تسعة وخمسون (59) يوما انقضت بعد رحيل رمضان.. لا شكّ أنّ من عباد الله المؤمنين من تلهّفت أرواحهم إلى شهر التّوبة والغفران والعتق من النّيران، واشتاقت نفوسهم إلى أيام الجوع والصّيام، وليالي التهجّد والقيام، يتمنّون عودتها ليجدوا الراحة والطّمأنينة والأنس والسّعادة، ومن رحمة الله الحنّان المنّان سبحانه أنّه جعل لعباده المؤمنين مواسم كثيرة على مدار العام، تهبّ فيها نسائم الرّحمات، وتضاعف فيها الحسنات وتغفر الخطيئات وتُقال العثرات، وتلين فيها القلوب والأرواح لعالم الخفيات. يقول نبيّ الهدى صلى الله عليه وآله وسلّم: (افعلوا الخير دهركم، وتعرّضوا لنفحات رحمة الله، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده، وسلوا الله أن يستر عوراتكم وأن يؤمّن روعاتكم). نفحات تهبّ في أيام ومناسبات شرّفها الله، لعلّ من أعظمها تلك التي تهبّ في العشر الأول من شهر ذي الحجّة، هذه العشر التي ستحُلّ بنا بدءًا من يوم غد بحول الله.. أيام ليست ككلّ الأيام، بل هي أفضل الأيام عند الله جلّ وعلا، يقول الحبيب المصطفى صلوات ربّي وسلامه عليه: (أفضل أيام الدنيا أيام العشر يعني عشر ذي الحجة).. أيام أقسم الله جلّ في علاه بلياليها في كتابه فقال: "وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ". أيام جعلها المولى جلّ شأنه أيام ذكر وطاعة وشكر فقال تقدّست أسماؤه: "وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ".. أيام يجتمع فيها من العبادات ما لا يجتمع في غيرها؛ تجتمع فيها الصلاة والصيام والصدقة والحج.. أيام يتوب فيها الحنّان المنّان سبحانه على من تعرّض لنفحاته، ويضاعف له أجور الصّالحات، يقول نبيّ المرحمة عليه الصّلاة والسّلام: (ما من أيامٍ العمل الصالح فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيامِ يعني أيامَ العشر). قالوا: يا رسول الله، ولا الجهادُ في سبيل الله؟ قال: (ولا الجهادُ في سبيل الله إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله فلم يرجعْ من ذلك بشيء).. أيام حقّق بعض العلماء أنّها أفضل من أيام العشر الأواخر من رمضان.. بمعنى أنّ العبد المؤمن يستطيع أن يعيش نفحات رمضان في هذه الأيام.. فيقضيها بين صيام وقيام، وذكر وقرآن، وصدقة ودعاء.. بل ربّما تكون هذه الأيام بداية حياة جديدة يعيشها العبد المؤمن، يطلّق فيها الغفلة ويقبل على ربّه الغفور الرّحيم الحنّان المنّان. هي فرصة لكلّ متحسّر على فوات رمضان، ولكلّ عبد يريد أن يتوب إلى الله الواحد الديّان، ويبدأ صفحة جديدة في حياته؛ يبدأ صفحة جديدة مع الله في أيام هي أفضل وأكرم الأيام عليه سبحانه، ومن يصدقِ الله يصدقْه. هي فرصة من أحسن استغلالها سيكسب بإذن الله خيرا كثيرا.. ربّما ينظر الله -تبارك وتعالى- نظرة رحمة إلى عبد من عباده وهو يجتهد في القرب منه في هذه الأيام ويرى منه الصّدق والحرص على رضاه، فيكتب له رضوانه ويتقبّله في الصّالحين ويفكّ أسر قلبه من سجن الدّنيا. إنّها أيّام صلوات ودعوات. أيّام صيام وتسبيح وتهليل وتكبير، ومشاركة للحجّاج في دعائهم وابتهالهم. بل هي للمراجعة وتصحيح المسار؛ فمن كان متهاونا في صلاته فلتكن هذه الأيّام بداية له لإصلاح حاله مع هذا الرّكن العظيم من أركان الإسلام، ومن حُرم قيام الليل في ما مضى فلتكن هذه الأيّام بداية له ليذوق حلاوة القيام بين يدي الله في وقت السّحر، ومن حُرم لذّة الصّيام في غير رمضان فلتكن هذه الأيّام بدايته ليذوق لذة الجوع طلبا لمرضاة الله، ومن حُرم لذة الإنفاق في وجوه البرّ والخير فلتكن هذه الأيام بدايةً له لينعم بلذة الإنفاق في سبيل الله. إذا كان الفرح في عيد الفطر ما شرع إلاّ ليشكر العبد المؤمن ربّه على التوفيق لصيام شهر رمضان وقيام لياليه، فإنّ الفرح في عيد الأضحى أيضا ما شرع إلاّ ليشكر العبد المؤمن ربّه على التوفيق للطّاعات والقربات في أيام العشر من ذي الحجّة، فبماذا سيفرح من غفل عن هذه الأيام؟، بماذا سيفرح من غفل فيها عن الصّدقة والصّيام والقيام؟ بماذا سيفرح من تزوّد فيها من الأوزار الآثام؟. إذا كانت أجور الأعمال الصّالحة في مثل هذه الأيام الفاضلة تضاعف، فإنّ أوزار المعاصي أيضا تضاعف: يقول ابن عباس (رضي الله عنه): "اختصّ الله أربعة أشهر جعلهنّ حرماً، وعظّم حرماتهنّ، وجعل الذّنب فيهنّ أعظم، والعمل الصّالح والأجر أعظم". فالحذر الحذر أخي المؤمن أن تُدبر في وقت يُقبل فيه غيرك على ربّه ويتعرّض لرحماته.