العقيد عميروش يدور الجدل منذ أكثر من شهر حول ظروف وملابسات استشهاد العقيد عميروش والحواس بجبل ثامر، بعد صدور كتاب سعيد سعدي »عميروش: حياة وميتتان". لكن الغريب في هذا النقاش ابتعاده عن شهادات الأطراف الأقرب الى الواقعة، سواء من طرف جيش التحرير أو شهادات الضباط الفرنسيين الذين عايشوا وشاركوا في المعركة، وبالتالي تحول النقاش إلى تصفية حسابات قديمة ومتجددة بين زمر سياسية، يغلب عليها طابع الجهوية، والضغائن المترسّبة بينها إبان الثورة، وبعد الاستقلال. * - التواجد الفرنسي المكثف لم يكن بهدف القضاء على الفقيدين ومن معهم بل بالأساس محاربة تواجد جيش التحرير بالسادسة * * أثناء الطريق اكتشفت القوات الفرنسية تواجد جنود في قمة جبل ثامر، فعدلت عن طريقها لتشتبك مع العقيدين ومرافقيهما من دون أن تدري بأن العقيدين متواجدين بين الجنود. * * يفنّد الرائد عمر صخرى فرضية الوشاية بالراديو تفنيدا قاطعا لأنه لم يستعمل جهاز الاتصال خلال تلك الفترة ولأنه لا يوجد مع هؤلاء أي جهاز اتصال. * * * لم يصدق دوكاس وتوماس وجود عميروش، فاستقدما أحد أقارب عميروش للتأكد منه قبل إبلاغ السلطات بالعاصمة والإعلان رسميا عن استشهادهما. * * بعيدا عن هذا الجدل الذي يسيّس التاريخ، ارتأينا أن ننقل شهادات عن قادة الجبهة في الميدان، أي من تراب الولاية السادسة، حيث موقع المعركة التي استشهد فيها الفقيدان، ومن أبرز الشهود الرائد عمر صخري، وعن الجانب الفرنسي شهادة النقيب »جان قرازياني" قائد الكتيبة الرابعة لفيلق المظليين بقيادة العقيد دوكاس وكلاهما شارك في معركة جبل ثامر من موقعه، فالرائد عمر صخري يقول: وصل العقيد عميروش ليلة 25 مارس إلى تخوم الولاية السادسة، وكان في لقائه العقيد الحواس في المكان المسمى »مهشم شحمية" قرب أمدوكال، بعدها تنقل العقيدان إلى المكان المسمى »قلب العرعار" بجبل الميمونة حيث يتواجد محمد شعباني، وكان في نية الفقيدين التوجه إلى تونس، وفي هاته الأثناء وصلت أنباء من وادي عبدي ببسكرة إلى الحواس تفيد بأن قوات العدو على علم بنية توجههما إلى تونس، وفي ذلك قد حشدت قوات كبيرة عبر المسلك. * حينها قرر الحواس تغيير المسلك إلى طريق آمن عبر الصحراء، والدخول إلى تونس من منطقة الجنوب مرورا بورقلة، وهو المسلك الذي سبق للحواس أن سلكه حين توجه إلى تونس قبلها. ويضيف المتحدث، في هاته الأثناء بأن الحواس قام بتقسيم الجيش إلى ثلاثة أفواج: فوج مكون من 140 جندي يتوجه نحو جبل ثامر حيث ستكون محطة للعقيدين قبل استئناف الطريق، وفوج يبقى في جبل الميمونة وفوج ثالث يضم العقيدين وأغلبه من الكتاب والإطارات، وتعداده 40 فردا. * وكان من المفروض أن لا ينطلق العقيدان ومن معهم ليلة 28 مارس إلى جبل ثامر، لأنه قبل هذا التاريخ أرسل الحواس مرسولا إلى المتحدث عمر صخرى الذي كان في جبل مساعد، ويقع تحت مسؤوليته منطقة جبل ثامر، وكان طلب منه الحضور إلى »قلب العرعار" حيث العقيدان ليرافقهما إلى جبل ثامر بحكم معرفته للمسالك والمخابئ، لكن لما وصل إلى قلب العرعار علم بأن العقيدين قد سافرا، وبأن المعركة التي كانت تدور رحاها في ذلك اليوم تقع بجبل ثامر. * وعن أسباب هذا الاختلاف في الموعد، يرى صخرى بأن قوات فرنسية قبل ذلك اليوم خرجت بتعداد ضخم متوجهة نحو جبل »الميمومة"، حسب اعتقاد الحواس، وبأنه سيشتبك معهم لا محالة، ولذا رأى بأنه من الواجب تأمين سلامة ضيوفه، فأسرع بالتنقل إلى جبل ثامر المتواجد على بعد ما يقارب 40كلم، وهي المسافة التي من المفروض قطعها في ثلاثة أيام، لكن العقيدين قطعاها في ليلة واحدة على ظهور البغال، وتجاوزا بذلك فرقة الحماية المشكلة من 140 فردا، والتي كانت في ليلة المعركة قد طوت ثلثي المسافة. * وحول اكتشاف مكان العقيدين، يرى المتحدث بأن الصدفة والقضاء والقدر كانا أسبق من أية حسابات، لكون القوات الفرنسية التي خاضت المعركة كانت متجهة نحو منطقة قرون الكبش، حيث توجد كتيبة حشاني الشيخ والمرور إلى هاته المنطقة يتم حتما بمحاذاة جبل ثامر، وأثناء الطريق اكتشفت القوات الفرنسية تواجد جنود في قمة جبل ثامر، فعدلت عن طريقها لتشتبك مع العقيدين ومرافقيهما من دون أن تدري بأن العقيدين متواجدين بين الجنود، ولم تعلم بذلك إلا حينما أسرت أحد كتاب عميروش الذي أقرّ بتواجد العقيدين في المعركة، مما جعل القوات الفرنسية تعزز تواجدها ليصل إلى 2500 جندي، فضلا عن الطائرات والدبابات، وتقضي على جميع المجاهدين وتأسر 5 منهم أبرزهم الرائد عمر إدريس الذي كان مصابا قبل ذلك. * وحول فرضية الوشاية بالراديو، يفنّد عمر صخري ذلك قطعا، لأنه لم يستعمل جهاز الاتصال خلال تلك الفترة، لأنه لا يوجد مع هؤلاء أي جهاز اتصال، ضف إلى ذلك حتى وإن كان هناك جهاز اتصال مع سردنا للمحطات التي قطعها العقيدان يستحيل على أي كان أن تحديد مكان تواجدهما. * أما عن الجانب الفرنسي، وحسب ما روي عن النقيب جان قرازياني، قائد الكتيبة الرابعة لفيلق المظليين والذي شارك في معركة جبل ثامر، يقول فيها: بلغتنا معلومات من الجزائر العاصمة تفيد بأن عميروش والحواس سيلتحقان بتونس وبأنهما سيسلكان مسلكا صعبا، ولم نكن نعلم سبب تنقلهما، هل إذا كان من تلقاء أنفسهما أو إثر استدعاء تلقياه من القيادة بتونس، ولتجنّب احتمال تعقّبهما اتجه العقيدان نحو الجنوب، وأثناء ذلك كانت الطائرات الاستطلاعية تحوم في مختلف المناطق المحتمل المرور بها في 23 مارس، وإثر معلومات أفادنا بها مواطنون من الولاية الثالثة، ومن بينهم مناضلون ومتعاطفون مع الحركة الوطنية المسلحة، أبلغونا بمرور جنود عميروش في عدة أماكن وقرى، وهو ما مكننا من الاشتباك معهم في منطقة زامبلا، حيث استشهد ما يقارب 100 جندي من الثالثة، وتم أسر البعض، وحين استنطاق الأسرى كشفوا لنا بأنهم من فريق الحماية لقادة كبار متجهين نحو تونس. * يومين بعدها تلقى العقيد دوكاس معلومات ثمينة فسخر لذلك 3 فيالق من الرماة، والخيالة، واللفيف الأجنبي بعد اجتماع لقيادة العمليات توجهت كل كتيبة إلى موقعها، ابتداء من الثانية صباحا ومع طلوع الفجر كانت المدرعات في الجهة الشمالية لجبل ثامر، بدأ المجاهدون في إطلاق النار، فردت عليهم المدفعية بعدة قذائف تلقيت أمرا من دوكاس لتطويق المكان، في الوقت الذي قامت فيه الكتيبة السادسة بالتوغل داخل الطوق... أما كتيبة الضابط قالي توجهت نحو الوسط، وكتيبة ماديبلا تلقت تعليمات بالتوجه نحو الجهة الشرقية، وكتيبة النقيب توجهت نحو الغرب كتيبة السينغالي ماديمبلا. المشكلة من اللفيف الأجنبي والأوربيين كانت تزحف على قمة الجبل، وتمكنت من أسر أحد الجنود الذي أقرّ لحظتها بأنه مسؤول الاتصالات لدى عميروش. تردد قائد الكتيبة في إخبار مسئوليه بالخبر، لأنه لم يصدق ذلك، ثم بعدها أبلغ دوكاس بواسطة الراديو إثرها صدرت أوامر للتجميع جميع حول جبل وتضييق الطوق، بعدها تمكنا من القضاء على جميع الجنود لتأتي مرحلة تحديد الهوية بالنسبة للجثث، إذ تمكنا من معرفة عميروش من خلال الوثائق التي وجدناها بحوزته، يضيف النقيب لم يصدق دوكاس وتوماس وجود عميروش، فاستقدما أحد أقارب عميروش للتأكد منه قبل إبلاغ السلطات بالعاصمة والإعلان رسميا عن استشهادهما. * قد يطرح القارئ سؤالا حول سبب تواجد العقيد دوكاس في المنطقة مع جيشه، وما هي طبيعة المعلومات الثمينة التي تلقاها دوكاس ليستدعي الفيالق الثلاث؟ * الإجابة على هذا السؤال تأتي في سياق الحديث عن المعركة في كتاب "ساعة العقداء" ل"ايف كوريار" حيث يقول: * وصل دوكاس إلى المنطقة يوم 20 مارس (أي قبل أن يغيّر عميروش اتجاهه وكان خلالها بالولاية الثالثة) واجتمع بعدها بالنقيب غالو - لفالي ضابط مخابرات بالكتيبة 584 المتمركزة ببرج الأغا، الذي أبلغه بأنه أعد مخططا 06 أو 07 عمليات يكون فيها مدعوما بفيلق المظليين الذي يقوده دوكاس، وأضاف بأنه أرسل مشروع هاته العمليات إلى ماسو منذ أسابيع، وبأن هذا المخطط صالح منذ شهر (أي منذ فيفري) وحول مصدر معلومات النقيب غالو أجاب بأن لديه عائلة من البدو تخبره عن تحركات الجيش ومتواجدة على بعد 20 كلم من برج الأغا، أخبرته بتحركات جيش التحرير، كما أضاف بأنه تم إلقاء القبض على ثلاثة من مموني جيش التحرير صرحوا بأن الحواس متواجد في ضواحي جبل ثامر، بعدها تلقى موافقة دوكاس على مغادرة عدد من الشاحنات من برج الأغا باتجاه الجلفة ومصابيحها مضاءة محدثة ضجيجا لتسمح لباقي الفرق بالتوجه إلى جبل ثامر في صمت تام والمصابيح مطفأة انطلاقا من عين الملح وكذا المدرعات وما إن بزغ فجر الثامن والعشرون مارس حتى كانت القوات متواجدة في تخوم جبل ثامر، ووقع الاشتباك، ولم يعرف قادة الجيش الفرنسي بتواجد العقيدين إلا بعد اندلاع المعركة. * وكان دوكاس بداية، حين جاء يوم 20 مارس، ينوي القيام بعملية في نواحي برج الأغا بين بوسعادة والجلفة، حسب إيف كوريار، وبرج الأغا موجود على بعد ما يقارب 40كلم من جبل ثامر، وبالتالي كانت نية دوكاس الهجوم على أحد الكتائب المتواجدة بالمنطقة سواء بمركز الزعفرانية، أو قرون الكبش، أو قلب العرعار، أو النسنيسة، كلها مراكز لتواجد جيش التحرير وقريبة نسبيا من برج الأغا. * ومن خلال نقل الشهادتين من الطرفين، يضاف إليها شهادة محمد الطاهر خليفة للشروق قبل اليوم، نلتمس عدة قواسم مشتركة بين الضابط الفرنسي وقادة جيش التحرير: * 1- التواجد الفرنسي المكثف لم يكن بهدف القضاء على الفقيدين ومن معهم بل بالأساس محاربة تواجد جيش التحرير بالسادسة. * 2- عامل الصدفة وانقضاء الأجل وراء استشهاد العقيدين ومن معهم. * 3- على فرضية أن أحد أسرى معركة زامبلا يوم 23 مارس، كما صرح قرازياني، أخبرهم بأن عميروش سينقل عبر الجنوب، فهل من المعقول أن يأتي دوكاس ومظليوه قبلها بثلاثة أيام، ولو كان هؤلاء الأسرى مصدر معلومته لجاء بعد 23 مارس. * 4- على فرضية الوشاية عن طريق الاتصال بشفرة مكشوفة عند العدو، لا أساس لها بشهادة الضباط الفرنسيين الذي لم يذكروا جهاز اتصال حين جرد غنائم المعركة، بل ذكروا الأموال والوثائق والأسلحة لا غير، ضف إلى ذلك شهادة ضباط السادسة المتواجدين ليلة رحيل العقيدين من قلب العرعار إلى جيل ثامر ومنهم خليفة محمد الطاهر. * اتهام بومدين وبوصوف بالوشاية، هاته التهمة ليست جديدة، فقد سبق للضابط محند اعراب بوسعود من الولاية الثالثة ثم الرابعة، أن كتب في كتابه: »سعداء، الشهداء الذين لم يروا شيئا"، جاء فيه بأنه حقق في قضية استشهاد العقيدين بوجدة واكتشف بأن ناصف عمار وبن اعراب رشيد، وهما تقنيا الراديو بمصلحة الاتصال بالمغرب، قد قاما باستعمال شفرة مكشوفة لدى العدو حين اتصالهما بعميروش وهو في طريقه الى تونس، واتهم بومدين وبوصوف صراحة بأنهما كانا وراء تصفية عميروش، لأنه كان يرفض تعيين بومدين قائد الأركان، وهو مبرر غير مقبول لأن قيادة الأركان العامة لم يتم استحداثها إلا بعد اجتماع المجلس الوطني للثورة، من 16 ديسمبر إلى 20 جانفي 1960 إقالة اللجنة العسكرية الثلاثية المعروفة بالباءات الثلاث، وحينها كان عميروش استشهد ب07 أشهر قبلها. * والاتهام الثاني جاء في كتاب بورقعة »شاهد على اغتيال الثورة" الذي ذكر في كتابه: أن امحمد بوقرة اغتيل بنفس الطريقة التي استشهد بها الشهيد عميروش والحواس... تلقى اتصالا من الخارج إلى الداخل على غير العادة وبواسطة أرقام مشفرة بمكان قد تم إلغاؤها بعد أن تمكن العدو من معرفتها وكان ذلك يوم 23 و24 أفريل 1959. * فإذا فرضنا بأن هذه الاتصالات حقيقة، فبومدين لم يكن في القيادة العامة لأنها لم تستحدث أصلا حينها، ضف إلى ذلك المسافة الزمنية بين 23 أفريل و5 ماي تاريخ استشهاد بوقرة (12 يوما) كفيلة بأن يتخذ بوقرة احتياطاته وبوقرة ليس بالقائد السهل الذي تنطلي عليه الوشاية إن كانت. * لكن القاسم المشترك من اعراب، وبورقعة، يضاف إليهما سعدي، هو معارضتهم لنظام بومدين وتعرضهم للمتابعة والسجن أثناء حكمه، ولذا فإن الخلفية السياسية تلقي بظلالها على هاته الشهادات. * واذا ما استقرأنا الأحداث التي سبقت استشهاد العقيد، نجد أن بومدين لم يكن في الواجهة أصلا ويمكن الرجوع إلى قرارات مؤتمر الطاهير التي يعتبر البعض بأن قرارته تعتبر انقلابا ضد الحكومة في تونس، ونجد بأن المتهم الأول بالتقاعس والمستهدف بهاته القرارات كريم الذي كان وزير الدفاع، وبدرجة أقل بوصوف وزير الأخبار. * إذا كان المطلوب دخولهما إلى الجزائر لأن الأول قطب الرحى بالنسبة للثورة وهو المعول عليه في تنسيق المواقف والبحث عن خطط جديدة، والثاني بوصوف لمواجهة الدعاية وإشاعات العدو. * ومما يؤكد تدهور العلاقة بين كريم وعميروش، المراسلات التي كانت بينهما ونقلها كافي في مذكراته، خاصة منها البرقيات المؤرخة في جانفي 1959. * ويؤكد هذا التشنج كاتب عميروش ذاته، حمو عميروش، في كتابه أكفادو، إذ يقول بأنه في مارس 1959 لما كان في مهمة بتونس، تلقى رسالة من عميروش كشف له بأنه قادم إلى تونس من أجل تصفية حسابات مع كريم بلقاسم. وأضاف في سياق آخر، بأن أحد الضباط من الولاية الثالثة سأل عميروش كما سيقبله في تونس، فكان رد عميروش عن طريق كفه الذي قلبه في إشارة إلى ضرورة الأوضاع.