صورة ارشيف وحوش.. شياطين.. سحرة وقردة.. هذه بعض الأوصاف التي أطلقها الصهاينة على الجزائريين في ثاني مواجهة عسكرية معهم، إنها معركة الزيتية التي تخلى فيها المقاتلون العرب عن أسلحتهم الثقيلة، ليواجهوا بأجسادهم دبابات العدو ونخبة قواته. * * الجيش الجزائري يحاصر القوات الإسرائيلية * * قبل التعمق في البحث عما جرى في معركة »الزيتية« أو الثغرة الثانية، أتوقف للمرة الأخيرة مع المؤرخ »شفتاي تيبت« الذي يروي تفاصيل فرار شارون من القوات الجزائرية بعد هزيمته في »الأديبة«، تيبت أدلى بشهادته تلك أمام لجنة التحقيق »أجرنات«، فقال: أعترف أنني انسحبت من ميدان القتال في أشد اللحظات حرجا في تاريخ دولة »إسرائيل«.. لم تكن مبررات انسحابي بالهينة.. بل كنت أحاول أن أوصل صوتي من ميدان المعركة لقادتي في تل أبيب.. إنهم لا يرون ما أرى ولم يعايشوا ما عايشت.. لقد خدمت مع الجنرال شارون خمس سنوات فلم أر سوى شخص مجنون مصاب بعدة أمراض نفسية خطيرة.. ولم أره أكثر وضوحا إلا أثناء القتال.. إنه لا يفقه شيئا عن القيادة العسكرية.. في معركة الأديبة دفع زملائي حياتهم بسببه وسجل التاريخ هزيمة نكراء ل»إسرائيل« كنا في غنى عنها.. كدت بل كاد هو أيضا أن يفقد حياته بسبب سوء تصرفه وعجزه عن القيام بواجبه العسكري.. وحينما علمت أن القيادة كلفته من جديد بقيادة هجوم الزيتية أدركت أن ثمة خطأ ما حاصل في غرفة القيادة، وأنه لا سبيل لتصحيح الخطأ إلا بإعلان التذمر ليفتح ملف التحقيق قبل فوات الأوان.. في الواقع لم أكن أريد أن أسجل اسمي في قائمة صانعي هزائم »إسرائيل«، لكنني أيضا لم أكن أريد أن تسير »إسرائيل« إلى حتفها على يد شارون. * ويضيف تيبت: في طريق انسحابنا من الأديبة كان شارون ينزف بشدة من رأسه.. كان قد أصيب بجرح بالغ وعميق، وخلال رحلة العودة الشاقة عرفته على حقيقته.. لقد تحول القائد الشجاع الشرس المقدام إلى طفل وديع.. أخبرني أنه سيطلق الحياة العسكرية ولن يعود مطلقا للقتال، وأنه تعلم أشياء كثيرة في الأديبة، حتى أنه أثنى على العدو.. وطلب مني ومن الجنود الثلاثة الذين نجوا من المذبحة أن نزيف حقيقة ما جرى لنا في المعركة، أمرنا بلطف أن نتحدث عن آلاف من العرب ومئات الدبابات والصواريخ المتطورة، وأننا قاتلنا بشجاعة وشراسة لكن العدو كان أكثر عددا وعتادا، وأخبرنا أن ما جرى لنا نستحق عليه التكريم وليس العقاب، ظننت أنه على حق وامتثلنا لأوامره، لكنني اكتشفت من بعد أنه كان يهذي وأن إصابته أثرت على مخه.. فبمجرد وصولنا لمقر قيادة المنطقة الجنوبية حاول التغلب على إعيائه وهزيمته وأخذ يرفع رأسه بشموخ لا يجرؤ المنتصر الحقيقي عليه، ولم تمر ساعات حتى عرفت أنه كلف من جديد لمعاودة الهجوم على نفس الموقع الذي هزمنا فيه، وعندما واجهته بما قاله لي أثناء عودتنا من الأديبة هددني بالقضاء على مستقبلي العسكري أو قتلي إذا أخبرت أحدا بما جرى.. لكنني كنت أشجع من تهديداته.. اعترفت بالحقيقة للجنرال »جونين« لكنه هو الآخر كان قد استقال، ليحل محله الجنرال »حاييم بارليف« الذي كان متعاطفا مع شارون في جنونه وغبائه ونفاقه. * * القتل والذبح على يد »شياطين« الظلام * * المؤلفان الصهيونيان »رونين برغمان« و»جيل مالتسر«، يكشفان في كتاب يحمل اسم »حرب يوم الغفران، اللحظة الحقيقية« عن وثائق سرية من أرشيف هيئة الأركان العامة والحكومة الصهيونية تفضح جزءاً مما حدث في معركة »الزيتية«، وفي الفصل الثالث من هذا الكتاب وتحت عنوان »الزيتية.. بئر الموت« يستهل الكاتبان بالقول: اعترافات الجنود والضباط الناجين من معركة الزيتية أمام لجنة الاستماع تكشف عن ارتكاب القادة العسكريين الإسرائيليين وكذلك القيادة السياسية لجملة من الأخطاء القاتلة، أدت في النهاية للهزيمة.. لقد اختصر القادة أهدافهم وخططهم العسكرية على إحداث فجوة في الجيش المصري، لم يكن هدفها الالتفاف على القوات المهاجمة بقدر إحداث ضجة إعلامية، تقلل من وقع الهزيمة عند الرأي العام الإسرائيلي، فمن الجانب العملي كانت هذه الخطة غير قابلة للتطبيق نظرا لتفوق العدو العسكري بدءا من اليوم الرابع للحرب، وتماسك خطوطه القتالية وتحكمه في زمام الأمور.. وقراءته الصائبة لرد الفعل الإسرائيلي. * ويضيف الكاتبان: نتيجة معركة الزيتية تمثل أكبر فشل تعرض له الجيش الإسرائيلي، لكن المؤسف أن صانعي القرار في »إسرائيل« لم يكتفوا بإخفاء ما حدث فيها، بل قدموها للشعب على أنها واحدة من إنجازات حرب الغفران، وربما استندوا في رأيهم هذا إلى عودة قرابة الخمسين في المئة من قواتنا سالمة، وهو ما لم يحدث في معركة الأديبة التي سبقتها بيوم واحد بنسبة خسائر مئة في المئة، هكذا إذن بلغ الطموح العسكري الإسرائيلي في القتال مع العرب.. التغني بالنجاة والتهليل للتقهقر والفرح لوقف إطلاق النار، وبالاطلاع على شهادات المشاركين في معركة الزيتية أمام لجنة الاستماع يتضح أن »إسرائيل« لم تنهزم فقط عسكريا، بل انكسرت انكسارا لا تكفي السنون لإصلاحه. * ويواصل الكاتبان قائلين: أحد الجنود المشاركين في هجوم الزيتية الفاشل يقول: لم نكن نحارب بشرا بل شياطين تظهر وتختفي.. قذائفنا لا تصل إليهم ونيرانهم تحرق كل شيء. * جندي آخر يقول: لم تكن هناك جبال ولا أحراش ولا حتى أحجار يختفون وراءها.. لم تكن هناك سوى الصحراء والرمال.. حتى السماء كانت صافية ومبشرة بالنصر.. لم نر عدونا لكنه كان يرانا بوضوح.. يراقب تحركاتنا في صمت حتى أطبق علينا.. ظننت أن النيران تطلق علينا من السماء، أو من المدفعية بعيدة المدى.. تخبطنا وارتبكت صفوفنا.. ولم يكن لدينا الوقت الكافي لإعادة تنظيمها.. وفجأة وجدناهم في كل مكان.. يقفزون كالقردة لا تسترهم سوى سحب الدخان المتصاعد من آلياتنا، فوجدناهم فوق أسطح دباباتنا.. وفوق أعناقنا.. يطعنون ويذبحون بلا رحمة.. لقد كانوا متوحشين فوق الوصف.. وملامحهم مخيفة تزرع الرعب في القلب.. وحتى الآن لا أعرف من أين هبطوا لنا.. لا تفسير لديّ حتى الآن. * ويعلق الكاتبان: هذا جزء من شهادات عشرات الجنود الذين شاركوا في معركة الزيتية، وهذه الشهادات ليست أحسن حالاً من شهادات قادتهم في المعركة، فقد اخترقت الهزيمة قلوب الإسرائيليين وتركت جرحا غائرا في العقيدة القتالية للجيش الذي لا يقهر. * * الصاعقة تحرق دبابات العدو * * ويواصل الكاتبان في مؤلفهما الهام سرد اعترافات القادة الصهاينة في معركة الزيتية فيقولان: يقول الملازم أول »حنان تسائيف«: في مساء يوم التاسع من أكتوبر وبعد فقدان جيش المنطقة الجنوبية لعدد كبير من آلياته وجنوده في معركة الأديبة، بدأت عملية الدعم العسكري للقوات الجنوبية، وشمل الدعم لواء جولاني بكامل تجهيزاته، وكتيبتي مشاه ميكانيكا، ولواءين مدرعين أحدهما أمريكي، والآخر تم تجميعه من فلول قوات المنطقة الوسطى بسيناء، وكانت الدلائل تشير إلى أننا مقبلين على عملية كبيرة، فصدرت الأوامر في فجر العاشر من أكتوبر للاستعداد لتلقي الأوامر، وفي الثامنة صباحا تحركت كل القوات بقيادة الجنرال شارون باتجاه ميناء الزيتية، استغرق المسير قرابة الساعتين، وقبيل الزيتية بحوالي 12 كيلومترا اندلعت المعركة بشكل مفاجئ، حيث باغتتنا القوات الخاصة للعدو بطريقة لم نتوقعها أبدا، فالطريق كان سالكا والمنطقة مكشوفة من كل الجهات، ولم تكن هناك أية إشارة توحي بالخطر، لكن هذه القوات قامت بالاختفاء في حفر برميلية على شكل مربع ناقص ضلع، وما أن ولجت قواتنا فيه، حتى خرجوا من جحورهم ليقذفوا آلياتنا بمئات القذائف المضادة للدروع وصواريخ »ماليتيكا«، استمر القصف الصاروخي قرابة الساعة وكنا نرد على مواقع إطلاق الصواريخ لكن الغلبة كانت لهم، فتراجعت الدبابات بعدما تمكن جنود العدو من اختراق صفوفنا ومهاجمتنا عن قرب، لقد كانوا يتسلقون الدبابات ويفتحون أغطيتها العلوية ليفجروا أطقمها بالقنابل اليدوية، حتى أن بعض الدبابات وسط هذه الفوضى أطلقت النيران على بعضها البعض، فوقعت خسائر كبيرة، إضافة إلى أن قوات المشاة وجولاني كانت عاجزة عن التعامل مع العدو في ظل هذا الارتباك، فصدرت الأوامر بالانسحاب لإفساح المجال للقتال الفردي بين قواتنا وقوات العدو، في الوقت الذي اتصلنا بالقيادة نطلب الدعم الجوي. * ويضيف الكاتبان على لسان »تسائيف«: »لم تستجب القيادة لطلبنا وتركتنا نواجه مصيرنا بدم بارد«. * * اشتباك بالأيدي والسلاح الأبيض * * ويورد الكاتبان شهادة أخرى لأحد ضباط قوات »جولاني« نخبة الجيش الصهيوني ، وللإشارة فإنه يهودي من أصل مغاربي، وهو المقدم »فايز كوكبي«، الذي يقول: للأسف تأهلنا في معاهدنا العسكرية على نظريات خاطئة دفعنا ثمنها في الزيتية، لقد أوهمنا قادتنا وأساتذتنا أن عدونا ضعيف وجبان ولا يجرؤ على مواجهتنا بشكل مباشر، لكنني اكتشفت في الزيتية مدى همجية ووحشية هذا العدو.. لقد كانوا دمويين لأبعد مدى.. كانوا يجتزون رؤوس الجنود ويتسابقون للالتحام بنا، لكنهم كانوا على درجة عالية من الكفاءة والتدريب، وكانوا يمتلكون مهارات عالية في مجال القتال الفردي، يجيدون استخدام السلاح الأبيض والاشتباك، وأيضا كانت لياقتهم البدنية عالية، وكان واضحا أن قادتهم لقنوهم أساليب كسر العنق والعمود الفقري، مما يدل على أنهم نالوا قسطا من التدريب على الرياضات القتالية، وكل تلك الأشياء لم تتوافر في معاهدنا ولم نتدرب عليها، وهنا برزت أخطاء المؤسسة العسكرية الإسرائيلية وظهر التفوق الحقيقي للعرب.. إن معركة الزيتية وبكل ما تحمله من ذكريات مؤلمة يجب أن تكون درسا لتصحيح أخطائنا، فالعدو يحسب لكل شيء حسابه، ويبتكر في أساليب القتال، في حين أننا لازلنا نهندس خططنا على الهجمات الخاطفة والتفوق التكنولوجي العسكري، وقد أثبتت حرب يوم كيبور أننا لم نكن نمتلك سوى السلاح، أما العدو فقد نجح في توظيف عقله وجسده ثم سلاحه. * * السحر الأسود و»خبث« العرب * * لاشك أن كتاب »حرب يوم الغفران، اللحظة الحقيقية«، يكشف بعض جوانب معركة الزيتية، لكن مذكرات »أهارون ياريف«، مدير جهاز الاستخبارات العسكرية الصهيونية الأسبق، تكشف تفاصيل أكثر دقة حول هذه المعركة. * »ياريف« يقول: حرب الغفران تكشف بجلاء عن خبث وخداع العرب، إنهم كالحرباء المتلونة، لم نتمكن من قراءة نواياهم قبيل الحرب وأثناءها، وفشلنا في ترجمة خططهم القتالية وبعد سرده لعدة مواقع يدلل فيها على »خبث« العرب على حد وصفه يصل ياريف لمعركة الزيتية، فيقول : لقد نجحت مخابرات العدو في كشف خطتنا، وبسرعة فائقة استعدوا لإفشالها، كانت أعداد دباباتنا وجنودنا تفوق عددهم وعتادهم، فشرعوا في تحصين الميناء وحركوا الكتائب المدرعة الجزائرية من الأديبة للزيتية، ووصلتني إشارة عاجلة تفيد بأن العدو يعلن حالة التأهب العسكري في الميناء، وفي تلك اللحظات أدركت أن العدو يعرف وجهتنا وأن الأديبة غير محصنة بالمرة، فأرسلت للقيادة إشارة أبلغهم فيها بحقيقة الموقف مرفقة باقتراح معاودة مهاجمة الأديبة، فعدلت القيادة على وجه السرعة الخطة، وقررت مهاجمة الزيتية والأديبة معا، على أن ينشطر جزء من القوات عند »مفرق عتاقة« على بعد 12 كيلومترا من الميناءين ويتجه للسيطرة على الأديبة ثم يلتف من الخلف على الزيتية لدعم القوات الرئيسية وتطهيرها والاستيلاء عليها، وهنا أتذكر يقول ياريف الجنرال »حاييم بارليف« الذي خلف الجنرال »جونين« في قيادة المنطقة الجنوبية، أتذكر ضحكته العالية التي لاتزال تتردد في أذني ومقولته »لقد ابتلع العرب الأغبياء الطعم«، هكذا وتحت مظلة هذه المعلومات تحركت قواتنا، وانتظرنا بفارغ الصبر والثقة أول الأنباء عن سقوط الميناءين، لكن طال الانتظار ولم يصل هذا الخبر، بل وصلتنا أنباء السوء التي لم نكن نسمع سواها في تلك الأيام العجاف. * * إسرائيل تركع للجزائريين لإطلاق سراح الأسرى * * ويواصل ياريف قائلا: اكتشفنا أن العدو وضع خطة مغايرة، فقد أدرك مسبقا أن تحصين ميناء الزيتية وإمداده لن تحول دون سقوطه في يدنا، لقد اخترقوا عقولنا بطريقة لا تفسير لها سوى انهم استخدموا نوعا من السحر الأسود فسخروا شياطينهم لتخبرهم بكل كبيرة وصغيرة، وحتى لو كان هذا الاحتمال صحيحا، فكيف تمكنوا من نقل قواتهم بسرعة وسرية إلى موقع المعركة؟ يتساءل ياريف ثم يقول: لقد نقل العدو قواته الخاصة وكانت مشكلة من الكتيبتين 145 صاعقة مصرية وكتيبة صاعقة جزائرية إلى مفرق عتاقة، وهي نفس النقطة التي قررنا استخدامها لقسم القوات المتجهة للأديبة والزيتية، وعوضا عن تدعيم هذه القوات بالآليات والدبابات، قام بتزويدها بعدد كبير من مضادات الدروع والصواريخ والرشاشات الثقيلة، وأمر هذه القوات بحفر الأرض والاختباء بها، نظرا لأن المنطقة مكشوفة، وهو ما أوحى لقواتنا التحرك باطمئنان، وبهذا أنقذ العدو آلياته من دمار محقق في معركة محسومة لنا سلفا، وأمن الميناءين المستهدفين، لكن ما يثير الدهشة أن قيادة العدو وضعت جميع أوراقها في تلك الحفر، فبالنسبة لي وللقيادات الإسرائيلية عموما لا يمكن أن نعتمد على مثل هكذا خطة لمواجهة عملية بهذا الحجم، لكن ثقة العدو في قواته الخاصة والأسلوب الذي استحدثه في القتال جعلته يقدم على هذه الخطوة دون تردد، فقد نشر الكتيبة الجزائرية في الخطوط الأمامية لتضرب قواتنا من الخلف، ونشر الكتيبتين المصريتين في القلب والميمنة والميسرة، فوقعت عملية التطويق الخطيرة. * وقدر لخطة العدو أن تنجح، لتصبح صفحة سوداء في تاريخ العسكرية الإسرائيلية، فلم يسبق أن خسرنا قرابة اللواءين مدرعين ومئات القتلى و300 أسير في معركة واحدة، كما لم يسبق للعرب النجاح في التنسيق القتالي لهذا الحد، وبلغت الخسائر الحد الذي ركعت فيه »إسرائيل« وامتثلت لأوامر العرب، ففي مفاوضات تبادل الأسرى، كان هناك 80 أسيرا إسرائيليا لدى القوات الجزائرية، ورفضت القيادات الجزائرية تسليمهم، بالنظر إلى أننا ليس لدينا أسرى منهم، وبعد مفاوضات استمرت ليومين أصر الجزائريون على مقايضة الأسير بعشرة أسرى على نفس الرتبة العسكرية، فلم يكن أمامنا خيار آخر. * يتبع... * * * تقرأون في الحلقة القادمة * الصهاينة يهربون للأبد من قتال الجزائريين * بشهادة العدو.. تفاصيل عملية الثغرة * تفاصيل معارك السويس والإسماعيلية والمزرعة الصينية