قال الرئيس الأمريكي الإثنين الماضي ساعات قليلة بعد أن أعلنت شركة "جنرال موتورز" للسيارات عن طلب إفلاسها من السلطات القضائية في أمريكا، بأن الحكومة الأمريكية ستتكفل بمستقبل الشركة وستبعثها من جديد تحت عباءة الدولة هذه المرة. * ويحمل تصريح أوباما المقتضب معنى شراء 60 بالمائة من أسهم الشركة لتصبح الحكومة المالك الرئيسي الأول لأصولها ويملك دائنو الشركة من غير المؤمنة أسهمهم بقية الأصول، وفور ذلك أسعفت الدولة الشركة المفلسة بمبلغ 30.1 مليار دولار في إطار معالجة الديون المترتبة عليها. فماذا يعني أن تتدخل حكومة أكثر دول العالم تطبيقا للإقتصاد الحر في معالجة حالة تجارية بحتة كحالة ثاني أكبر شركة لصناعة السيارات في العالم؟ وهل يؤكد هذا التدخل ما ذهبنا إليه سابقا من أن سلسلة الإفلاسات التي طالت كبريات الشركات والبنوك الرأسمالية في العالم هي مؤشر عن نهاية عصر الأسواق بإعتبارها مركز القرار الإقتصادي؟ وما هي الدروس المستفادة من إفلاس شركة عملاقة عمرها قرن من الزمن هي شركة "جي آم"؟ * * الإثنين الأسود يطال قطاع الصناعة * لم يمض عام واحد على إعلان رابع أكبر بنك أمريكي، هو بنك "ليمان بروذرز" إفلاسه سبتمبر الماضي، ولم تمض أسابيع قليلة عن إعلان شركة كبيرة في أمريكا هي "كرايسلر" عن إفلاسها أفريل الماضي، حتى تكرر الإثنين الأسود في قطاع الصناعة الأمريكية هذا الأسبوع وانهارت مؤسسة "جي آم" ثاني أكبر شركة سيارات في العالم 8 أشهر بعد الإحتفال بعيد ميلادها المئوي: 1908 2009، وكانت الشركة بهذه المناسبة تطمح لتدشين قرن جديد من الإنجازات كما جاء في كلمة رئيسها خلال الحفل. * وأعلنت "جي آم" الثلاثاء الماضي الاستغناء عن 22 ألف وظيفة في أمريكا وإغلاق 17 من فروعها المنتشرة في 35 دولة، كما أعلنت عن اتفاقية بيع ماركة "هامر" الشهيرة لمستثمر لم يعلن عنه بعد. * وتكمن مشكلة "جي آم" في الديون التي عليها والبالغة 90 مليار دولار وهي تساوي تقريبا نصف مجموع أصولها البالغة 182 مليار دولار وتساوي بالضبط رقم أصولها الفعلية، ديون تولدت عن آلية طرح السندات الربوية من خلال صناديق الإستثمار، إلى جانب تراجع مبيعاتها بسبب الأزمة المالية العالمية التي ضربت القروض الإستهلاكية في الصميم. والنتيجة خسائر قياسية العام 2008 قدرها مسؤول بالشركة بأكثر من 30 مليار دولار وتراجع في المبيعات بلغ شهر فيفري الماضي 53 بالمائة. أما حملة أسهم "جنرال موتورز" فهم الضحية رقم واحد بسبب تراجع قيمتها إلى ما دون 1 دولار عشية إعلان الإفلاس لتصل إلى الصفر بخروج الشركة من قائمة "داوجونز" مؤشر تداول القطاع الصناعي في بورصة "وول ستريت". * والذي لا يعرف شركة "جي آم" يجهل أنها المالكة الوحيدة لأشهر ماركات السيارات في العالم: كاديلاك، شيفروليه، هامر، أوبل، جي أم دايو، فاكسهول، وغيرها، وأنها أحد أبرز رموز الرأسمالية الحديثة في العالم وأنها أحد أعمدة سوق الشغل في أمريكا حيث تشغل 62 ألف عامل وعبر العالم يقارب عدد موظفيها ربع مليون عامل. أما إفلاسها فيمهد لإفلاسات جديدة ستطال الصناعات المرتبطة بهذه الشركة وهي كثيرة عبر العالم وسيهز ثقة حملة الأسهم في الشركات الكبرى وسيحمل الحكومات الرأسمالية مسؤولية جديدة على سلم التدخل في الأسواق في الوقت المحدد وقبل فوات الأوان. * * دور الدولة * لم تجد خطة الإنقاذ الأمريكية في عهد الرئيس الأسبق "جورج بوش" نفعا في إنقاذ "جي آم" على الرغم من دعمها بما لا يقل عن 19 مليار دولار بل تفاقمت أوضاعها المالية لدرجة طلب الحماية من الدائنين، ويعني ذلك أن توقعات الشركة بشأن سوق السيارات كانت خاطئة أو أن السوق مجال عشوائي ويتصف بمخاطر تتجاوز حجم أصول شركات القطاع الخاص مهما كبرت. وفي الحالة الأولى لا أحد يتصور أن شركة في حجم وتاريخ "جي آم" تخطئ في تقدير الطلب على منتجاتها أو تعجز عن التكيف مع مفردات الأزمة الإقتصادية. ويبقى الإحتمال الثاني أكثر قوة في تفسير حالة الشركة. ويعني هذا الإحتمال طبيعة الملكية الخاصة في علاقتها بالقرارات الإستثمارية في ظل معادلة إجتماعية ونظام بنكي يتعامل مع النقود كسلعة تباع وتشترى. وبالفعل، اشترت "جي آم" عن طريق السندات كمية مهمة من النقود دون مقابل كاف من الأصول، ويبلغ الرقم مع صندوق حملة السندات وحده 23 مليار دولار، ومع ااتحاد نقابات صناعة السيارات في أمريكا 21 مليار دولار ويبلغ حجم عجز الشركة جراء ذلك 90 ملياردولار وهو نفسه رقم أصولها الحقيقية. ومع ذلك لا يكاد يرى حملة أسهم الشركة والمتدخلون في البورصة من وضعية "جي آم" سوى قيما سوقية تحكمها المضاربة بعيدا عن النتائج التشغيلية لنشاطها. * * دروس مستفادة * وعندما تمتلك الدولة أسهما في "جي آم" بنسبة 60 بالمائة فيعني ذلك من وجهة نظر الضمان اللجوء إلى أصول حقيقية غير محدودة بالنظر الى دور الدولة عندما تتحول من مجرد حارس الى عون اقتصادي كما تفعل جل الحكومات الرأسمالية بعد تفاقم أزمة القروض في العالم. وهكذا يبدو أن مشكلة الشركات الرأسمالية تتعدى مجال التسيير الى المفاهيم التي تحكم سلوك المستثمرين والمدخرين معا أي الى معايير اللجوء الى السوق المالية ومعايير السلامة المالية ومعايير القرار ضمن نسيج القطاع الخاص. * وفي هذا المعنى، قال الرئيس التنفيذي لفرع الشرق الأوسط لشركة "جنرال موتورز" بأن الشركة هناك لن تهتز مادامت السوق رائجة. هذا صحيح ولكن هناك أسباب أخرى: أولها أن السيارات المصممة لمنطقة الشرق الأوسط والخليج تختلف من حيث قطع الغيار والضمانات عن نظيرتها في أمريكا، وثانيا تشكل المنطقة سوقا لم يتأثر فيها الطلب على السيارات بشكل حاد بسبب حجم قروض الإستهلاك وطبيعتها. ولعبت صيغة "التمويل بالمرابحة" وتقدم المعاملات المصرفية الإسلامية دورا مهما في المحافظة على دور النقود الشرعي في الإقتصادي ضمن المعادلة الإجتماعية لمنطقة الشرق الأوسط والخليج، عوامل حفظت طلب الأفراد من الإنهيار وكانت في إسعاف شركة "جي آم" في المنطقة. * وجاء تدخل الحكومة الفدرالية الأمريكية ليضيف شيئا الى الهيكل المالي لشركات القطاع الخاص وهو توسيع الأصول الحقيقية المضمونة في دعم رأسمالها: معنى إقتصادي سبق الإسلام اليه عندما أقر عنصر "الضمان" وحرم التعامل بالفائدة البنكية مادامت تلك الفائدة لا تضمن عائدا حقيقيا وتعمل في اتجاه الأثر المركب للدين على النحو الذي يستحوذ على الأصول الحقيقية وهو ما وقع بالفعل في حالة شركة عمرها قرن من الزمن ومنتشرة في 35 دولة، وتمثل الرأسمالية الصناعية الحديثة إسمها "جنرال موتورز