الجزء الثاني اتفقنا عقب ذلك على أن نقوم فورا بتفقد المواقع المخصصة لنا، حتى نضع الخطة الملائمة لمواجهة العدو. لاحظنا أول وهلة أن الخنادق الفردية والجماعية غير كافية لاحتماء الكتيبتين، لذا كان علينا أن نضيف غيرها لاحتماء رماة الرشاشات الثقيلة بالدرجة الأولى، لأن الوقت لم يعد يكفي لحفر ما يكفي منها الجميع . * انتشرت الكتيبتان بين عدد من المواقع تشكل نصف دائرة، تمتد من الغرب إلى الشرق مرورا بالجنوب. ونظرا لتضاريس جبل "الباطن" لم نكن نشك في أن العدو سيزحف من هذا الاتجاه، ومن ثم فإن الضغط سيكون قويا على تلك الناحية من الجبهة التي ستشهد أعنف المواجهات. لم يكن الميدان خلف هذا الانتشار من جهة الشمال ملائما لاحتمال زحف العدو، لأن المرتفع الذي نحتله يشرف على منحدر يشبه الجرف . لم يكن بالميدان تحصينات يمكن أن تحمينا من القصف الجوي أو المدفعي، ما عدا بعض شجيرات العرعار، وقد اتخذت فصيلة من " الكومندو " موقعا لها جنوبا وسط كتيبة زرزي . ومن ناحية الشرق هناك مرتفع يطل على سرير واد جاف. وتفاديا لأية ثغرة من هذه الناحية نصبنا فوج بوعلام(1) المجهز برشاش ثقيل "ف.م. بران" الذي أمر بوقف أي تسلل مهما كان مصدره، كما نصبنا رشاشا آخر "م. ج" على يساره شرقا. وفي ساعة متأخرة من الليل عاد آخر جنودنا من مهمة إعداد التحصينات الضرورية إلى "البيوطات" التي تأويهم.. وفجأة أطل علينا زرزي ثانية وهو يقول: "هل أخبرتم جنودكم بأن علينا أن نقاتل طوال النهار؟ وأن الانسحاب لا يكون إلا في المساء؟" قبل أن يضيف "هل بإمكان "بزوزكم " ( فتيانكم ) أن يصمدوا؟ ! " .. لم يرد عليه أحد، رغم أن الرغبة في ذلك كانت قوية . وما لبث الصمت أن خيم بعد ذهاب زرزي . كانت الليلة تبدو قصيرة جدا بعد أن عز فيها النعاس. وكان الظلام لم ينقشع عندما بدأنا نسمع دوي المحركات عن بعد، فخمن كل منا أن الأمر يتعلق بقافلة شاحنات تقترب من مواقعنا. ومع ذلك لم يجرأ أحد على التصريح بذلك. تجرأ بعضنا على الخروج والصعود إلى مكان مرتفع ليرى ما يحدث. رأينا رتلا طويلا من الشاحنات قادما من الشمال، كانت الشاحنات مشعلة الأضواء، تسير عبر مسلك منعرج يبدو بلا نهاية، لكن كنا ندرك تماما بأن القافلة تزحف نحونا. وأخذنا نستعد للالتحاق بمواقعنا القتالية دون تأخير، وشرعنا قبل ذلك في مراقبة الأسلحة والذخيرة . كان علينا أن نحتل مواقعنا تحت جنح الظلام، مع التأكد بأن كل جندي التحق بموقعه . طلعت الشمس بعد طول انتظار. إنها أشد اللحظات قلقا وتوترا، إلى درجة أنها تؤدي أحيانا إلى الارتخاء والنعاس. لكن نعرف بالتجربة أن القلق والتوتر سيزول مع الطلقات الأولى، وأن الذهن سينشغل بمتطلبات الموقف الجديد. في حدود الساعة الثامنة سمعنا دوي الطائرات يقترب من جبل "الباطن". إنها تتجه نحونا وتحلق عاليا فوق مواقعنا. أحصينا نحو 10 طائرات من نوع "جاڤوار" و"ت 6"، أخذت تبتعد لتعود وهي تحلق على ارتفاع منخفض، لتهجم فجأة برمي قذائفها الأولى. وما لبث المشهد أن تحول إلى استعراض حقيقي فوق رؤوسنا : طائرات تتوالى لتهجم وتحلق من جديد، تبتعد في لفة طويلة لتهاجم ثانية . وهكذا دواليك . وبعد أن تخلصت من حمولة القذائف، واصلت باستعمال رشاشاتها الثقيلة التي تحرث زخاتها الطويلة ما بين 100 و200 متر من الأرض . استمر الهجوم الجوي من 15 إلى 20 دقيقة، لتختفي الطائرات تاركة المجال للقصف المدفعي . كان القصف بواسطة تشكيلات من المدافع، وكانت القذائف تسقط بالقرب منا دون أن تصيبنا، كان يصحبها صفير يسمح لنا بحكم التجربة توقع نقاط سقوطها: إذا كان ضعيفا فالقذيفة تسقط بعيدا، أما إذا كان قويا فنقطة السقوط قريبة أو قريبة جدا. استمر القصف المدفعي ما بين 30 إلى 40 دقيقة، ثم ساد الصمت لحظة . وفي تلك اللحظة رأينا من جهة الشمال رتلا طويلا من رجال يرتدون زيا أزرق ويحملون حقائب ظهرية ويتقدمون باتجاه الشرق . لم يكونوا مسلحين، ولم نتمكن من تخمين وجهتهم . أطلقنا النار فوق رؤوسهم فتفرق جمعهم في فوضى كبيرة . وقد عرفنا فيما بعد أنهم من المساجين . عادت الطائرات إلى دورانها الجهنمي ثانية، قصفا بالقذائف فصليا بالرشاشات، لتخلفها المدافع بعد حين . تدخلت المدمرات الأمريكية " ب 26 " هذه المرة لإسناد طائرات " جاڤوار " و " ت 6 " . كانت ترمي قنابلها منخفضة، حتى تكاد تلامس رؤوس الأشجار، ولحسن الحظ أنها كانت تسقط بعيدا عنا . استمر القصف الجوي والمدفعي طوال الصبيحة على نفس النسق، أي بالتداول بين سرب الطائرات والتشكيلات المدفعية . لم يتحرك الجنود تطبيقا للأوامر، علما أن القصف الجوي والمدفعي إنما يحضر لهجوم المشاة، وفي منتصف النهار بدأت الدبابات تقترب من مواقعنا عبر الجنوب، متبوعة عن قرب بأفواج من الجنود، وعندما بلغت مسافة معينة أصلاها جنودنا بنار كثيفة، أصابت العديد من المهاجمين الذين ارتموا أرضا، قبل النهوض والعودة على أعقابهم متبوعين بالدبابات التي أخذت تتقهقر بدورها . كان جنودنا في موقع أحسن من ناحيتين : أولا، لأنهم في مواقع أعلى تطل على الميدان ما يجعلهم في مأمن من الدبابات، ثم لأنهم يطلقون النار من خنادق وتحصينات . وكان الجيش الفرنسي يبذل قصارى جهده لتفادي الخسائر الباهظة، وقد أدرك من خلال الاحتكاك المباشر أن مواقعنا ما تزال صامدة رغم القصف الجوي والمدفعي وأن اختراقها ليس أمرا هينا . لكن رغم هذا الصمود فقد خلفت الهجمات الجوية والمدفعية خسائر في صفوفنا، لا سيما بعد لجوء الطيران بعد العصر لاستعمال القنابل الحارقة. وقد أفزع ذلك جنديين من كتيبة زرزي فحاولا الهروب شمالا والالتحاق بمواقعنا، لكن أحدهما أصيب بشظية من إحدى القذائف في وجهه، فاقتطعت جزءا منه مع عينه اليسرى . سمعنا بعد ذلك أزيز جنزير من الناحية الشرقية حيث تبدو الجبهة هادئة، فإذا هي دبابة مموهة تتقدم نحونا عبر سرير الوادي الجاف، مدمرة في طريقها كل ما يعترضها من الشجيرات . كان بوعلام في أقرب موقع، لم نكن ندري ما حدث له . وفي تلك اللحظة الخطيرة أشار لخضر ( براهيمي ) إلى السلاح الخفيف الذي كان بين أيدينا قائلا : " ماذا يمكن أن نفعل بهذا؟ ! هل نخدش طلائها؟ ! " لكن المجاهد رامي " م . ج " تفطن للدبابة فأصلاها بزخّة طويلة جعلها تتوقف، لتترك موقعها بعد لحظات . استمر القصف حتى آخر النهار، وأعاد جند العدو أكثر من مرة محاولة الزحف علينا احتماء بالدبابات، لكننا كنا نصدهم تباعا ملحقين بهم خسائر أكيدة . غير أن الضغط بدأ ينخفض كلما اقتربت الشمس من الغروب فأصبح القصف أقل كثافة، ولم يتمكن المشاة في نهاية المطاف من اختراق صفوفنا أو تحطيم جهاز دفاعنا . وفجأة خيم صمت طويل على الميدان، فلا أثر للطائرات في الجو . ومع ذلك ظللنا نلازم مواقعنا في انتظار الظلام الدامس . عندئذ فقط يمكن أن نتركها . كان علينا أن نغادر الجبل، لكن يجب قبل ذلك التكفل بالقتلى والجرحى. فقد استشهد من وحدتنا أربعة وجرح أربعة كذلك، بينما استشهد من كتيبة زرزي خمسة وأصيب سبعة. أخفينا جثث شهدائنا بالأغصان، لأنه لم يكن أمامنا متسع من الوقت لحفر القبور، على أن نعود لذلك بعد انسحاب العدو . وسارعنا بمساعدة الممرضين في تقديم الإسعافات الأولية للجرحى، ثم صنعنا لنقلهم حمالات بدائية من الأغصان والبطانيات . قررنا أن نخرج من الميدان من جهة الشرق، وضعنا الجرحى في المؤخرة بعد أن تلقوا تعليمات صارمة ألا يئنوا أو يحدثوا أدنى صوت. تقدمنا بحذر تحت جنح الظلام، لكن محاولة الخروج الأولى فشلت فعدنا أدراجنا، قبل أن نتجه يمينا بعض الشيء للقيام بمحاولة ثانية. وأثناء المحاولة توفي المجاهد الجريح " عبد القادر عديلة " . مشينا بضع دقائق قبل أن ننتبه إلى وجود أشباح على يسارنا، عرفنا أنها لجنود من اللفيف المتميزين بقبعاتهم البيضاء، وكانوا منهمكين في حفر خنادق. توقفنا لحظة، شعروا بوجودنا. وفجأة سمعنا صوتا يخترق صمت الظلام قائلا: "ابعدوا عنا!". ويعني ذلك أن لا رغبة لهم في القتال ليلا، خشية الضياع في حال الاشتباك معنا . واصلنا تقدمنا بعد ذلك، لنرى عددا من الدبابات الرابضة على يميننا . لم يتفطن الجنود العاملون عليها لوجودنا، أو تظاهروا بتجاهلنا . وفي منتصف المشوار وجهنا رفقة فوج حراسة ذوي الجروح الخطيرة إلى عيادة مركز جبل " أسفاي " . وقطعنا في منتصف الليل طريق بوسعادة - الجلفة، عند نقطة كانت تشير إلى أن هذه البلدة تقع على بعد 60 كلم . كان جبل " اللّبة " هو محطتنا القادمة فواصلنا طريقه باتجاهه . في الغد قمنا باستعراض وقائع معركة جبل " الباطن " اعتمادا على شهادات الجميع، علما أن الجندي أثناء المعركة مأمور بملازمة موقعه، وبالتالي لا يمكنه الاطلاع على ما يجري بكامل الميدان . سجلنا العديد من القتلى في صفوف العدو، دون أن نتمكن من إحصائهم بدقة . كما سجلنا إصابة طائرة من نوع " ت 6 " ، لكنها لم تتحطم في الحين . عرفنا من استعراض الشهادات ما حدث لبوعلام، رامي الرشاش الثقيل "ف.م بران"، فبينما كان يصلي الخصم بسلاحه، أصابته قذيفة فرقت جسده إربا. وقد أرانا أحد الرفاق قطعة من صدريته الصوفية ذات اللون البني والتي التقطها من المكان، وكانت لباس الشهيد المفضل. أما " علي بويلبان " فقد حصده رشاش دبابة . وفقدت وحدتنا كذلك " عبد القادر قلال " المدعو طالب بوقايد ( الونشريس ) ، " أحمد " من مقطوعة ( برج الأمير خالد حاليا ) . وعلى مستوى كتيبة زرزي فقد أصيب رامي الرشاش الثقيل "ف. م" بقنبلة حارقة، حاول رفاقه سحبه وإطفاء الحريق بواسطة البطانيات، لكن بمجرد وأن عادوا إلى مواقعهم اشتعلت النار من جديد فلفظ أنفاسه بهذه الطريقة الشنيعة، رغم إسراع أحد رفاقه بإطفاء النار بنفس الوسيلة الأولى . وعلمنا من جهة أخرى أن مصلح الأسلحة "علي بن عريوة" (من أولاد بن عالية) حقق انجازا فرديا، فقد فضل البقاء في مخبأه بمركز الإيواء ولم يصعد مع الكتيبتين للتموقع في الجبل، ولم يكن معه من سلاح سوى "موزير" متهرئ . وأثناء المعركة اقترب من مخبأه ضابط فرنسي مرفوقا بجندي، ورمى بقنبلة يدوية داخله. لكن الانفجار لم يصبه. فلما هب أحدهما باقتحام المخبأ قتله علي وأخذ رشاشته من نوع "مات 49" (2)، فما كان من الثاني إلا أن هرب تاركا رشاشته وراءه. احتفظ علي بغنيمته تاركا بندقيته الرثة وتستر في مكان ما، إلى أن حل الليل فالتحق برفاقه مصحوبا بغنيمته الثمينة، وكانت الكتيبتان على أهبة الخروج من جبل " الباطن " . لم نمكث طويلا بمركز "اللبة"، ولا بالمركز الذي يليه "خناق العتروس"، عكس مركز "الزعفرانية" (مسعد) حيث أقمنا عدّة أيام. وأثناء توقفنا بجبل "اللبة" جاءنا زرزي ليعترف أمامنا بنوع من الاعتذار قائلا: "البزوز تاعكم ظهروا أبطال" (فتيانكم أظهروا بطولة في المعركة). يتبع ...... 1 بوعلام راطو من حي المحجرة ببلكور كان حارس مرمى فريق الشباب الرياضي ل "بلكور" سابقا الذي اندمج مع فريق آخر ليكون بعد الاستقلال فريق الشباب الرياضي لبلكور (بلوزداد حالي). التحق بجيش التحرير غداة إضراب 28 يناير 1957. كنا نداعبه بكناية بوعلام "الڤاطو". وهو من شباب العاصمة ومدن وسط البلاد الذين التحقوا بالولاية الرابعة، وذهبوا في صائفة 1957 حتى ناحية "الفقيق" على الحدود المغربية لجلب الأسلحة، أمثال السعيد بوراوي (بلكور)، محمد تونسي (المدنية)، حسن لحسن (الحراش)... 2 ولامه سليمان لكحل على أي حال لكونه لم يجلب معه حمالات المات 49 المسترجعة .