مع غروب شمس هذا اليوم، يوم الخميس، وارتفاع أذان المغرب من ليلة الجمعة، ستحُلّ علينا ليالٍ هي أفضل ليالي الدّنيا؛ ساعاتها هي أثمن وأغلى السّاعات، ولحظاتها هي أمتع وأنفع اللّحظات.. إنّها ليالي العشر الأواخر من رمضان، تاج رمضان وغرّته، وهبة الرّحمن ومنحته. ليالٍ قد تتغيّر بعدها حياة العبد المؤمن ليالي العشر الأواخر ليالٍ تهبّ فيها نفحات الرّحمة والغفران، وتوزّع فيها أوسمة الرّضوان والعتق من النّيران. ليالٍ يكون فيها العبد المؤمن أقرب ما يكون إلى رضوان ربّه؛ قد يجتهد فيها عبد من عباد الله مخلصا لربّه، فيكتب له رضوانه فلا يسخط عليه أبدا. ليالٍ قد تتغيّر فيها وبعدها حياة العبد المؤمن من حال إلى حال. ليالٍ قد تتفجّر فيها الحجارة التي نحمل في صدورنا، وتلين فيها القلوب التي حالت بيننا وبين البكاء بين يدي الله. هكذا كانوا.. فماذا نحن فاعلون؟ ليالٍ كان قدوتنا نبي الهدى –صلّى الله عليه وآله وسلّم- إذا دخلت، شدّ مئزره وأحيى ليله وأيقظ أهله، بل كان -صلوات ربّي وسلامه عليه- يعتكف في بيت الله ويجعل نفسه وقفا لله في هذه اللّيالي.. هذا المعصوم –صلّى الله عليه وآله وسلّم- يجتهد كلّ هذا الاجتهاد ويطلّق الدّنيا في مثل هذه الأيّام كأنّما سيلقى ربّه بعد رمضان؛ فهل يليق بنا أن نغفل عنها ونحن المسرفون والعصاة المذنبون؟. وعلى نهج المصطفى –صلى الله عليه وآله وسلّم- سار العُبّاد والصّالحون، الذين كانوا إذا دخل العشر الأواخر طووا فرشهم وأوقدوا مصابيحهم وباتوا قياما بين يدي ربّهم؛ يتلون الآيات ويسبلون الدّمعات ويرفعون أكفّ الضّراعة بالدّعوات. كانوا يعلمون أنّها ليالٍ تهبّ فيها النّفحات وتنزل الرّحمات، وتغفر فيها الخطيئات وترفع الدّرجات. ليالٍ بينها ليلة خير من ألف شهر، من وافقها مصليا قائما ومنيبا داعيا ولكتاب الله تاليا، كان كمن وقف نفسه لعبادة الله ثلاثا وثمانين سنة. فيا الله!.. ما أعظم فضل الله وما أوسع رحمته بعباده في هذه الليالي المباركة. فمحروم من أمضى ساعات هذه الليالي في النّوم والسّبات، أو في جلسات المقاهي وسهرات القنوات. محروم من لم يقم فيها في ثلث الليل الأخير يصلّي الرّكعات، ويطيل السّجود ويرفع اليدين بالدّعوات، ويقرّ لمولاه بالذّنب والتّقصير ويسبل الدّمعات. إنّ أغلى الدّمعات في حياة العبد المؤمن هي الدّمعات التي تسيل في هذه الليالي المباركات. إنّ أفضل وأنفع الدّعوات هي تلك الدّعوات التي ترفع في هذه الليالي النيّرات. إنّها فرصة العمر.. فهل من مغتنم؟ إلى المذنبين وكلّنا كذلك. إلى كلّ من يعاني قسوةً في قلبه وغفلة في روحه وتحجّرا في عينه. إلى كلّ من يشكو ثقل الصّلاة وقراءة القرآن عليه. إلى كلّ من يشكو ضعف نفسه أمام الشّهوات. إلى أصحاب الحاجات وكلّنا كذلك. إلى المرضى وأهل البلاء. إلى الذين أثقلتهم الدّيون واستولت عليهم الهموم والغموم. إلى الذين ابتلوا بالوساوس والهواجس. إلى كلّ أخت مؤمنة تأخّر عنها الزّواج. إلى كلّ شاب مسلم أوصدت في وجوهه أبواب الحلال. إلى كلّ زوجة تشكو ظلم وإعراض زوجها. إلى كلّ زوج يشكو نشوز زوجته. إلى كلّ من يشكو عقوق أبنائه واتباعهم طرق الغواية والشّهوات... إنّها فرصتكم لاستنزال الأرزاق ونيل الأمنيات، وبثّ الشّكاوى بين يدي قيّوم الأرض والسّماوات. في ليالٍ تفتّح فيها أبواب السّماوات، ولا يردّ الله سائلا رفع يديه بالدّعوات. فقط ركعات قلائل في جوف الليل، وخشوع يعتصر القلب، ودموع تغسل العين، وتذلّل وانكسار، وتوبة واعتراف بالذّنب والتّقصير. ودعاء يوافق فيه القلب اللّسان. دعاء يوجّه مباشرة إلى ملك الملوك ومن بيده خزائن الأرض والسّماوات. إلى من يغضب من عبده إذا لم يدعه ويفرح إذا دعاه. إلى من وعد في آخر آيات الصيام ووعده حقّ وصِدق فقال جلّ من قائل: ((وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)).