ومع كل ما قيل فإن الحوار بين المهاجرين قد جرى في جو من الأخوة والاعتراف المتبادل بمكانة الأنصار والمهاجرين من رسول الله وثنائه صلى الله عليه وسلم على الفريقين. ففي رواية أخرى: انطلق أبو بكر وعمر يتعادان حتى أتوا الأنصار، فتكلم أبو بكر فلم يترك شيئا أنزل في الأنصار، ولا ذكره رسول الله من شأنهم إلا ذكره وقال: لقد علمتم أن رسول الله قال: "لو سلك الناس واديا وسلكت الأنصار واديا، سلكت وادي الأنصار" ولقد علمت يا سعد أن رسول الله قال وأنت قاعد: "قريش ولاة هذا الأمر فبر الناس تبع لبرهم، وفاجرهم تبع لفاجرهم". فقال له سعد: صدقت نحن الوزراء، وأنتم الأمراء" ثم لنعرج على ما احتج به الأنصار والكلام لعمر بن الخطاب: فلما جلسنا قام خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله وقال: أما بعد، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط نبينا، وقد دفت دافة منكم تريدون أن تختزلونا من أصلنا، وتحصنونا من الأمر" هنا أيضا لم يحتج الأنصار بنص شرعي، بل دفعوا بما كان للأنصار من مكانة عند رسول الله "نحن أنصار الله وكتيبة الإسلام" يقابله اعتبار المهاجرين "رهط النبي" ثم يميل الاحتجاج لحظة إلى التهمة الصريحة بمحاولة إقصاء الأنصار على حد تعبير من رافع عن الأنصار: ليقول قائل من الأنصار: "أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش". فالأمر كما نرى عند الطرفين لا يخرج عن كونه اجتهاد بالرأي بين طائفتين من المسلمين، كما سيوضحه عمر في اليوم الثاني حين عقد مجلس البيعة بالمسجد، وقد اعترف كل فريق بأفضال الفريق الثاني، وتحاشى الطرفان استدعاء ما وصف به المهاجرون والأنصار في المحكم من التنزيل، وفي كثير من الأحاديث النبوية التي أعلت شأن المهاجرين والأنصار. مدار الجدل الذي نتج بعد مبايعة أبي بكر الصديق لم يكن أصله خلاف بين الصحابة على طبيعة الإمارة: خلافة، إمارة، أم إمامة قد حصرها بعضهم لاحقا في آل البيت، لأن الجميع قد استقبل الحدث كشأن من شؤون المسلمين يتدبرونه وفقا لنص الآية 38 من سورة الشورى "وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى _ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ" وأقوى دليل على أن الأمر كان محض اجتهاد من الصحابة ما رواه أنس بن مالك قال: لما بويع أبو بكر في السقيفة وكان الغد، جلس أبو بكر على المنبر، وقام عمر فتكلم قبل أبي بكر، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أيها الناس إني قد كنت قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت إلا عن رأيي، وما وجدتها في كتاب الله، ولا كانت عهدا عهدها إلي رسول الله ، ولكني كنت أرى أن رسول الله سيدبر أمرنا يقول: يكون آخرنا وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي هدى به رسول الله، فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه الله له، وأن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله وثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوه، فبايع الناس أبا بكر بيعة العامة بعد بيعة السقيفة. وروي عنه أنه قال: ''أما والله ما وجدنا فيما حضرنا أمرا هو أرفق من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة، فإما نبايعهم على ما لا نرضى، وإما أن نخالفهم فيكون فساد، فمن بايع أميرا عن غير مشورة المسلمين فلا بيعة له، ولا بيعة للذي بايعه تغرة أن يقتلا'' (...يتبع)