بين زيارة وزير التجارة السعودي الأخيرة إلى الجزائر، وزيارة التركي أردوغان، وأخيرا زيارة الوزير الأول سلال إلى فرنسا، برز عنصرٌ كاشف للخلل الفظيع في سياستنا الخارجية، وعوائدها الكارثية على الاقتصاد الوطني. فقد كشفت زيارة الوفد السعودي عن استعدادات سعودية طيبة للاستثمار في الجزائر قد تزيد عن ملياري دولار في بحر أربعة أشهر قادمة، فيما احتاجت الجزائر إلى عقد من الزمن، وربما إلى كثير من التنازلات، لتقنع الشريك الفرنسي الأول منذ الاستقلال بالاستثمار المباشر الذي بقي لعقدٍ من الزمن دون ملياري دولار. حتى تنفيذ عقد الشراكة في مصنع رونو، كان الشريك الفرنسي يجتهد لتثبيط الأوروبيين عن العودة إلى السوق الجزائرية بالاستثمار عبر صيغة 51 - 49، بل كانت تمنع شركاتها من الاستثمار المنتج في الجزائر تحت أي صيغة، فلا ترى فيها سوى سوقٍ واعدة للمنتَج الفرنسي، بعد أن منحها اتفاق الشراكة بين الجزائر والاتحاد الأوروبي بوابة العودة المحصنة من الرسوم الجمركية. وحدها الأزمة الاقتصادية التي تعصف بأوروبا، هي التي حملت الحكومة الفرنسية على "مراجعة مؤلمة" لسياستها دفاعا عما تعتقد أنه حديقتها الخلفية، قد عبر عنها وزير الخارجية الفرنسي أثناء تدشين مصنع رونو بوهران بالقول: "إذا كنا نريد التواجد في هذا البلد الكبير فعلينا أن ننتج بالشراكة معه في عين المكان" وهي مقاربة جديدة ما زالت تجد كثيرا من المعارضة داخل مراكز صنع القرار في فرنسا، ولها خصوم حتى في الجزائر من بين أولئك الذين طالبوا بإسقاط مبدإ الاستثمار بنظام 51 - 49. القبول الفرنسي بشراكة تتخلص تدريجيا من مخلفات الثقافة الكولونيالية التي طبعت السياسة الفرنسية قد يكون مرحليا، في وقت لم تعد فيه الجزائر بحاجة إلى فرنسا، وقد توفرت لها بدائل كثيرة في آسيا وأمريكا الجنوبية، كما قد يتوقف مستقبلا على مقدار انكماش السوق العالمية أمام الصادرات الفرنسية، وحاجتها إلى ضمان ما هو تحت اليد بحكم الإرث الاستعماري. غير أن القرار الأخير يبقى بيد الحكومات الجزائرية، التي لم يعد لها مبررٌ يسوغ لها الإبقاء على علاقات مختلة مع المستعمِر القديم، مع وجود سوق دولية مفتوحة، وشركاء جدد لا يترددون اليوم في المراهنة على السوق الجزائرية الواعدة، ومنهم دول الخليج الذين يبحثون بجدية عن توفر مناخ سياسي وثقافي أكثر انفتاحا على المال العربي، يفترض من صانع القرار الجزائري أن يتعامل معه بذهنية جديدة، وبرسم آفاق جديدة أمام المال العربي، خاصة في مجال الاستثمار في صناعات الطاقات البديلة التي هي همّ وحاجة مشتركة بين معظم الدول العربية. وفي الجملة لم يعد لا لفرنسا، ولا لدول الاتحاد الأوروبي، من ميزة تبرر استمرار ربط اقتصادنا على هذا النحو مع مجموعة غربية تتعامل مع شركائها بذهنية القرن التاسع عشر الاستعمارية، وبالروح الأطلسية للقرن العشرين، ولا تتردد في معاقبة الدول والشعوب بالحصار والعقوبات الاقتصادية الظالمة، التي لم تسلم منها دولة عظمى مثل روسيا، حتى يأمن منها بلدٌ متوسط مثل الجزائر، سبق أن تضرّر من حصار مماثل في العشرية السوداء قاده الشريك الفرنسي بلا تردد.