يرى بشير فريك، الوالي السابق في فترة التستعينيات، أنّ الولاة ليس في مقدورهم حاليا دفع الاستثمار المحلّي بالشكل الذي تطمح إليه الحكومة، معلّلاً موقفه بواقع الصلاحيات المحدودة للوالي، ضمن سلسلة العملية الاستثمارية، حيث دعا في هذا الصدد إلى أن يتحول الوالي إلى وضع الآمر والمنفذ في آن واحد، مع ضرورة مرافقة الولاة بخارطة طريق واضحة وفق مقتضيات هذه المرحلة. وشدّد بشير فريك، في حوار مع "الشروق"، على أنّ سلك الولاة في حاجة إلى حماية قانونية عبر قانون أساسي، معتبرًا عن كون معايير تعيين وعزل هؤلاء في الجزائر تخضع في الغالب لمقاييس ذاتيّة، ولو على حسن نيّة، تجعل الكثير منهم ضحيّة مع كلّ حكومة أو وزير داخلية جديد.
السلطات العليا تطلب من الولاة في هذه المرحلة أن يتحولوا إلى أعوان اقتصاديين، لكن السؤال المشروع: ماذا يمكن أن يقدم هؤلاء اليوم لتشجيع الاستثمار، ودعم الخزينة العمومية؟ قبل الإجابة، علينا أن نتساءل: ماذا تريد السلطة من الولاة أولا؟ التجارب السابقة أثبتت أن هؤلاء كانوا دائمًا هم الملجأ الوحيد للسلطة، كلما اشتدت عليها الضائقة المالية والاقتصادية، عشنا في الميدان قبل 20 سنة، أعرف منذ نهاية الثمانينيات من القرن الفائت، كيف كان الولاة في الواجهة في أعقاب الأزمة البترولية، ثم الأزمة السياسية والأمنية.. لذا، أتذكر في 1990 أول حركة في سلك الولاة، أجرتها حكومة مولود حمروش "الإصلاحية"، حيث أنهت مهام 27 واليًا دفعة واحدة، بدوافع سياسية محضة تقريبا.
ماذا تقصد بالدوافع السياسية في تلك الفترة التي تزامنت مع الانتخابات التي برز فيها "الفيس" كقوة شعبيّة أولى في البلاد؟ بالضبط... الحركة تندرج في هذا السياق، فقد أسندت إلى هؤلاء الولاة مهام سياسية بامتياز، إلى درجة أن رئيس الحكومة مولود حمروش اجتمع بالولاة المُبعدين على مائدة عشاء في جنان الميثاق، وقال لهم حرفيا: "ليس لديّ أي مشكل معكم، لكنّكم لا تصلحون لهذه المرحلة".
هل يمكن أن نعرف طبيعة المهام السياسية التي أسندها "حمروش" إلى الولاة في مطلع التسعينيات؟ كانت مهمتهم الأساسية دعم جبهة التحرير الوطني على حساب الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحلة، والإسلاميين عموما، ثم جاءت بعد ذلك حكومة غزالي في نهاية جوان 1991، وأنهت مهام 28 واليًا محسوبين مباشرة على مولود حمروش. وهنا كذلك كانت الأسباب سياسية، استعدادا لموعد تشريعيات 26 ديسمبر 1991، لأنّ حكومة سيد أحمد غزالي خطّطت لدعم "الديمقراطيين" والأحرار على حساب "الأفلان" والفيس".
لكن، مع بداية الأزمة السياسية والأمنية، أظنّ أنّ أولوية الولاة ستتغير؟ فعلا.. في تلك الفترة تعاقبت حكومات كثيرة منذ وقف المسار الانتخابي، وبدأت السلطة تُبعد الولاة عن الجانب السياسي، وتوجهت بهم إلى الجانب الاقتصادي، حيث تمّ إقحامهم في المجال الاقتصادي المحلي، وبخاصة تشجيع الاستثمار في كل القطاعات، وذلك عن طريق مجموعة من النصوص التي تحثّ الولاة على منح الوعاءات العقارية. وبموجبها تمّ توزيع مساحات كبيرة، لتظهر كنتيجة طبيعية المضاربة وكثرة السمسرة في العقارات. وقد استمرّ هذا الوضع إلى غاية 1999، مع مجيء الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة.
وصول بوتفليقة إلى الحكم سيعقُبه مباشرة تحسّن كبير في موارد الخزينة العمومية مع الطفرة النفطية، فهل تغيّرت مرة أخرى مهام الولاة؟ نعم، تغيّرت أولويات الولاة في هذه المرحلة، حيث تمّ التخلّي عن الاستثمار المحلّي وإبعاد الولاة عن الكثير من المهام الاقتصادية الاستثمارية، لصالح مركزة العديد من العمليات على مستوى القطاعات الوزارية، مثل الرّخص والاعتمادات.
حتى أعود بكم إلى سؤالي الأول، اليوم عادت السلطة مضطرّة إلى الولاة في مهمة إسعاف للخزينة العمومية، بعدما ضاقت بها الأحوال مع تراجع أسعار البترول، ماذا في مقدور هؤلاء أن يقدموا في هذه المرحلة الجديدة؟ الآن، ومنذ 2015، التقت حكومة عبد المالك سلال بالولاة، وأعطتهم خارطة طريق مستعجلة في إطار المنوال الاقتصادي الجديد، حيث طلبت منهم تسهيل شروط وظروف الاستثمار، وأهمّها إعادة توزيع العقارات، حيث تمّ اتخاذ قرار باستحداث 49 حظيرة صناعية، وكلّف الولاة باختيار الأرضيات، وعليه طلب الوزير الأول توزيع الأوعية العقارية على المستثمرين الجاهزين بمجرد الانتهاء من الدراسة دون تهيئة، بعدما أسندت هذه العملية إلى الوكالة الوطنية للضبط العقاري والصناعي، لكنّ الحظائر لم تر النور بعد أكثر من سنتين ونصف، إذ بقيت تراوح مكانها.
لكن مهمة تشجيع الاستثمار ليست مقتصرة على توزيع العقار؟ صحيح تماما... وهنا تكمن المشكلة الأساسية، ذلك أنّ الدولة استنجدت بالوالي في الوضع الحالي، لكن مع استمرار الصلاحيات ممركزة على مستوى الوزارات وباقي المتدخلين الآخرين، فهل يكفي أن يسلّم الوالي قرار تخصيص قطعة أرض لمستثمر حتى ينطلق الاستثمار؟ بل على النقيض، مع الحصول على قرار حق الامتياز، تبدأ المشاكل التي يعجز الوالي عن حلّها، مثل القروض لدى البنوك، وأيضا منح الرخص والاعتمادات، إضافة إلى الإجراءات الجمركية لاستيراد العتاد الموجه إلى الاستثمار وغيرها. كل هذه الإشكالات والعراقيل، زيادة على البيروقراطية الخانقة الناجمة عن النظام الإداري البدائي في بلادنا، تجعل مهمة الولاة محدودة جدا.
ما المطلوب لتجاوز هذا الوضع نحو تفعيل الاستثمار المحلّي وتحرير المبادرات الإقليمية؟ الوالي هو ممثل الدولة في الإقليم، وبالتالي يجب أن يكون على المستوى المحلي هو الآمر والمنفذ، عوض أن يطلب ويترجّى باقي المتدخلين في العملية الاستثمارية، غير ذلك، سيبقى مجال نشاط الولاة محصورا في إدارة المهام التقليدية العمومية، زيادة على مرافقة الولاة في هذه المرحلة بخارطة طريق واضحة، وإن لزم الأمر تنظيم دورات تكوينية لاستيعاب أولويات المهام الراهنة لهم في ظل الوضع المالي للبلاد، لأنّه من غير المعقول الزجّ بهم في معمعة الاستثمار، دون تأهيل واستعداد، بعد سنوات طويلة قضوها في التسيير الإداري التقليدي.
لكن، زيادة على محدودية سلطاته في الميدان الاقتصادي، فإنّ الوالي يواجه ضغوطات كبيرة من أصحاب المصالح واللوبيات، أليس كذلك؟ بلى... وحتى نعرف التحديات التي تواجه الوالي، يجب تحليل فعاليات المجتمع المحلي، فهناك منظمات وجمعيات وأحزاب وأرباب عمل، وفي هذا المجموع، هناك من ينشط في إطار واضح وقانوني ورسمي، بينما هناك جماعات ضغط مصلحيّة. وهذه الأخيرة لا يهمها إلا مصالحها الخاصة، وغالبا ما يكون لها تأثير مباشر على مسار الوالي ومصيره في كثير من الحالات، خاصة عندما تكون أمام قوى ضاغطة قوية ماليّا وسياسيّا، بمعنى لها يد طويلة وامتدادات قوى على مستوى السلطة.
ما هي أدوات هذه اللوبيات في التأثير على خيارات وقرارات وحتى مصير الوالي؟ طبعا، اللوبيات ترفع دائما شعار "المصلحة العامّة"، لكن في الحقيقة حتى إذا سايرتهم فلن يتركوك بل سينقلبون عليك ، أما إنْ رفضت التعامل معهم، فسيبدؤون أسالبيهم الدنيئة، عن طريق إشاعة المعلومات الخاطئة والإشاعات الكاذبة حول الوالي، في حياته الخاصة وفي علاقاته وممارساته، عبر الرسائل المجهولة.
ما هي أبرز الملفات التي تثير الصراع مع أصحاب المصالح؟ المجالات الأكثر إثارة للتوتر مع اللوبيات هي العقار والصفقات العمومية والاستيلاء على الأراضي بمخالفة قوانين التعمير، كلها تسبب المشاكل مع البارونات.
لكن، مِن الولاة مَنْ يتقرّب طواعية إلى أصحاب المال والنفوذ حفاظا على موقعه؟ هذه الفئة من الولاة عرفناها وعايشناها.. هؤلاء وجدوا أنفسهم مسؤولين بضربة حظّ، الكثير منهم همهم الوحيد محاولة البحث عن آليات تركيز لمواقعهم في المسؤولية، سواء مع المسؤولين المركزيين، من خلال الإغداق عليهم بالهدايا وأحيانا الاستفادات وعرض الخدمات، أم العمل على استمالة اللوبيات المحلية، ليضعوا أنفسهم تحت تصرفهم ورهن إشارتهم لإرضائهم.
هذا يقودنا إلى "ظاهرة الفساد" بين الولاة، ما هي مظاهرها؟ الفساد عند الوالي يأخذ أوجها متعددة، حينما ترى مقاولاً ينال دائما الصفقات العمومية، ومتعاملين آخرين يترددون دوما على الوالي ويقضي معهم أوقاته الخاصة، أو تُصادف زيْدا أو عَمرا يحصل على الجيوب العقارية المهمة، أو تجد الوالي محاطا بالمستوردين والمستثمرين، هذه كلها مؤشرات على شبهة الفساد وتوزيع الريوع.
بالنظر إلى مهام الوالي التقليدية والمرحليّة وتأثير "علاقات القوى" مع اللوبيات، على أيّ أساس يتم تقييم الولاة في الجزائر؟ يفترض أنّ الوالي هو عبارة عن "رئيس جمهورية محلّي"، فهو في مواجهة كل التحديات المحلية، وحتى نحكم على وال ما، بأنه ناجح أو فاشل، يجب أن تكون المعايير واضحة، بمعنى: على أي أساس يتم التقييم، هل وفق ديناميكية الحركية التنموية التقليدية المعمول بها، مثلاً في بلدية معينة، وبحسب الخارطة المدرسية، يجب أن تكون هناك ثانوية ، فإذا بها غير جاهزة مع الدخول المدرسي، منْ المسؤول في هذه الحالة وما مصير التلاميذ؟ أو نصادف في ولاية ما عدد أو نسبة التمدرس في الأقسام الابتدائية 70 تلميذا، علما أن المشاريع مسجّلة، والمشكلة تكمن فقط في الإنجاز، هذه عينات من المهام التقليدية للوالي. أم إنّ التقييم يتم على أساس المبادرات المحلية التي يكون تمويلها من الميزانيات المحلية (الولاية والبلديات)، في هذه الحالة نلاحظ أن الوالي الناجح هو الذي يخلق الانسجام والتكامل مع المنتخبين بأسلوب بيداغوجي ومنهجي، حيث يبني الثقة والتفاعل مع الحركة الجمعوية إيجابيّا، عبر دعم المبادرات والاقتراحات وإعطاء المساعدات للفاعلين المحليين من ذوي النوايا الحسنة في مختلف الفعاليات الناشطة محليّا.
لكن المعيار الأساسي في التعيين والعزل برأي البعض هو العامل "الذاتي"؟ الأساس الأول، في تقديري والواقع على السواء، هو الولاء ثمّ الولاء والقابلية لتنفيذ كل التوجيهات والتوجهات الحكومية. وقد يكون الاختيار على أساس العلاقات الشخصية لهذا الوالي أو ذاك، في إطار سياسي حزبي أو جهوي... إلخ، لكن يبقى في كل الأحوال، أن المعتاد هو تدرّج المسار الإداري للوالي في الجماعات المحلية، من متصرف إداري أو ملحق في الديوان أو رئيس مصلحة، إلى رئيس دائرة أو أمين عام، حتى يصل إلى موقع الوالي، مع بعض الاستثناءات التي تخصّ ولاة وافدين من خارج الإطار.
أظنّ أنّ معيار الولاء "موضوعي إلى حدّ ما" لأن النجاح مرتبط بفريق عمل منسجم وتربطه الثقة المتبادلة؟ لا شكّ أنّ ذلك صحيح... لأنّ كل حكومة أو وزير داخلية يقترح ويختار الولاة بحسن نيّة، وبهدف البحث عن فريق للنجاح قبل أيّ اعتبار ثان.
هذا يجرّنا إلى الحديث عن مصير الوالي ومدى الحصانة التي يتمتّع بها سياسيّا وقانونيّا مع التعديلات الوزارية المتلاحقة؟ للإجابة عن سؤالكم.. أنطلق من تصريح وزير الداخلية، نور الدين بدوي، مؤخرا، حينما سئل: لماذا لم يتمّ إعداد قانون أساسي للولاة؟ فردّ بأنّ ذلك أمنيته، وقال: "سنعمل على ضبط قانون أساسي للولاة من خلال قانون الجماعات المحلية الجديد".
معنى هذا الكلام، أن سلك الولاة رغم أهميته واستراتيجيته وحيويته في الحياة العامة الوطنية يبقى مهملاً، حيث إن الوالي لا يعرف مساره، لا يعرف من أين يبدأ وأين ينتهي؟ لماذا يتمّ تعيينه وعلى أي أساس؟ ولماذا يتمّ عزله وعلى أي أساس؟ لقد ظلت هذه الإشكالية قائمة وما زالت قائمة وبحدّة، ففي غياب معايير قانونية يضبطها قانون أساسي لهذا السلك تبرز معايير أخرى غير موضوعية وغير قانونية وغير منطقية وأحيانا غير أخلاقية.
ما هي ملامح هذه المعايير غير الأخلاقية؟ أبرزها التضحية في كل حركة، عقب كل حكومة جديدة أو كل صيف، بعشرات الولاة الذين يفترض أنهم ما وصلوا إلى هذه المواقع من فراغ، حتّى صار لكل وزير داخلية مجموعة، ولكل وزير أول مجموعة، هذه المجموعات على أي أساس تمّ تشكيلها؟ مع أنّي أشدد مرة أخرى على أن الدوافع تكون بحسن نيّة.
لكن، في المقابل يرقّى الولاة "الناجحون" إلى وزراء، هل تعتقد أن هذه التجربة مفيدة وقابلة للنجاح؟ مبدئيا، ترقية الوالي إلى وزير شيء معتاد والأمثلة عديدة منذ السبعينيات، أما التقييم، فبصرف النظر عن أهمية الأداء السياسي لوظيفة الوزير، وهي أكثر منها وظيفة إدارية ميدانية، فإن الولاة وبحكم إلمامهم واضطلاعهم بالملفات التنموية والاجتماعية والإدارية بصفة عامة، كثيرا ما يتأقلمون وبسرعة مع وظيفة الوزير ربما أفضل من الذي يُعين وهو بعيد عن تلك الملفات. ولهذا، فالحكم على نجاح الوزير/الوالي من عدمه يبقى مسألة نسبية، وإن أخفق أحيانًا، فيكون ذلك في بعض الجوانب السياسية، وربما في غياب التوجيه من الوزير الأول أو السلطات العليا.
في الأخير... ماذا عن خيار الحكومة نحو استحداث الولايات المنتدبة، في انتظار ترقيتها إلى ولايات كاملة الصلاحية، وما جدواها الإدارية والاقتصادية في ظلّ الوضع الحالي؟ في تقديري.. اللجوء إلى الولاية المنتدبة ظهر على خلفية الحراك الاجتماعي في مناطق الجنوب، احتجاجًا على رفض استخراج الغاز الصخري، حيث ابتدعت السلطة فكرة الولاة المنتدبين والولايات المنتدبة لإرضاء السكان، تحت عنوان بعث التنمية وتقريب الإدارة من المواطن، وفعلا تمّ إنشاء هذه المقاطعات الإدارية وخلق كيانات إدارية بيروقراطية جديدة بتحويل رؤساء الدوائر إلى ولاة منتدبين، لتبرز ظاهرة جديدة، لست أدري كيف سيتم التعامل معها إداريّا، وهي وجود وال منتدب ورئيس دائرة ومديرين منتدبون في ولاية واحدة، كيف يتمّ التنسيق بين هؤلاء؟
يعني، أنكم تتحفظون على الفكرة، في وقت تحضّر الحكومة لتوسيعها وتعميمها؟ حبذا لو تتم عملية تقييم موضوعية حول أداء هذه الهياكل الإدارية الجديدة ومدى جدواها على أرض الواقع في الاستجابة للتطلعات التي أنشئت من أجلها، قبل التوسع إلى هياكل مماثلة، علمًا أن الوزير الأول في تصريح أمام البرلمان خلال عرضه لمخطط عمل الحكومة، التزم بترقية المقاطعات الإدارية الجنوبية العشر إلى ولايات كاملة السلطات، فهل نمكّن هذه الولايات الجديدة بنفس الأدوات القانونية والتنموية والإمكانات المالية والموارد البشرية على غرار الولايات الكبرى والقديمة؟