يعتقد بعض الناس أن التضليل والمغالطات التي مارسها الإعلام المصري الشوفيني المتخلف هذه الأيام بدعم من الهيئات الرسمية في هذا البلد الذي لا يعنيه وصول منتخب مصر إلى المونديال قدر حرصه على وصول جمال مبارك إلى سدة الحكم خلفا لأبيه، أمر جديد علينا، ليس صحيحا، فهو جزء من ثقافة متأصلة في مفاصل الحكم المصري وسلوك ممارس في مجتمع لا يقول لا أبدا. * * فعندما يصل الأمر إلى حد وصف ما تعرض إليه المنتخب الجزائري »الضيف« من إرهاب واعتداء سافر، بأنه مجرد »تمثيلية«، وأن دم اللاعبين ليس أكثر من »صلصة طماطم حمراء«.. نعتبر هذا بكل المقاييس المهنية والأخلاقية تصرفا خطيرا، ولعل اتفاق كل وسائل الإعلام المصرية مكتوبة وسمعية بصرية على »رواية واحدة« من أن الجزائر تعمدت التمثيل، يؤكد أن هذا الإعلام غريب الأطوار يملك رئيس تحرير واحد هو وزير الإعلام الذي لم نسمع له صوتا وكأنه غير معني بما يحدث من انزلاق يضر بمصلحة بلده، إلا إذا كان عبدا مأمورا. ومن هنا يتبين جليا أن كل شيء كان مرتبا له بإحكام لضرب معنويات المنتخب الجزائري وتشويه صورة بلد لا يعنيه شأن مصر الداخلي ومحاولة إلصاق تهمة العنف بالجمهور الرياضي الجزائري. * وحتى نستعيد جزءا من الذاكرة الجزائرية مع مصر التي تثبت أن ثقافة التغليط وتشويه الحقائق ليست جديدة عليها وأنها من ثوابت النظام المصري عبر التاريخ، نجد النموذج في واقعة سفينة »نجم الإسكندرية« التي حدثت في العام 1963، وهي تحمل كثيرا من الدلالات، إذ رأيت من واجبي أن أروي لكم ما اصطلح عليه آنذاك بفضيحة »الخلية الثاقبة« وكنت حينها في بداياتي المهنية. وتبدأ القصة بتعرض السفينة المصرية التي أرست بميناء عنابة إلى انفجار عنيف هز المدينة، لأنها كانت محملة بما تبقى من أسلحة كانت موجهة لدعم الثورة الجزائرية، واستدعى هذا الإنفجار القيام بتحقيق معمق لمعرفة أسبابه، فحضر وفد من المحققين المصريين يضم ضباطا بدرجات لا تقل عن مشير وعقيد، بينما لم يكن من الجانب الجزائري سوى عدد قليل من الضباط الذين لا يتجاوز أعلاهم رتبة نقيب، بينهم أسماء تحملت مسؤوليات عليا في مؤسسات الدولة وما زالت، مثل نور الدين يزيد زرهوني ورشيد بن يلس وغيرهما. وكان السؤال هو هل ما حدث للسفينة تم بفعل فاعل خارجي أم داخلي؟ أي هل تعرضت إلى تخريب عند وصولها وتتحمل مسؤوليته الجزائر، أم أن التخريب تسبب فيه عنصر داخل السفينة وتتحمل مسؤوليته مصر؟ واستمر التحقيق الدقيق أربعة أيام كاملة، إلى أن تم العثور على جزء من السفينة بعيدا عن مكان الانفجار، ولاحظ الجميع وجود ثقب يكشف حدوث عملية تفجير باستخدام تقنية "الخلية الثاقبة"، وانفتحت سريرة المحققين المصريين لأنهم اكتشفوا أن الفاعل »خارجي« وبالتالي فإن الجزائر تتحمل المسؤولية الكاملة وتكون تبعات التعويض باهظة، واعتقدوا أن الملف أغلق بمجرد تحرير محضر يشير إلى أن يدا جزائرية تقف وراء تفجير سفينة »نجم الإسكندرية«. ولكن الذي لم ينتبه إليه المحققون المصريون أن الضابط الجزائري يزيد زرهوني لاحظ من بعيد أن الجزء الذي تعرض للتفجير كان مقلوبا، وهمس في أذن السيد بن موسى مدير الميناء آنذاك »دعهم يأخذون ما شاؤوا من الصور، وأن يحرروا محضرا بذلك، وعندما ينهون عملهم سنطلب منهم العودة إلى المكان لنفاجئهم بالحقيقة«، وهكذا جرت الأمور وما أن عادوا إلى المكان، حيث دليل الإثبات، اكتشفوا أن الجانب الآخر لم يكن سوى الجزء الخارجي للسفينة مع اسمها باللون الأحمر. فتصبب العرق البارد من جباه المشير وضباطه ولم ينبسوا بكلمة واحدة. ولأن الحقيقة لا تحتاج إلى إثبات، فإن السياسة دخلت على الخط مثل »الخلية الثاقبة« حين انتقل وفد رفيع المستوى برئاسة أحمد بن بلة، والمرحومين محمد الشريف مساعدية وعبد الله بلهوشات، والسفير المصري آنذاك الدسوقي، وأغلق الملف، وتمت تبرئة مصر »الشقيقة« من تهمة تخريب سفينة »نجم الإسكندرية«. ولا أدري إن كان ما تعرضت له حافلة المنتخب الوطني في القاهرة كان بفعل »خلية ثاقبة« وأن مصر بريئة دائما براءة الذئب من دم يوسف في زمن » شاهد ما شافش حاجة « ، وأن أوتوبيس رفاق صايفي "قدّ من دبر" كما حدث ليوسف عليه السلام مع زليخة امرأة العزيز .. ومن الذاكرة نتعلم . * * *إعلامي متقاعد