرّ في الإبداع والزيادة على ما وصل إليه. والمرحوم الدكتور أبو القاسم سعد الله من كبار المثقفين الجزائريين الذين حملوا هموم أمتهم ومجتمعهم في هذا الإطار، متسلّحين بالأصالة التي استمدّوها من الثقافة العربية الإسلامية؛ والفعالية التي اقتبسوها من المناهج الغربية الحديثة المُحْكمة، في ظل ظروف مثبّطة ومعاكسة، لم تمنعهم من الإبداع، والمساهمة في تنوير المجتمع والأمة وحل مشكلاتهما، وخدمة العلم والثقافة، وترقية الإنسانية.
طموح علمي ونحت في الصخر يعتبر ارتفاع صرحِ المرحوم الدكتور سعد الله (المولود بڤمار عام 1927) الثقافي المهيب في صلب البيئة الجزائرية تصديقًا لآراء التيار الفردي من علم النفس الثقافي، الذي يذهب إلى أنَّ الكائن البشري نظامٌ متوازن تعمل آليات التوازن الداخلي لديه على تفتيت الثقافة واستيعابها وصناعتها، وأن الضغوط الاجتماعية السلبية لا تؤثر إلا على الأفراد الذين يمكّنونها من ذلك بضعفهم أو لا مبالاتهم، بخلاف الأقوياء الذين يغالبونها ويصمدون لها، ويبدعون داخل مجتمعات يسودها الاغتراب والجهل، ضاربين على ذلك مثَل أن المواقف الاجتماعية تقدّم الحبوب إلى مطحنة الفرد، لا أنها المطحنة التي تنتج عمله؛ وأن الفرد مبدعٌ ثقافيٌّ يضيف تجربته الفريدة إلى مجموع الأنماط والتوقعات الثقافية الجماعية، فتتغير الثقافة باستمرار من خلال هذا التفاعل بين الأفراد، وبينهم وبين الثقافة. من أبلغ أمثلة الطموح العلمي التي عزّ نظيرها لدى المرحوم: تجاوزه لما سمّاه "النكبة الثقافية" التي ألمّت به عام 1988، ممثّلة في ضياع محفظته (في مطار هيثرو-لندن) المشتملة على الفصول الثلاثة الأخيرة من الجزء الأول من الحركة الوطنية (1830-1900)، أي قسمَه الثاني (مرحلة 1860- 1900)، وبطاقات ذلك الجزء جميعا، وقسم هام من الجزء الثالث من تاريخ الجزائر الثقافي، وجميع بطاقات جزأيه 3 و4. فرغم أنها زعزعته، إلا أنها لم تحبط مشروعه العلمي الذي اطّردَ بإخراج الجزء العاشر من التاريخ الثقافي سنة 2007، ثم جزءين آخرين من ذات التاريخ يؤرخان لما قبل 1500 سيصدران قريبا مع أعمال أخرى على الراجح. مساهمات جُلّى في بعث التراث وإحياء الثقافة، وإرساء قواعد مدرسة تاريخية لطالما تألم الراحل لواقع الثقافة العربية الإسلامية المأساوي في الجزائر (والعالم الإسلامي عامة) الذي تواطأ عليه عاملان: تفريط المجتمع، وخذلان النخب العصرية الحاكمة. لذلك دعا الراحل إلى إنزال الثقافة العربية الإسلامية المنزلة التي تستحقُّها؛ وعضَدها بجهوده الملموسة الواعية، باستفراغ الجهد في إحياء تراثها الثقافي الإيجابي؛ وتنشيط الساحة الثقافية؛ وصيانة الذاكرة الجماعية للمجتمع الجزائري (والأمة بشكل عام) بملء الفراغ في مجال التاريخ الذي كان حكرًا على إنتاج المدرسة الاستعمارية.
1 . إحياء التراث من أبرز الأمثلة على مساهمة الراحل في بعث رموز وذخائر التراث الجزائري: معلَمة "تاريخ الجزائر الثقافي" (1981- 1998) بأجزائها التسعة، ثم جزءها العاشر (2007)، التي تعكس ملكةً أدبية راسخة وقدرة على الاستقصاء والتقميش فائقة ومصابرة على البحث نادرة، وسدّت ثغرة كبيرة في هذا المجال. ولا غرور؛ فقد كتب عنه الشيخ البشير الإبراهيمي عام 1960 بأنه "مشغوف إلى حدّ الافتتان بالبحث عن الآثار الأدبية والعلمية لعلماء الجزائر في جميع العصور" (أبو القاسم سعد الله، محمد العيد آل خليفة (1961)، ص 3). إلى جانب أعماله عن أمثال "محمد العيد آل خليفة رائد الشعر الجزائري في العصر الحديث" (1961)، و"القاضي الأديب: الشاذلي القسنطيني" (1974)، و"رائد التجديد الإسلامي: ابن العنابي" (1977)، و"الطبيب الرحالة: ابن حمادوش الجزائري" (1982)، و"شيخ الإسلام عبد الكريم الفكّون" (1986)، وتحقيقاته لكتابات أعلام الجزائر ك"رحلة ابن حمادوش" (1983)، و"حكاية العشاق" (1983)، و"منشور الهداية" للفكون (1987)، و"رسالة الغريب إلى الحبيب"، للبجائي (1992)، و"تاريخ العدواني"، وغيرها. وفي هذا السياق أيضا تأكيدٌ على الوحدة الثقافية للشعب الجزائري، ككتابته عن كتاب "الحوض" لمحمد بن علي بن إبراهيم السوسي في الفقه المكتوب بالأمازيغية بحروف عربية، وعن "الأُفعول" في الحميرية والبربرية، وغير ذلك.
2 . إرساء قواعد المدرسة التاريخية الجزائرية ساهم الراحل في بناء صرح التاريخ الوطني، بتأسيس قاعدتين: - قاعدة تاريخ الجزائر السياسي والعسكري المعاصر: حيث يرى بأن العهد الاستعماري وتتبع مسيرة الصراع بين الجزائريين والفرنسيين خلاله لم يدرس بعدُ باستيعاب، ومن هنا طموحه إلى تقديم أرضية يمكن للباحثين اللاّحقين الاستفادة منها والانطلاق من حيث توقف هو - كما قال عام 1989 - رغم اعترافه مرارا بأنه لم يحقق كل ما عزم على إنجازه في ذلك المشروع. - قاعدة أوسع لتاريخ الجزائر الثقافي، قرُبت أن تكون قصة حضارتها الحديثة والمعاصرة، خاصة أنه صرّح في الجزء الأول من "تاريخ الجزائر الثقافي"- وهو بيت القصيد - بالقول عام 1979: "كان هدفي من البحث إنتاج عمل يكشف عن مساهمة الجزائر في الثقافة العربية الإسلامية والإنسانية عبر العصور"، لولا أنه تجنّب تتويجها بحوصلة فلسفية تفسّر طابع الثقافة الجزائرية البياني- الوصفي- الاستِعادي، وتحدّد التيارات العميقة التي صاغت أفكارنا وحكمت أعمالنا وصنعت مصايرنا، لنقدها وتقويمها واستثمارها في معتركات التدافع والتداول والتجديد، ربما لأنه تحاشى - كما لاحظ الدكتور ناصر الدين سعيدوني - الوقوع في محاذير إخضاع الأحداث لنظرة خاصة قد تقلل من قيمة عمله وتثير حفيظة المخالفين (ناصر الدين سعيدوني، دراسات وشهادات مهداة إلى الأستاذ الدكتور أبو القاسم سعد الله (2000)، ص 583)، أو لأنه من المؤرخين الذين يعتقدون - على غرار المؤرخين البريطانيين - بأن معنى التاريخ ظاهر وواضح بذاته، فلا يكون موضوعًا استنتاجيّا؟ تلك "الاستنتاجية" التي يعتبرها بعض أعلام المؤرخين إكسير الحياة بالنسبة إلى التاريخ - فضلا عن الطموح إلى المساهمة في تصحيح أخطاء التاريخ، كما في قوله "هناك مواقف وتفاسير كثيرة في تاريخ المغرب العربي تحتاج إلى تصحيح وإعادة نظر"، يذكر منها مقاومة البربر "المزعومة" للعرب، وطبيعة وأعمال وتأثيرات بني هلال وبني سُليْم، والفتح العثماني، مما يُعرف بذهابه فيها عكس مذاهب المؤرخين الفرنسيين ومن سايرهم. - ناهيك عن التطلّع إلى تقويم وإثراء الحياة الثقافية، حيث صرّح في كافة أعماله بغيرته على اللغة العربية وحرصه على خدمتها وإثرائها، ولا غرو، فتكوينه الأدبي والعلمي- التاريخي وفّرا له كافة المبررات والإمكانات.
إشكالية الوعي التاريخي الوعي التاريخي هو الإدرك العميق لدور الخبرة التاريخية الذاتية والإنسانية الحيوي في بناء الوعي بسنن التسخير عامة، وسنن الأنفُس والهداية والتأييد منها خاصة، وما يوفّره ذلك لحركة التجديد من شروط ضرورية لضمان أصالة وفعالية واطّرادية مبادراتها على كافة الصُّعد؛ أو هو الوعي بمقومات الوجود التاريخي، والإمساك بتلك المقومات، وإعمال الإرادة لحمايتها. ولعل استعادة المجتمع والأمة هذا الوعي كفيل ببلورة وعيهما بسنن الاجتماع والتدافع البشريّيْن والتعجيل بالنهضة المنشودة، التي سعى إليها الراحل ومَن جايَلَه من المؤرخين والمثقفين العامِلين. ويبدو أن أصول إشكالية الوعي التاريخي عند الأمة الإسلامية تتصل بمعركة صِفّين (37ه/ 657م) والانحراف الذي تلاها كما يرى مالك بن نبي، الذي ذهب إلى أنّ الحضارة الإسلامية لم تنشأ-بسبب ذلك- عن مبادئ الإسلام، بل إنّ مبادئَ الإسلام هي التي توافقت مع سلطةٍ زمنيّة قاهرة. حتى استبدلت اسميْ "المُلك العاضّ" و"المُلك الجبري" الوارديِن في الحديث الشريف باسم "الخلافة"، وغدت نظريتُها السياسيةُ في مواجهة مجادلات الفِرَق-على سبيل المثال- مجرّدَ انعكاسٍ للوقائع التاريخية؛ أي صبغٌ لتاريخ الأمة بصبغة عقلية. فغدا التاريخُ نفسُه أداةً للجدلِ المذهبي، وسبباً في الجمود الفكريّ؛ بدلاً من أن يكون وسيلةً للنقد الذّاتي، ومقاومة التعصّب والأوهام والغُثائية واللاّفعالية، وتأسيس الوعي الموضوعي والسُّننيّ التكامليّ، واستنباط وسائل ترشيد الفعل الثقافي والتربوي، لتحقيق الانبعاث الاجتماعي والحضاري؛ حتى ذهب بعض الباحثين إلى أنّ تلك "الأحكام السلطانية"، ومبدأ "طاعة المتغلّب"، وذلك التأويل العقلي للكتاب والسنّة؛ ليست سوى تسويغًا بعديًّا للوقائع التاريخية السابقة التي أقرّها الإجماع؛ لأنّ الأمّة من هذا المنظور لا يمكنها الوقوع في الإثم والخطأ، وإلاّ فقدت جدارتها حبطت أعمالها. تتجلّى مساهمة الدكتور سعد الله في التأسيس لحلّ إشكالية الوعي التاريخي في دعوته إلى التسلّح بالمناهج العلمية الحديثة، وكتابة التاريخ العلمي الدقيق لا التاريخ الاستعراضي أو تاريخ المناسبات، واجتهاده في إظهار الحقائق، وإبراز قيمة الأبطال، خلافًا لما ينعاهُ على الجزائريين من الزهد في الكتابة، والركون إلى الأوهام، وتهوين قيمة الرموز. على أنّ الراحل لم يكن -شأن كافة البشر- بمعزل عن تأثير العاطفة والانتماء الفكري، كما في تمجيده "التاريخ الرسمي" للأمة الإسلامية مثلا. ولا غرو؛ فتكوُّن أفكار المؤرخ مرتبط بتكوّن وعيه، الذي يتشكّل في حدود الفضاء الثقافي الذي يرتاده والتكوين الذي حصّله، ناهيك عن أن المؤرخ لا يهمّه من التاريخ إلا ما يرى فيه أداةً لحل إشكاليات الحاضر، كما تدلّ عليه عبارة المؤرخ الإيطالي "كروتشي" (Croce) الشهيرة: "التاريخ بأجمعه هو تاريخ معاصر"، التي تعني أن التاريخ يتألّف أساسًا من رؤية الماضي من خلال عيون الحاضر وعلى ضوء مشاكله. مع ذلك نجح الدكتور سعد الله في هذا المضمار إلى حدّ بعيد في تخطيط معالم مدرسة تاريخية جزائرية، ذات منهج عصري، ولسان عربي، ومضمون أصالي ووطني؛ غدت موئلاً للباحثين عن صورة الجزائر الأصيلة، وملاذًا من عواصف التشكيك في الهوية وتفكيك عناصر الوحدة الاجتماعية الجزائرية؛ فساهم في تعميق وبلورة التوجّه الثقافي الساعي إلى فكّ الارتباط بالموروث الاستعماري والثقافة التقليدية الميّتة (وإن لم يشدّد على مواجهة الأخيرة مثلما فعل مالك بن نبي مثلا)، وتثبيت انتماء الجزائر العربي الإسلامي، بكيفية واعية بمقومات ذلك الانتماء، حريصة على حفظها وترقيتها بأصالة وفعالية. ومن المفيد ذكر جانب من ذلك: 1 - في بعث التراث الجزائري: لإبراز مساهمة الجزائر في الثقافة العربية الإسلامية وحفز المبادرات الإبداعية لدى أبناء الجيل، من خلال ما ذكرناه آنفا. 2 - في نصرة القضايا الوطنية الجزائرية وبيان حقائقها وحيثياتها: للحدّ من تأثير وجهة النظر الاستعمارية وتأويلاتها، وشحذ اعتزاز الأجيال بجهاد الآباء واستلهام دروس التاريخ، كما في: الحركة الوطنية الجزائرية، بأجزائه الثلاثة (1830- 1900 / 1900 - 1930 / 1930 - 1945) - أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر، بأجزائه الثلاثة (1976، 86، 90) (ثم جزآن آخران: 1996، 2005)، وغيرها. 3 - في كتابة التاريخ الثقافي: لاستقصاء وتسجيل خلفيات الأحداث الباطنة وعوامل التغيير العميقة، وربط الجزائر بمحيطها الطبيعي العربي الإسلامي، ودرْء تيارات الاستلاب الجارفة والنزعات الانعزالية الهدّامة، خاصة في موسوعته "تاريخ الجزائر الثقافي" بمجلداتها العشرة، التي صدر جزآها الأوّلان عام 1981، ودراساته عن محمد العيد آل خليفة (1961)، والشاذلي القسنطيني (1974)، والمفتي ابن العنابي (77)، وشيخ الإسلام عبد الكريم بن الفكون (86)... 4 - في بحث قضايا الساعة في الفكر والمجتمع والسياسة، خاصة: منطلقات (1982)- أفكار جامحة (88) - قضايا شائكة (89) - في الجدل الثقافي (93) - هموم حضارية (93)- خارج السرب (2005) - حوارات (2005).
الخاتمة
كان الراحل سعد الله مثقفا أصيلا، أدّى دورًا ظاهرا في بلورة وإنعاش ورسم توجّهات الثقافة الجزائرية المعاصرة، خاصة في قضايا تأصيل التاريخ والتعريب والتربية، وقيم المجتمع المدني أيضا. كما كان عالِما نذر نفسه للحقيقة كما بلّغه تخصّصه واجتهاده، رغم أعاصير ومناورات أرباب المصالح الضيقة. مع حرصٍ على صرامة المنهج، واعتدالٍ وحذرٍ في المواقف العامة، وميلٍ إلى التآلف والتوافق. وهو أيضا ذاكرة جيل حلُمَ بالنهضة، لكنّ الذي تراءى له كذلك كان حركةَ وعيٍ وتعبئةٍ ودفاع عن الذات أمام تحديات الانحلال الداخلي والهيمنة الخارجية، أكثر منه نهضةً متكاملة تدرك الحاجات، وتتوفر لها الخبرات والقدرات. ويبدو أنّ النهضة المنشودة مَنوطة ابتداءً باستكمال الوعي التاريخي (المحقِّق لإدراك مقوّمات الوجود التاريخي والتمسّك بها) لدى نخبة المجتمع والأمة وجماهيرها على حدّ سواء، لتفعيل طاقاتها وحفزها إلى البناء والتجديد كما أسلفنا، ولطالما نبّه إلى ذلك الدكتور سعد الله وكافح من أجله، وإن لم ينظّر له بشكل مستقل. فهل تتضافر الجهود في هذه السبيل؟.