الجزء الرابع والأخير وكانت معركة "الزمرة" آخر جولة " للكومندو" جمال مع فلول "الحركة الوطنية" بالولاية السادسة، كان جبل مناعة أول محطتنا في طريق العودة، وكنا في طريق الذهاب قد توقفنا به عدة أيام، ومنه اتجهنا إلى جبل "قعيقع" حيث مكثنا ثلاثة أو أربعة أيام، وفي 30 يوليو غادرناه باتجاه جبل حد الصحاري، حيث كانت لنا أول مواجهة مع فلول بلونيس في طريق الذهاب دائما، ويقتضي الوصول إليه عبور شطّ "زحرز الشرقي" ثانية، لكن بدون دليل هذه المرة. نتواجد في جنوبي المكان الذي اتبعناه ذهابا، ولحسن الحظ أن بعض عناصرنا تتمتع بذاكرة قوية، فتمكنت من تحديد المسلك السابق ويسر لنا قطع الشط بسلام عبر الشريط الضيق من اليابسة. * وكنا نتوجس من الشوط القادم الذي يقودنا إلى كاف "أفول"، لأنه يجبرنا على قطع مسافة طويلة عبر الأرض المنبسطة العارية المتمثلة في ناحية القطفة، فقد كانت في الذهاب شتاء طويلة وشاقة. * وجدنا في طريقنا بالقرب من حد الصحاري مخيما للبدو، تزودنا لديهم بالماء والكسرة واللّبن، وكنا نعتزم استئناف سيرنا قبل الغروب لربح ساعتين أو ثلاث، لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السّفن، فقد رأينا قبيل حلول الظلام بعيدا أمامنا قافلة طويلة من الشاحنات قادمة من الغرب باتجاه الشرق، وما لبثت القافلة أن توقفت مشكلة جبهة واسعة في الأفق يصعب تجاوزها، ترى ما العمل؟ وما المقصود بحركة العدو هذه؟ هل تم اكتشاف "الكومندو" أو تعرض لوشاية، وها هو الجيش الفرنسي يبحث عنه لقطع طريق العودة عليه؟ * كان تقديرنا أنه من الخطر البقاء بحد الصحاري، وأن علينا أن نلتحق بكاف أفلول بدون دليل إذا اقتضى الأمر، قررنا أن نصبر قليلا مع مواصلة مراقبة الأفق وفحصه. * بلغنا أن شيخا بدويا يتطوّع ليكون دليلنا فذهبنا إلى خيمته، فأخبرنا أنه عائد لتوّه من زيارة ابنته المتزوجة بناحية مستغانم، وأنه قابل بمنزلها جنودا من جيش التحرير يعتقد أنهم محافظون سياسيون، وبفضل ذلك أصبح بمقدوره أن يميز جيش التحرير، وأنه مقتنع بأننا ننتمي إليه، وطمأننا بالمناسبة أنه يعرف المنطقة جيدا وأكثر من ذلك أنه يعرف الطريق حتى تابلاط، * وأخيرا عبّر عن استعداده لمرافقتنا شريطة أن يصطحب حماره، لأنه نظرا لسنّه لم يعد يتحمل المشي طوال الليل، وافقنا طبعا، وكانت مفاجأتنا كبيرة لأن حماره أبيض تقريبا، ولا يبدو ذلك مرغوبا من أناس يهمهم قبل كل شيء ألا يلفتوا في مرورهم انتباه أحد!. * انطلقنا بمجرد حلول الليل لاجتياز المرحلة الطويلة التي تنتظرنا، وكانت القافلة ما تزال رابضة في طريقنا، سبقنا الشيخ الدليل على ظهر حماره النشط السريع، وقد اتفقنا على السير خطا أفقيا بدل التتابع واحدا واحدا، وأن يكون السير سريعا مدة 30 إلى 40 دقيقة، على أن نستريح من 5 إلى 10 دقائق، قبل الاستئناف على نفس الوتيرة، كان هدفنا أن نجتاز البسيطة الجرداء التي تفصلنا عن كاف أفول، وعملا بنصيحة الدليل كان علينا أن نتحاشى طريق اليمين حتى نتجنب العدو، وكان ذلك يعني أن نمدد أكثر في طريقنا. * استطعنا رغم كل ذلك أن نحافظ على إيقاع سيرنا طوال الليل، وكنا نعتقد بعد الساعات الطويلة أن كاف أفول الماثل أمامنا ككتلة ضخمة أصبح في متناولنا، لكن ذلك كان مجرد سراب، بعد أن داهمنا الصباح والجبل ما يزال بعيدا، * لقد أصبحنا في أرض جرداء لا أثر للنبات فيها، أرض رتيبة متشابهة على مد البصر، لم يكن أمامنا من اختيار غير مواصلة السير، وفجأة كانت المعجزة! لقد رأينا مجموعة من السكنات على يميننا فاتجهنا إليها، كانت خالية ومنذ أمد طويل على ما يبدو، كانت عبارة عن جدران من الطوب لا غير، بلا سقوف ولا أبواب، سارعت عناصر "الكومندو" ومع ذلك بدخولها واحتلال جميع "غرفها"، كان الجنود مرهقين فنصحناهم بالتزام الصمت والنوم، * جلست للقيام بالحراسة رفقة دليلنا في زاوية ربما كان في ساحة خارجية، هجرنا النوم تاركا أمرنا لقلق خانق، كان يلفنا صمت ثقيل، ومع ذلك كنا نتوجس ألا يدوم، وأن طارئا ما قد يبدده، كم يمكن أن نصمد يا ترى لو تمكن العدو من اكتشافنا في هذا المكان الخالي والموحش؟ * وشيئا فشيئا عادت بنا الذاكرة إلى حدث رهيب، ففي صائفة 1957 بهذا المكان أو قريبا منه دمّرت كتيبة النقيب "عمر الروجي" عن آخرها، لا يمكن أن نمحو من ذاكرتنا هذه الذكرى المأساوية، لذا كانت قافلة العدو التي كانت أمامنا تثير مخاوفنا لأننا لم نكن نعرف عنها شيئا، وكان ذلك يثير فينا العديد من التساؤلات المزعجة، هل تحركت القافلة مساء؟ وهل كانت لها مهمة أخرى لا تعنينا نحن؟1 * كانت الصبيحة طويلة، وفي الظهيرة جاءني سي أمحمد2 قائد الفصيلة ليخبرني بأن الجنود عطشى، بعد أن نفذ زادهم من الماء، فما كان عليّ إلا أن ذهبت رفقة الدليل للبحث عن مصدر للماء، مشينا نحو نصف ساعة اعتمادا على الدليل ومعرفته بهذا الوسط القاحل، وفجأة رأينا أمامنا بعض الأعشاب الخضراء، فلما اقتربنا وجدنا في الشعبة بقعة صغيرة من الماء الصافي، شربت جرعة لألاحظ بنوع من الخيبة أن الماء مالح، عدنا إلى الملجإ دون أن نذكر شيئا عن فشل مسعانا، وبعد لحظات أعاد سي امحمد الكرّة فأخبرته بحقيقة الأمر، قام مع ذلك بتعيين عدد من الجنود لملء حوالي 10 بطاط، وها نحن بعد قليل نفاجئ الجنود وهم يجتهدون للتخفيف من الملوحة بإذابة قليل من السكر بعد طحنه. * استأنفت السير قبل حلول الليل، وبعد 3 ساعات وصلنا دشرة عند سفح كاف أفول قضينا بها بقية ليلتنا، ومع الفجر شرعنا في تسلق الجبل لاحتلال قمته، مكثنا هناك يومين لاسترجاع أنفاسنا، وقد حرص مسئول الناحية سي بو بكر3 على توفير حاجاتنا، * وبعد هذه الاستراحة المفيدة كان علينا أن نعبر المنطقة الأولى من الولاية السادسة، ثم المنطقة الأولى من الولاية الرابعة للالتحاق بالمنطقة الثانية، قبل أن تطأ أقدامنا نقطة انطلاقنا بالمنطقة الثالثة، كنا أحيانا نضطر إلى تغيير مخطط سيرنا تجنبا لعملية تمشيط جارية، مع الحرص الدائم على كتمان سر طريقنا ووجهتنا، أحيانا نتعمد للضرورة إشاعة أخبار كاذبة عن محطاتنا اللاحقة من باب الحذر المفهوم. * وينبغي أن نشير في هذا الصدد بأن السكان لم يخذلونا قط، بل كنا نلقى في كل قرية و"دشرة" أو دوار استقبالا مشجعا وكرما محفزا. * التحقنا بناحية المدية في المنطقة الثانية بعد عدّة ليالي من السير، وبعد إنذار حار بالقرب من "شامبلان" (العمارية) حيث اجتنبنا الاشتباك مع العدو، وجدنا أنفسنا مرة أخرى وسط طبيعة وأماكن مألوفة لدينا، بحكم أننا أقمنا بها مرات عديدة، ونظرا لمعرفتنا بالأرض، فقد زال عنا التوتر بعض الشيء، * أثناء مرورنا بالمنطقة الثانية التقينا على حدة ضباطا ومسؤولي المنطقة: محمد بوسماحة الذي كان شقيقه يحيى واحدامن عناصر وحدتنا، قبل تعيينه بالمنطقة الرابعة مسؤولا على الناحية الأولى (مليانة)، كما التقينا الحاج الأزهري (من الأغواط) ولخضر بورقعة، هذا الأخير ما يزال يتذكر حالة التعب والإملاق التي كان عليها جنود "الكومندو"، وقد تلقينا كل العون من إخواننا خلال عبورنا بهذه المنطقة. * لكن للأسف فإن الشعور بالراحة الذي غمرنا عند وصولنا بمنطقة المدية لم يدم طويلا، إذ عشنا حادثا خطيرا، فبينما كان الجنود ينظفون أسلحتهم أسقط لخضر غفلة قنبلة، فانفجرت وأودت بحياة جعفر وأصابت كلا من لخضر وعزالدين 4 بجروح، حدث ذلك عندما كنا قبالة قرية ريغة (سي المحجوب)، * هذا الحادث المؤسف أجبرنا على مغادرة المكان حينها، باتجاه "جبل اللّوح" قبل العودة إلى منطقتنا، أي المنطقة الثالثة من الولاية الرابعة، وبعد أن قطعنا الطريق الوطني الرابط بين خميس مليانة وثنية الحد وتجاوزنا "مطماطة"، توقفنا باحدى القمم ناحية "سيدي سعيد"، كان الليل ما يزال مخيما. * وقبل أن نكمل تموقع الكتيبة لاحظ أحد الحراس حركة مشبوهة، فأنذر مناد 5 قائد فصيلته الذي سارع لاستطلاع الأمر، لكن بمجرد أن وصل إحدى الروابي حصدته زخة رشاشة، فسارعنا بالانسحاب مضطرين تجنّبا للاشتباك وخسائر أخرى. * كان "الكومندو" طيلة مهمته بالولاية السادسة قد ضحى ب12 من رجاله، من بينهم ثلاثة من قادة الفصائل، وأصيب 10 آخرون بجروح، وبقي ذوي الإصابات الخطيرة منهم في رعاية إخواننا بالولاية السادسة، * كنا نحسّ بأن نهارنا سيكون صعبا، علما أن أسوأ موقف هو أن نكتشف منذ الصباح الباكر، لأن العدو حينئذ يتوفر على الوقت الكافي لتعبئة جميع وسائله البرية والجوية للعثور علينا، ومع الاحتكاك الأول يحرك مشاته وطيرانه ومروحياته ليلحق بنا أفدح الخسائر. * تبادلت المشورة مع عبد القادر بوزار، قائد فصيلة، واتفقنا على تجنب الاحتماء بغابة سيدي منصور القريبة جدا، لقد تعود جنود جيش التحرير أن يجدوا فيها ملاذا طبيعيا عند أي تمشيط أو عملية عسكرية للعدو، لذا كنا نتوقع من القوات المتربصة بنا أن يذهب تفكير قادتها منذ الوهلة الأولى إليها، فتخطط لحصارنا ومهاجمتنا فيها. * وبناء على هذا الافتراض اخترنا التموقع غير بعيد عن مكاننا الأول، في قمة قليلة الأشجار على نفس الخط مع قمة سيدي السعيد، وتحركنا إلى الموقع الجديد تحت جنح الظلام، شاعرين تماما بخطورة هذا الاختيار، وقد أمرنا جنودنا بالتزام السكون وتمويه أسلحتهم، وكل ما يمكن أن يلمع تحت الضوء أو أشعة الشمس. * وفعلا بمجرد طلوع النهار رأينا قافلة ضخمة تتجه نحو سيدي منصور، وتتوقف عند طرف الغابة، ليسارع الجنود بالنزول والانتشار كل في موقعه، * وبعد أقل من ساعة أخذت الطائرات تطلق قذائفها، ليستمر القصف أكثر من 30 دقيقة، تمهيدا لدخول الجنود إليها، وما لبث القصف أن استهدف عمق هذا المرتفع المكسو بالغابات، ما يسمح للعساكر الفرنسيين بالزحف لتمشيطه بكل تأكيد. * استمر القصف المكثف ساعات، بتوجيه من الطائرات" البياعة" التي كانت تحلق فوق الغابة على ارتفاع منخفض. * كنا نتابع من موقعنا سير العملية الجارية بغابة سيدي منصور أمام عيوننا دون كبير اطمئنان مع ذلك، من يدري؟ وماذا لو تفطن العدو إلى أن الوحدة التي جاء يبحث عنها ليست في الغابة المستهدفة منذ الصباح وقرّر أن يتحرك في اتجاه آخر! * غير أن الطائرات اضطرّت إلى وقف غاراتها قبيل الغروب، تاركة الطائرات "البياعة" تواصل مهمتها، وحذا حذوها المشاة فعادوا إلى شاحناتهم عند طرف الغابة مغادرين إلى مخيمهم. * وهكذا ينتهي النهار دون أن يتفطن العدو إلى وجودها، ولم يبق أمامنا سوى انتظار حلول الليل لمواصلة مشوارنا، وبينما كنا نتأهب لترك موقعنا التحق بنا محمد تونسي6 معلقا:"هل تدرون!؟ لقد قمنا بانسحاب مثالي!"، ثم أضاف جادا واثق اللهجة: "لقد انسحبنا عبر زاوية ميتة!" * لقد حظي محمد تونسي لاحقا بشرف الشهادة، وكان ضمن رحيل الأبطال الذين قدموا أنفسهم فداء للوطن. * غادرنا موقعنا بدون انتظار باتجاه البطحية والونشريس. * هذه شهادتي وهي عبارة عن وقفة قصيرة لتذكر بعض الأمجاد الحربية، شهادة أريد بها أداء واجب تخليد ذكرى رفاق ودّعونا، وتحية القلّة القليلة التي ما تزال على قيد الحياة، أمد الله في عمرها، لقد أدوا جميعا واجبهم بشجاعة وبطولة، وللشهداء فضل التضحية القصوى، مقاتلين حيث الكفاح يناشدهم، * وقد سقوا بدمائهم الزكية الونشريس والظهرة وزكار والأطلس البليدي والتيتري والهضاب العليا والأطلس الصحراوي، لقد كانوا في عمر الأزهار. * * عمر رمضان * * 1 علمنا بعد ذلك أن القافلة كانت تستعد لمحاصرة وتفتيش السوق الأسبوعية لبلدة حد الصحاري. * 2 هو أحمد زيان من أزفون، مهاجر بفرنسا التحق بالولاية الرابعة، وكان ضمن الدورية التي ذهبت إلى الفقيق لجلب السلاح ( بنادق "موزر" خاصة) في صائفة1957، التحق ب "الكومندو" في خريف نفس السنة. * 3 هو حسان بوبكر من الجلفة. * 4 هو عز الدين الباي من مازونة، فرّ من الجيش الفرنسي سنة 1958 بسيدي عكاشة مصحوبا برشاش ثقيل "ف م بار"، استشهد بالونشريس في 24 سبتمبر 1960. * 5 هو محمد قادة من أولاد فارس (الشلف). * 6 تونسي هو شباب من المدنية من شارع شقائق النعمان (بوقرعون) كما يحلو له أن يدقق، كان من فدائيي فوج عمر حمادي (الذي ذهب ضحية الإرهاب في بوفريزي بالعاصمة)، التحق ب "كومندو" جمال في خريف1957، إثر عودته مع دورية التسليح التي ذهبت إلى الفقيق في صائفة نفس السنة.